• 29 آذار 2023
  • حكايات مقدسية

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام

 

يحرص المقدسيون في شهر رمضان على إحياء صلة الرحم بين العائلة المقدسية  خاصة زيارة الآباء لبناتهن  وأخواتهن المتزوجات، وحمل الهدايا والحلويات لهن  وأيضا العزائم للإفطار بين العائلات المقدسية نحلق في سماء القدس في رمضان، نسير في أزقة البلدة القديمة عبر طريق باب حطة نحو المسجد الأقصى نشتم رائحة القطايف من بين جنبات أسواقها، ونرتوي من ينابيع أصالتها بشراب الخروب والسوس في حارة السعدية  أما أضواء الزينة هلال هنا ونجوم هناك ألوان بهية تلون ليلها الروحي اللطيف ومن سماء الأقصى ترتفع الأكف وتلهج وترتقي الصلوات مقرونة بالدعاء بالفرج للأسرى والشفاء للمرضى و لكل مقدسي له حاجة هنا باب السماء نعم، إنها القدس، بوابة الأرض إلى السماء، كما أنها بوّابة السماء إلى الأرض. لقد حظيت هذه المدينة المباركة المقدسة بالحظ الأوفى والأوفر في معجزة الاسراء والمعراج إليها كان الإسراء، ومنها كان المعراج؛ فالرباط العقدي يتمثّل بالإسراء، والرباط التعبدي لكون القدس القبلة الأولى، وأن مكة المكرمة قبلة المسلمين الثانية والأخيرة الثابتة، وأنّ شد الرحال بقصد التعبّد يكون إلى المساجد الثلاثة: 

"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى". 

تميزت مدينة القدس في شهر رمضان عن غيرها بالمسجد الأقصى المبارك وهو آية من القرآن الكريم، وأولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد اليها الرحال ومسرى ومعراج النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرص المقدسيون على أداء معظم صلواتهم وتعبدهم برحابه الطاهرة، لا سيما بأيام الشهر الفضيل. فالأقصى في رمضان، يزهو بالمصلين ويرحب بالصائمين من كافة أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة أما العادات والتقاليد الموروثة والخاصة التي ترافق شهر رمضان المبارك في كل عام بمدينة القدس المحتلة، يحرص أهل المدينة على اتباعها بتفاصيلها ولعلّ أهمّ ما تهدف إليه هذه الطقوس هو التأكيد على هوية المدينة وسكانها رغم كل محاولات الاحتلال الخبيثة والبغيضة لتهويدها. ورغم مناكفة الاحتلال ومحاولة تعكير صفو الأجواء الرمضانية وإزالة الرايات ومظاهر الزينة من طرقات البلدة القديمة ناهيك عن جنود الاحتلال المتربصين على أبواب المسجد

وفي طريق الواد صوت الأذان في المسجد الأقصى يرتفع عاليا يعلن إسلاميتها وعروبتها ويدعو رواده، إلى حيث الطمأنينة والسكينة،

 أما أسواقها الصاخبة فتسمع أصوات البائعين فواكه وخضار، حلويات وموالح، ألعاب وهدايا، تجذب المتسوقين كل يروج لبضاعته ويتهافت عليها المشترون لإعداد موائد الإفطار المميزة في هذا الشهر الفضيل 

وفيها المدفع الأثري الذي يعلن انتهاء يوم الصيام كما أنها تتميز ببعض العادات الاجتماعية المتوارثة جيلا عن جيل ويقع المدفع في مقبرة المجاهدين بباب الساهرة الإسلامية بشارع صلاح الدين وسط القدس وقرب أسوارها التاريخية، وتوارثت عائلة "صندوقة" المقدسية "شرف" الاشراف على ضرب المدفع أباً عن جد منذ عشرات السنين. ومسحراتي يتطوّع لإيقاظ السكان للسحور وأداء صلاة الفجر، مزواجا بين الضرب على الطبل وترديد عبارات من قبيل “يا نايم وحّد الدايم”، وقوموا على سحوركم أجا رمضان يزوركم” وبدءا من ليلة القدر، يبدأ المسحراتي في جمع “العيديات” من أهالي المدينة تعبيرا منهم عن الشكر والامتنان لما أسداه لهم من خدمات   

