• 1 شباط 2023
  • حكايات مقدسية

 

 

 بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الصلحُ جائزٌ بين المسلمين، إلا صُلحاً حرم حلالاً، أو أحلَّ حراماً، والمسلمين على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً، أو حل حراماً)

قال تعالى: “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” البقرة:188.

حلف الفضول هو أحد أحلاف الجاهلية الأربعة التي شهدتها قريش، وقد عُقد الحِلف في دار عبد الله بن جدعان التيمي القرشي أحد سادات قريش وذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة، في شهر ذي القعدة سنة 590 م بعد شهر من انتهاء حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان. توافق عليه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته). 

وقد شهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هذا الحلف قبل بعثته وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقًا:

 «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحُب أن لي به حُمر النٍعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»

كانتِ العربُ تَتخلَّقُ ببعضٍ مِن محاسنِ الأخلاقِ بما بقِيَ عندهم مِن شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولكنْ كانوا قد ضلُّوا بالكُفرِ عن كثيرٍ منها فبُعِثَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُتمِّمَ محاسنَ الأخلاقِ، كما يُؤكِّدُ هذا الحديثُ؛ حيث يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّما بُعِثْتُ" لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ"، أي: الأخلاقَ الحَسنةَ والأفعالَ المُستحسَنةَ الَّتي جبَلَ اللهُ عليها عِبادَه؛ مِن الوفاءِ والمُروءةِ، والحياءِ والعِفَّةِ، فيَجعَلُ حَسَنَها أحسَنَ، ويُضيِّقُ على سيِّئِها ويَمنَعُه.

يقول الطبري: وأوفوا بالعقود في البيوت والإجارات والصلح وغيرها “إن العهد كان مسؤولا” أي مطلوباً يسأل ناقض العهد عنه. فالعطوةُ عهدٌ وميثاق، ملزمة لطرفي النزاع، ولا يجوز نقضها، وهي جائزة شرعاً؛ لأنها من الأمور التي تساعد على الصلح. ولكن ثمة ملاحظة، وهي أن أي شرط تتضمنهُ العطوة مخالفٌ لكتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم، مثل العطوة الصافية مقطوعة المصالح باطلة شرعاً.

ما أحوجنا اليوم وقد وردت مادة الصلح والإصلاح في القرآن أكثر من مائة وثمانين مرة، مما يدل على مكانتها، وأن حياة الناس لا تستقيم إلا في ظلالها. وهذه الآيات الكثيرة أمرت بالصلح، وأثنت على الإصلاح، ودعت إلى المبادرة إليها، وإحاطتها بما يكفل بقاءهما، ويضمن استمرارهما، ويحقق غايتهما ليدخل المجتمع كله في السلم كافة والسلام أجمع. فما أحوجنا إلى تحويل (الصلح والإصلاح) إلى ثقافة تسود كل جوانب حياتنا، ولا تنمحي من ذاكرة أجيالنا فلا تضعف، ولا تهون لئلا يستولي العنف والتفرق والتمزق على عقل الأمة وذاكرتها فيدمر حاضرها، ويجهض مستقبلها. أليس لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قدوة صالحة، وأسوة مصلحة...

فالعادات العشائريّة لعبت دوراً كبيراً وإنجازاً كبيراً في حقن الدماء في حال حصول جريمة قتل، أو تكون قد أنجزت عملاً عظيماً عندما تتوصل في النهاية إلى حل مشكلة مستعصية على كافة الأطراف.

المجتمع المقدسي أضحى كبحر لجي من المشكلات والأزمات. مشكلاته كثيرة، ومتعددة، ومعقدة. مشكلاته كأمواج متلاطمة تتقاذفه من كل جانب. فهو يعاني من مشكلات مزمنة سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وصحية، وتعليمية، وثقافية، وقانونية، وصناعية، وزراعية...إلخ. 

حين تبحث عن أسباب هذه المشكلات تجد الغالبية يعلقها على شماعة «الاحتلال الإسرائيلي»، ويعتبره سببًا رئيسيًا في افتعالها وتضخيمها، ويعفي الأطراف المحلية من المسؤولية. وفي ذلك خطأ في التعامل مع مشكلات المجتمع، والبحث عن سبل حلها. كما أنه يسهم في تزييف وعي الناس حول حقيقة الواقع الاجتماعي. لا شك أن «الاحتلال الإسرائيلي»، باعتباره أخبث وأسوأ أنواع الاحتلال على مدار التاريخ، فهو «إحلالي ـ استيطاني»، له باع طويل في افتعال المشكلات والأزمات، لكنه ليس دائمًا هو السبب الرئيسي فيها، فهناك مشكلات مجتمعية محلية بحتة لا دخل للاحتلال فيها، أو يكون دوروه فيها ثانويًا.

