• 11 آذار 2021
  • حكايات مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية

 

لقد تأخرت في نشر الحلقة الثالثة،  بهدف أستغلال الذكرى العطرة لواقعة الإسراء والمعراج، من أجل تقديم التهاني في هذه الذكرى للأحياء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولأستذكر السلف الصالح بحسن الدعاء ولوالدينا الذين كانوا سبب وجودنا بقدر الله وقضائه، فكل عام وأنتم لله أقرب.

قبل الخوض في مقومات هذه الحلقة، يتعين عليّ أن أشير بأن موضوع المقالة لهذه الحلقة، هو من صميم اهداف وغايات جمعية المحافظة على الوقف والتراث المقدسي "وقفنا"، وبما أنني عضو في الهيئة الإدارية لتلك الجمعية، التي تهدف للمحافظة على وقف الاجداد في القدس الشريف، فقد تقرر تخصيص زاوية على صفحة وقفنا لتبيان واقع أوقاف الأجداد ضمن عنوان وقف الاجداد بين المعضلة والحل، لتنوير درب المتسحقين في الوقف الذري والوقف الخيري في القدس الشريف، بما يخدم مصلحة العموم من المستحقين والمستفيدين من تلك الاوقاف، بحيث ستكون حلقات متنوعة لأوقاف عائلات اخرى تجابه الصعاب والتحديات على شاكلة موضوع هذه الحلقة، لتقديم النص العام باتباع منهاج قويم وبأقصر الطرق القانونية المتاحة في سبيل إعادة عجلة الوقف وتنميتها بأفضل الطرق العلمية والاقتصادية في ظل التحديات التي تواجهها المدينة المقدسة وأهلها، لا سيما وأن هناك مئات من الاوقاف الذرية والخيرية التي أوقفها اصحابها قبل عقدة قرون، تحتوي على شروط  تخص الواقف والمستحقين على حد سواء، وللأسف معظم تلك الشروط غير مطبقة على أرض الواقع، تعود لأسباب متعددة بعضها يتعلق بالمتولي والبعض الآخر يتعلق بسبب غياب الرقابة الحقيقية الفاعلة من الجهة المختصة بعملية المراقبة، والقليل من تلك الاسباب تعود لأسباب خارجة عن ارادة من ذُكر.

وبالتالي اعادة تفعيل الشروط الواردة في كتب الوقفيات، حتما هدفها اعادة المنارة لمكانها الصحيح لتنير القلوب والعقول، في ظل التحديات التي تواجهها المدينة المقدسة، لتكون المنارة خفاقة لا تنطفئ ودليلا حيا على أن القدس عربية واسلامية منذ قرون، هذه المدينة التي باركها الله وبارك حولها، بقرار إلهي حفظ في اللوح المحفوظ، تصديقا لقوله تعالى في محكم التنزيل في الآية 1 من سورة الإسراء:" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".

وعليه ابدء هذه الحلقة من نهاية ما ورد في الحلقة السابقة، وبما يعزز ويؤكد على ما ورد اعلاه، إذ أن المراد بشروط الواقف هي ما يدونه الواقف في كتاب الوقف أو حجة الوقف، بإملاء الواقف واختياره ومحض إرادته فيما يتعلق  بالإنتفاع بالوقف والتولية عليه، وما يتصل بذلك ويتفرع عنه.

وبناء على ذلك، عرف الفقه حجة الوقف بأنها: "عبارة عن شروط يمليها كل واقف في كتاب وقفه بمحض إرادته مُعبرا به عن رغباته في الكيفية التي ينبغي تحققها في إدارة وقفه، أو في طرق استغلاله، أو عمارته، أو توزيع ريعه... إلى غير ذلك مما يبين ويفصح عن  إرادته".

مما يستفاد من ذلك أن شروط الواقف هي الشروط الجعلية التي يقيد بها الواقفون أوقافهم فيما يتعلق بتحديد العين الموقوفة والموقوف عليهم، وكيفية استغلالهم للوقف، وطرق التصرف فيه وشؤون التولية ما لها وما عليها، وكيفية عمارة الوقف، إذ تعتبر تلك الشروط شروطا شرعية صحيحة بإجماع الفقهاء مستمدة من الكتاب والسنة، الامر الذي يتعين الوفاء بها، تنفيذا لقوله تعالى في عدد من الآيات الكريمة في محكم التنزيل منها في الآية 1 من سورة المائدة :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ " التي تؤسس تلك الآية على تحريم الغدر نتيجة عدم الوفاء بالعهد، باعتبار العهد والعمل به من صفات عباد الرحمن:" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون".

