• 3 آذار 2013
  • أقلام مقدسية

تحاول هذه المقالة تسليط الضوء على الأوضاع التي آلت إليها العلاقة بين العرب الأرثوذكس في فلسطين والأردن والرئاسة الروحية اليونانية، التي تسيطر على مقدرات البطريركية الأرثوذكسية المقدسية، وما يعكسه ذلك من تحديات للوجود العربي المسيحي الأرثوذكسي في فلسطين، وخاصة في مدينة القدس العاصمة الأبدية للدولة الفلسطينية العتيدة، حيث تفاقمت حدة الخلاف منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعدما انعقد المؤتمر العربي الأرثوذكسي بالقدس عام 1992 رداً على قيام الرئاسة الروحية للبطريركية بعقد صفقات تتعلق بأملاك الكنيسة الأرثوذكسية التي يعتبرها أبناء الطائفة إرثاً وطنياً لا يجوز التفريط به، ولا سيما أن قضية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي تدور في جزء مهم منها حول الأرض والوجود والبقاء عليها في مواجهة مشروع التهويد والاستيطان الإسرائيلي.
يجري ذلك في ظل تنامي الشعور لدى أبناء الطائفة العربية الأرثوذكسية بضرورة البحث عن الهوية الوطنية لكنيستهم، وإبرازها أمام محاولات تلك الرئاسة الروحية التي تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية إرثاً يونانياً، وتدعي أن المسيحيين العرب قد ارتبط وجودهم التاريخي في الأراضي المقدسة مع قدوم اسكندر المقدوني، وكذلك في ظل تمسك العرب الأرثوذكس بتاريخهم القومي والوطني، كونهم جزءاً أصيلاً من مكونات المشرق العربي وحضارته الإسلامية التي نعيش في كنفها اليوم، وإصرارهم على رفض التسلط والتحكم بمقدرات كنيستهم العربية الأرثوذكسية التي تكرست جراء تداعيات ارتباطات سياسية للإمبراطورية العثمانية في حينه، والتي جاءت بالرهبان اليونان لتمكنهم من السيطرة على كنيسة هي بالأصل عربية، وعلى كنائس أرثوذكسية أخرى في العالم، ككنيسة أنطاكيا وسائر المشرق، وكنائس البلقان التي كانت جميعها تقع في مناطق سيطرة الإمبراطورية العثمانية. لكن تلك الكنائس تحررت ممن استولوا عليها من الرهبان اليونان مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وعادت لأهل بلدانها ما عدا كنيستنا الأرثوذكسية المقدسية التي لا تزال ترزح تحت سيطرة الرهبان اليونان، في حين تتواصل المواجهة مع الرئاسة الروحية في ضوء إصرارها على سياسة التفريط بأوقافنا.
كانت الحرب العظمى الأولى كارثة بالنسبة لقضية فلسطين بعد أن قام الحلفاء بتقسيمات «سايكس بيكو» وإصدار وعد بلفور المشؤوم، وهنا ابتدأ هذا الارتباط الأساسي بين قضية فلسطين والقضية الأرثوذكسية نظراً لأهمية الأوقاف الأرثوذكسية في معركة التهويد التي لا تزال مستمرة حتى وقتنا الحاضر. ومن الضروري أن نثبت هنا أن السياسة الاستعمارية التي طبقتها بريطانيا بالنسبة لقيام الدولة العبرية في فلسطين كان لها أسوأ تأثير على القضية الأرثوذكسية العربية ليس فقط بسبب التزام بريطانيا بالمشروع الصهيوني لإقامة إسرائيل، وإنما أيضاً لعلاقتها الأساسية في حينه مع اليونان الملكية، ولأهمية الأوقاف الأرثوذكسية بالنسبة لتملك الأراضي والعقارات، خصوصاً في مدينة القدس القديمة داخل السور.
ولم تكتف البطريركية ورئاستها الروحية بإهمال مطالب أبناء الطائفة العربية، وإنما تنكرت وما زالت حتى لحقهم في انتخاب هيئاتهم، وهي ترفض الاعتراف الرسمي بهم وإشراكهم في الإطلاع على شؤون الكنيسة والبطريركية، عدا إهمالها لكل مطالبهم الاجتماعية والمدنية. وتبقى الطامة الكبرى صفقات بيع و/أو تأجير أملاك الكنيسة التي أوقفتها الأجيال السابقة لمصلحة طوائفهم، وتسريبها إلى أيد إسرائيلية ووضعها تحت تصرف سلطة حكومة احتلال وشركات تعمل على تهويد الوطن الفلسطيني وخنق مدننا وقرانا، ولا علاقة لها بالكنيسة أو برعيتها.