الخطأ جبلة بشرية فطرها المولى عز وجل، فهو أمر طبيعي يقع فيه كل بني البشر، ولكن العيب كل العيب ألا يعترف أحدنا بخطئه أو يتهرب من فشله ويعلقه على شماعة ما جاهزة عنده، إما على الآخرين أو على الظروف أو على الحظ أو على الزمن أو غير ذلك، في مسعى منه لتبرئة نفسه من الانتقاد أو اللوم، أو ليصرف أنظار الناس عن عيوبه وعلاته وذلك بإسقاطها عليهم أو على أحدهم كما قال الشافعي رحمه الله تعالى:

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا

نجد على سبيل المثال العطــــوة العشـــــائريـــــة درب من دروب الإصلاح وحقن الدماء في ظروف أضحت السمة الظاهرة في المجتمع المقدسي وهنا قامات عالية جُل همهم أن يسود الأمن والسلام في مدينتنا   المقدسة 

العطوة هي الهدنة الأمنية التي يعطيها المعتدى عليه أو ذويه إلى المعتدي أو ذويه وتكون عبارة عن مهلة زمنية ليتسنى لهم ترتيب أوضاعهم والابتعاد عن منطقة ارتكاب الجريمة، وتعتبر العطوة من العادات والأعراف المجتمعية

"العطوة" وجمعها "عطاوي" كلمة مشتقة من الفعل أعطى ومصدرها العطاء، والعطاء هو الخطوة الأولى لدرء الفتنة وحل المشكلة بين طرفين، وتعرف العطوة بأنها الفترة التي تعطى من قبل أهل المجني عليه لأهل الجاني بعد حدوث الجناية. إذ يقوم طرف ثالث من أهل الجاه والوجه بالتدخل كخطوة أولى لحلّ الأزمة لتُلزم هذه "العطوة" الطرفين عدم الاعتداء، وتتراوح مدة "العطوة" بين أسابيع وأشهر حتى تصل إلى سنة كاملة في القتل الخطأ أو القتل العمد، وتبرز في حوادث القتل والشرف غالباً أنها خطوة سابقة وضرورية لإخماد النار قبل انتشارها 

العادات العربية الأصيلة العشائرية والتي صارت بمكانة العادة والعُرف. فالعادات العربية من مكارم الأخلاق لأنّها تؤدي إلى الصلح وتعيد الأمور إلى مجاريها. فالجيل الجديد لا يعرف عن هذه العادات العربية العشائرية التي تقرّب وجهات النظر بين المتخاصمين في كثير من القضايا كما أنّ هذا الجيل لن يعيش إلى الأبد فلا بد من أن يستلم الجيلُ الجديد الراية من الآباء ليقوموا بالواجب الملقى على عاتقهم.

وفي النهاية يتم التوصل إلى وجهات نظر ترضي الطرفين، ويتم كتابة صك الصلح، وتشرب القهوة العربية دليلاً على الصلح. ثمّ يستأذن كفيل الدفاء أهل المغدور بإحضار أهل المعتدي أي الجاني ليتم السلام والمصافحة.

المراجع

الصُّلْحٌ جائزٌ بَيْنَ المُسلِمينَ، إلَّا صُلْحًا حرَّم حلالًا، أو أحَلَّ حرامًا.    

 الراوي : عمرو بن عوف المزني المصدر : التعليقات الرضية | الصفحة أو الرقم : 177/3 | خلاصة حكم المحدث : حسن لشواهده | التخريج : أخرجه الترمذي (1352) مطولاً، وابن ماجه (2353) واللفظ له.

البقرة:188.

إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ الراوي : المحدث : الزرقاني | المصدر : مختصر المقاصد الصفحة أو الرقم : 184 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

شهدتُ حلفَ المُطَيَّبين وأنا غلامٌ معَ عمومتي فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ وأني أَنكُثُهزاد يعقوبُ في حديثِه عنِ ابنِ عُلَيَّةَ ، قال : وقال الزُّهْريُّ : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : لم يُصِبِ الإسلامُ حِلْفًا إلا زاده شِدَّةً ، قال : ولا حِلْفَ في الإسلامِ ، قال : وقد ألَّف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بينَ قريشٍ والأنصارِ

الراوي: عبدالرحمن بن عوف | المحدث: ابن جرير الطبري | المصدر: تفسير الطبري | الصفحة أو الرقم: 4/1/77 | خلاصة حكم المحدث  صحيح

كتاب نظرية العفو مصطفى محمد جبري شمس الدين. في العبادة،  

كتاب الصلح في القضاء الإسلامي لحل المنازعات المدنية والجنائية دراسة فقهية، للدكتور إسماعيل كاظم العيساوي.

كتاب دية النفس في الشرع الإسلامي والعرف القبلي، إعداد الباحث شادي سالم الكفارنة- إشراف نعيم سماره المصري أستاذ الفقه المقارن.

شماعة الاحتلال. الكاتب بسام محمد

أبو فضّة، محمد سمور: عجور أرض الأجداد، مطبعة البيت العربي، ط1، 1985،

كتاب الفقه الإسلامي وأدلته  للمؤلف وهبة الزحيلي.

الكاتبة ليلى غليون

إصدارات هيئة أشراف بيت المقدس