ومن الأشياء المميزة في القدس لا سيما في رمضان الشوربة الساخنة المقدمة من تكية "خاصكي سلطان" العاملة منذ مئات السنين، حيث يزداد عدد الوافدين إليها من الصائمين، من فقراء وأغنياء وغيرهم للحصول عليها والتكية التي تقع بين شارع الواد وخان الزيت تقدم وجباتها الساخنة يوميا خلال رمضان وغيره، رغم ما تعانيه من قلة الموارد المالية حيث تعتمد على المحسنين والميسورين 

ومن أهم العادات الرمضانية الإفطار الجماعي للعائلة، حيث يلتقي الآباء والأبناء والأحفاد كل يوم عند أحد الأبناء، الأمر الذي يزيد من اللحمة والنسيج الأسري والاجتماعي، كما تمتد الأيدي الرحيمة لتمسح دموع الأيتام وترعى أسر الشهداء والأسرى وتقوم جماعات من الناس بعيادة المرضى في المشافي وتقديم هدايا رمزية، وتزداد صلة الأرحام، كما تنتشر الولائم والإفطارات الجماعية في المساجد

وتحرص الكثير من العائلات المقدسية على قضاء معظم أوقاتها برحاب المسجد الأقصى للتعبد بالصلاة وتلاوة القرآن والاستماع الى الدروس الدينية، والمشاركة في الأعمال التطوعية، وتناول افطاراتهم الرمضانية من صنع ربّات بيوتهم في مسجدهم المبارك، حتى أن عدداً من العائلات المقدسية شرعت في رمضان الحالي على تنظيم ولائمها في ساحات ومرافق الأقصى المبارك.

  الولائم، عادة تسيطر على العلاقات الاجتماعية في رمضان، إذ لا بد أن تجتمع العائلات والأقارب والأصدقاء على مائدة واحدة وقت الإفطار، كواجب اجتماعي وتقليد لا مفرّ من آدائه، لكن الإسراف على الموائد تبقى قضية خلافية بين إكرام الصائمين وإرهاق ربّ الأسرة، ان العزائم بقدر أهميتها وفرض عاداتنا وتقاليدنا لهذا الامر، إلا أنها تعد مصدر إرهاق من ناحية مادية، وأصبحت مجال للفخر والتفاخر بين البعض لمن يصنع أفضل وجبة فطور أو يعد أطول مائدة. إلى أنه بات يحسب لشهر رمضان من الناحية المادية، حيث يقوم بدعوة أهله لوليمة في منزله، لكنه يؤكد أن فرحته بتجمع عائلته تزيل عنه شبح الوضع الاقتصادي الصعب. الولائم الرمضانية وتجمعات العائلة والأصدقاء على الإفطار أو السحور خلال الشهر الكريم هي ما يبقى في الذاكرة كلما استعدنا اللحظات الحميمة التي مررنا بها في الحياة. لكن تكلفة صناعة تلك الذكريات صارت أكبر من إمكانات غالبية العائلات المقدسية بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة. وهكذا، صارت العادة الرمضانية الثابتة في معظم البيوت العربية أكبر من قدرة أي عائلة على تحمّلها. وإلى جانب العبء المادي، بات الجهد الذي تستلزمه كل وليمة يفوق طاقة سيدة المنزل، لا سيما بعد نهار طويل من الجوع والعطش.

ويطغى الطابع المقدسي على معظم عناصر المشهد في المدينة المباركة وتقف الآلاف من عناصر قوات وشرطة الاحتلال عاجزة في محاولاتها للانتقاص من المشهد أو أن تنال من بريقه، وتبدو مدينة القدس ومسجدها الأقصى في الشهر الفضيل وكأنهما قد تحررا من قيْد الأسر والاحتلال، ويعيش الأقصى أحلى وأزهى أيام السنة باحتضانه الآلاف من أبنائه في كافة جنباته. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا

همسة عتاب تهادوا تحابوا

"الهدية" سنة نبوية وهي عنوان للمحبة وتعبير عن الشكر والامتنان. وتختلف نوعية الهدية التي تقدم لأصحاب الدعوة في هذا الشهر عن أي مناسبة أخرى حيث يكون لها علاقة بشهر رمضان. وأقلها ابتسامة نرسمها على الشفاه 

المراجع

 "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى". متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.