• 20 شباط 2021
  • حكايات مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية

 

سبق وأن اشرنا في الحلقة الأولى، بعض المصطلحات التي وردت في حجة وقف السيدة المرحومة أمينة بنت بدر الخالدي التي جاء بصيغة التفخيم، مما توقف عدد من القرّاء على كلمتي "فخر المخدرات"، وطلب عدد كثير منهم، أن أبين معنى المصطلح المستخدم في حجة الوقف لتعميم المعرفة ونشرها، بما يضمن حُسن الاطلاع على تاريخ السلف الصالح.

مصدر كلمة المخدرات  مشتقة من خِدْرٌ، خًدْورٌ، أي جَلَسَتْ فِي خِدْرِهَا، وهو السِّتْر الَّذِي كَانَ يُقَامُ لِلْمَرْأَةِ قَدِيماً فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ البَيْت، فقالت العرب "خِدْرُ الأَسَدِ" : أي مَأْوَاهُ، عَرينُهُ، خِدارُهُ.

أما اصطلاحا: فكان يطلق على المرأة القيادية التي ترعرعت في دور السادة، فتبرز الشخصية للمرأة بتوافر ظرف التعليم الذي أصقل شخصية كل من لُقبت "بفخر المخدرات" نتيجة قدرة التحليل وسعة أفق التفكير، وقد استعمل هذا اللقب إبان الدولة العثمانية، للنساء ذوات المراكز المرموقة في المجتمع، لما يتمتعن به من قدوة وشرف وشجاعة في مجتمعهن، ضمن جوانب العفة والستر بعيدا عن الاختلاط.

من هذا المنطلق، وكمدخل لموضوع المقال، ورغم الحديث في الحلقة السابقة عن تخصيص الحلقة الثانية عن شروط الواقفة السيدة أمينة الخالدي في حجية وقفها، فيما يتعلق بالعقار الموقوف في منطقة خلة نوح الكائن في موقع الشيخ جراح من أراضي القدس، وجدت من الأهمية بزمان، أن أوضح للقارئ الكريم ابتداء وقبل الولوج في عمق المقال، إلى أن نعرف سبب اتجاه السيدة المذكورة في وقف ذلك العقار وتخصيصه لمنفعة محددة، ووجدت كذلك من أن نحدد الاعتبارات التي دفعت السيدة أمينة رحمها الله في ذلك.

مما يقتضي الاشارة في هذا المقام، إلى أن حبس المال والتصدق به لم يكن مقصورا على الرجال فقط، وانما كانت المنافسة في البِرِّ والتقرب لله تعالى على قدم وساق لمختلف أبناء المجتمع المقدسي إناثا وذكورا، ممن جاد الله عليهم بالرزق الوفير، وهذا ما أنبأت به سجلات المحكمة الشرعية إبان فترة الدولة العثمانية التي دامت على مدار أربعة قرون، الأمر الذي لا يمكن حصر الاوقاف الذرية والخيرية لنساء بيت المقدس في هذه المقالة، لأن السمة العامة منذ عهد الفترة المملوكية وصولا لنهاية عهد الدولة العثمانية، كانت تشير لواقع تًصدّق واحسان امهاتنا المقدسيات، بما قسم الله لهن من اموال منقولة وغير منقولة، حيث تبرعن وتصدقن بالأموال المنقولة والحِليّ والنقود، كما وحبسن عقاراتهن المملوكة لهن بإنشاء أوقاف خيرية وذُرية، وهذا واقع رصدته في سجلات المحكمة الشرعية، بما صدر عن أمهاتنا في وقف أموالهن غير المنقولة بين وقف ذُري ووقف خيري، بمقتضى الحجج الشرعية الثابتة في السجلات سالفة الذكر.