لذلك تُنبأ تلك الآيات على أوجه الدلالات بوجوب الوفاء بالعهود على وجه العموم، بحيث لم تفرق بين عقد وآخر، منوها في هذا المقام على أن هناك آيات قرآنية تمدح المحافظين على العهد، وتنعى على الناقضين لها على وجه الإطلاق والعموم تصديقا لقوله تعالى في الآيتين 2 و3 من سورة الصف:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ  كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ" .

وعليه، فقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية: بأن شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العمل به، وجعله كفرا إن خالف الكتاب والسنة، كما قال رحمه الله :" الإثم مرفوع عمن أبطل شرطا من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحا، وما كان فيه جنف أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع، و كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، فكتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمستحق المكلف مصلحة مشروعة.....

من هذا المنطلق، أجد بعض الدلالات على ما ورد في حجتي وقفية المرحومة أمينة الخالدي، من حيث محل الوقف والشروط التي حددتها وجهة التولية وكيفية عمارة وتنمية الوقف والتصرف فيه، صحيحة من الناحية الشرعية، وتنزل منزلة احكام الشارع الإسلامي على وقائع حجية الوقف، مما يؤكد بناء على واقع تلك الحجتين، على أنه هناك معضلة من الأساس تحتاج للحل بسواعد فنية متخصصة وقانونية لتحقيق الصالح العام.

جاء في كتاب حجتي وقفها المنظمتين أصولا بتاريخ 14/4/1942 و 17/7/1942 بأنها أوقف جميع العقارات التي ورد وصفها وحدودها في الحجية، بعد أن ثبت للقاضي الشرعي من خلال دائرة الطابو أن رقبة تلك العقارات هي ملك ولا مانع من وقفها، وأنه بناء على طلب المومى إليها ، فقد خصصت العقارات المملوكة لها سواء فيما إذا كانت تملكها على الشيوع أو كاملة لتكون موقوفة على ما سيكون من مشفى اسلامي خيري ومستوصف موافقا لشروط التنظيم والصحة، وعلى أن يُعد فيه غرفة للصلاة ولأداء صلاة الجنازة  على من يموت من المسلمين ولإقامة الصلاة به، وعلى أن يقدم من ريع الوقف ما يلزم من ماء والوضوء والغسل والفرش والتنوير، وعلى أن يعالج في هذا المستشفى من يكون اكثر احتياجا من مرضى المسلمين مجانا ويرجح القاطنون في القدس، وللمتولين الحق بتقرير معالجة من يريدون معالجته مقابل اجرة مهما كانت ملة المريض، بشرط ألا يتعارض ذلك مع الغرض المقصود وهو معالجة فقراء المسلمين.

واستنادا للواقع المذكور اعلاه، لا سيما أن عدد العقارات التي تم وقفها في سبيل اتمام وتنفيذ المشروع تزيد عن عشرين عقارا فُصلت الحدود والاوصاف في حجتي الوقف، وبما أن المقام لا يتسع لسردها، ولمن اراد أن يطلع على حجتي الوقف، فله أن يتوجه للمكتبة الخالية التي تقع في باب السلسلة في القدس الشريف، أو أن يراجع السجل الشرعي رقم 476  ص 89-99 ومن ص 110 -116.

ولما كانت غاية السيدة أمينة الخالدي قد تحققت بشراء أرض خلة نوح في منطقة الشيخ جراح في القدس الشريف، لإقامة المستشفى والمستوصف وقفا صحيحا شرعيا أبد الأبدين ودهر الداهرين لينتفع به فقراء المسلمين ، كما وأوقفت المنقولات من مصاغ وأموال وكتب خدمة للوقف الخيري المذكور، وفق ما هو مفصل في حجة الوقف الثانية، إلا أنه وللأسف لم يتم تنفيذ المشروع حتى اللحظة لأسباب غير معلومة، يحتاج هذا الوضع للتحقيق فيه بصورة مستفيضة لتعلن النتائج للعلن، كون المشروع الخيري للسيدة أمينة يتعلق بمصلحة عموم أهل القدس وعموم الناس من خارجها، ويتعلق كذلك بحق غير المسلمين فأصبح مشروعها الخيري ضمن المصلحة العامة التي هي ملك لجميع الناس.

وبناء على ما تقدم، فإن النتيجة التي توصلت إليها بعد قراءة متأنية لواقع حجتي الوقف المليئة بالشروط والاحكام، تتصل بما ينسجم انسجاما مطلقا مع نص الشارع، الامر الذي  يستدعي طرح الأسئلة الجوهرية  في هذا المقام، لنصل إلى نتيجة الحل.

هل هيئة التولية الأولى قد نفذت جميع شروط الواقفة في حجتي الوقف بجميع ما اشتملته من شروط تخص الواقفة وكذلك ما يتعلق بالمشروع الخيري الضخم، وهل أعدت التقارير اللازمة وقدمتها بصورة دورية لتعرض على القاضي الشرعي، وهل تم اجراء محاسبة شرعية على تلك التقارير، وهل صدرت تعليمات وتوجيهات من القاضي الشرعي لهيئة المتولين، وهل تم تقييم واقع قيمة جميع العقارات والاموال المنقولة وربطها بالجدوى الاقتصادي لتكلفة المشروع، وهل ريع العقارات الموقوفة تسدد قيمة المشروع الخيري، وهل تبين وجود تقصير من هيئة المتولين وتم محاسبتهم، وهل تم تحديد نسبة التنفيذ لمشروع إرادة الواقفة؟

 إن الإجابة على جميع الاسئلة سالفة الذكر، وما قد يترتب عليها من أسئلة فرعية، بحكم المؤكد يستدعي إلى تشكيل هيئة فنية متخصصة وقانونية لدراسة الاسباب التي حالت دون تنفيذ المشروع الخيري لوقف السيدة أمينة الخالدي، والبحث في اسباب عدم احترام وتنفيذ شروط الواقفة بحذافيرها، والبحث كذلك في اسباب عدم مراقبة القاضي الشرعي على هيئة المتولين المعينين منذ عام 1942، وخصوصا أن احد المتولين كان يسكن في غزة، والبحث في عدم اتخاذ القاضي الشرعي وقتئذ قرارا بعزله وتعيين متولي ثالث ليقوم بواجبه على أتم وجه، كما ويقتضي البحث والتحقيق فيما إذا كان مضمون الوقف الخيري المحدد بالمشفى والمستوصف صعب التحقيق، وفيما إذا وضعت  خطة بديلة ضمن مفهوم الوقف الخيري، وبما للقاضي الشرعي من صلاحية تحويل و/أو تعديل غاية الوقف بعمل مشروع يصب في الصالح العام لفقراء المسلمين على أرض الوقف الخيري في خلة نوح في منطقة الشيخ جراح، رغم أن المنطقة المحيطة بخلة نوح تزخر بالمشفيات المتخصصة، كمشفى العيون والمشفى الفرنساوي ومشفى هداسا التلة الفرنسية.

 وعلى ضوء ذلك، تكمن المعضلة وقد حُددت العلة، فهل بمرور الزمن منذ عام 1942 حتى اللحظة بما يناهز ويجاوز عن الثمانين عاما على إنشاء الوقف الخيري للمرحومة أمينة الخالدي، وعدم تحقيق الغاية الذي من أجله أُوقفت مجموعة ضخمة من العقارات والأموال المنقولة لمصلحة فقراء المسلمين، يؤدي لوأد المشروع، أم يستدعي اعادة احيائه من خلال ابناء عائلة الخالدي للعمل بشروط الواقفة من جديد، وتعيين هيئة متولين تطبيقا لقوله تعالى" إن العهد كان مسؤولا؟؟ وبمراقبة جدية وحثيثة من فضيلة القاضي الشرعي ليكون الوقف الخيري تحت سمعه وبصره.