وبناء على ذلك، اتخذت من وقف السيدة أمينة الخالدي رحمها الله، نموذجا حيّا لواقع المقدسيات الرائدات في مجتمعهن، لنطلع على الإعتبارات التي حددت فيها نوع وقفها كوقف خيري، لأن تحديد الوقف فيما إذا كان ذُريا أم خيريا، كان يقوم على عدة اعتبارات للواقف، بحيث نستطيع استنباط الاعتبارات من صيغة الوقف وشروط الواقف، الأمر الذي جعل من تلك الشروط أساس بُنيوي في ربط الوقف كنظام تشريعي عملي بين مقاصد الواقف وبين ضوابط الشريعة الإسلامية العامة، نزولا عند إرادته، فالمقاصد والغاية من إنشاء الوقف حتما كانت تهدف إلى ما كان ينشده الواقفة بتحقيق شروطه، وإلا ما كانت تلك الشروط المسجلة في حجج الوقفيات، سببا في نشوء الأوقاف الخيرية والذُرية في القدس الشريف بالكم والحجم الهائلين.

ومن هنا أوكد بأن شرط الواقف كنص الشارع، وهو محل تطبيق وتنفيذ لا تبديل ولا تعديل في الشروط أو محل الوقف، إلا ضمن ضوابط ضيقة لا تتم إلا بأمر الحاكم تحقيقا لمصلحة الوقف، وضمانا في بقائه إلى يوم الدين.

لذلك، ولما كانت الشروط قد حُصرت في حجية وقف المرحومة أمينة الخالدي، التي كتبها ودققها كاتب المحكمة بإجازة من القاضي الشرعي وهو ما كان يطلق عليه "الحاكم" وقتئذ، بما اقتصر على الحاكم من دور شرعي في أن يتمحص ويتفحص بتلك الشروط، ضمن ضوابط الشرع الحنيف، وبما لا يؤدي إلى حجب حق الورثة في أن ينالوا حقهم الشرعي من الميراث، فتعتبر شروط الواقفة حكما من مقررات الاحكام الشرعية التي يجب العمل بموجبها، للحفاظ على جوهر ومضون حجة الوقف، تحقيقا للمصلحة العامة التي أصبحت ملك المجتمع، في اطار القيد الذي قيدته الواقفة في متن حجة الوقف، التي يجب أن تُؤدى بكل أمانة واخلاص من خلال المؤتمن " المتولي" على تنفيذ شروطها،  أو الادارة العامة التابعة لوزارة الأوقاف من خلال ناظر الوقف، لأن تنفيذ شروط الوقف هو عين الأداء للأمانة.

وعليه، فإذا كان الوقف الخيري الذي قصدته السيدة أمينة الخالدي من خلال حجة وقفها – التي سنقف على صيغتها وشروطها في الحلقة القادمة بعون الله – يعني  ويهدف إلى توظيف انتفاع العقار الموقوف لتنميته في سبيل مساعدة الفقراء والمحتاجين، فضلا عن خدمة ابناء مجتمعها بتخصيص  وتشييد مرفق صحي، ليكون ذلك التخصيص واجب الاستغلال والانتفاع به على النحو المفصل في شروطها، بما يخدم الناس في مجتمعها.

وبالتالي ما دأبت وثابرت عليه السيدة أمينة الخالدي في موقفها من صلابة ومواظبة، بدوام تخصيص جزء من العقارات الموقوفة، ليكون ضمن مفهوم المرفق الصحي، ينم بصورة واضحة وجلية على أن الافق الواسع الذي تمتعت به، وما اكتسبته من خبرات في مجال حياتها، جعل الحافز والدافع على وقف جزء من أموالها غير المنقولة ضمن الوقف الخيري، لصيق بالصفة التي نعتها بها الحاكم الشرعي "بفخر المخدرات"، بالنظر إلى قدرها الاجتماعي الذي تمتعت به، وهو الأساس الذي رمت إليه في توجهها للوقف الخيري دون الوقف الذُري، بالنظر إلى عمق الشعور وقمة الاحساس بالآخرين، بما يضمن مساعدة مجتمعها تخليدا لذكراها.

وبناء على ما تقدم، في الحلقة القادمة بمشيئة الله، سنخصص في سياق الحديث عن صيغة وقف السيدة أمينة وشروطها والجهة المسؤولة عن تنفيذ شرطها، اعمالا للقاعدة الفقهية المعروفة ( شرط الواقف كنص الشارع)، ومقصودها أن شرط الواقف يعامل معاملة نص الشارع من وجوب العمل به، وعدم جواز مخالفته وفي طريقة فهم المراد منه.

وللحديث بقية  إن شاء الله في الحلقة الثالثة.......