خلاف قديم جديد

الخلاف مع رهبانية «أخوية القبر المقدس» اليونانية، أي مع الرئاسة الروحية المتسلطة على بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية عملياً، ليس بجديد، ويعود تاريخه إلى سنة 1534، وقد شهد هذا الخلاف فترات صعود وهبوط، إلى حد مقاطعة البطريركية أحياناً ومحاولة الاستيلاء على دارها والصدامات الدموية وسقوط الشهداء والجرحى أحياناً.
وتعد الأملاك والأوقاف الأرثوذكسية في فلسطين التاريخية، الأكبر والأوسع بالمقارنة مع أملاك وأوقاف سائر الطوائف المسيحية الأخرى من أراضي بناء أو زراعة أو بور، وعمارات وبيوت وحواصل وأسواق، ومن كنائس ومقابر لم يجلبها أحد معه إلى فلسطين من أي مكان آخر، وإنما بالتأكيد هي جزء لا يتجزأ من الوطن وتراث أبنائه، إنها أملاك عربية أوقفها أجدادنا لمصلحة كنيستهم، وكل من يفرط بها يفرط بالكنيسة وبالتاريخ وبالوطن وبذكرى الأجداد، إذ أن للأوقاف دلالتها الوطنية والتاريخية، عدا الدينية، وهي لهذا تتمتع بحرمة وطنية، عدا الحرمة الدينية التي حرمت دوماً التفريط بالأوقاف.
لكن البطريركية الأرثوذكسية المقدسية تتصرف بالأوقاف وكأنها ملك شخصي لمن يتحكمون بمقدراتها دون حسيب أو رقيب لها، فهي ترفض أولاً، الكشف عنها وتبيان سجل بها وكأنها «سر أمني خطير». وتقوم ثانياً، بالتفريط بها عن طريق بيعها و/أو تأجيرها لمدة 99 عاماً وأكثر. وهذا التأجير أشبه بالبيع عملياً. فلقد أقيمت على هذه الأملاك أحياء عامرة بآلاف العمارات وبعشرات الطوابق والمساكن والمراكز التجارية العمومية تملكها الحكومة الإسرائيلية أو مجموعات استيطانية يهودية أو شركات إسرائيلية.
ويشار في هذا الصدد إلى أن مساحة الأوقاف الأرثوذكسية في القدس، التي انتقلت ملكيتها إلى شركات إسرائيلية أو استثمرتها شركات يهودية، هي تقريباً ضعف مساحة القدس القديمة داخل الأسوار، وأن بيت رئيس الدولة العبرية ومبنى الكنيست والحي السكني السابق لرئيس الحكومة الأسبق وسلطة البث، كلها تقوم على أراضٍ عربية أرثوذكسية. وترتفع الأحياء السكنية الجديدة الغنية والمرافق العامة والحدائق اليهودية في أحياء مختلفة في القدس، على أراضي وقف أرثوذكسية فرطت بها البطريركية، نذكر منها: القطمون والحي قرب دير سان سيمون، وأحياء قرب فنادق الملك داود و«لاروم» و«شلومو» و«موريا» ونزلة شارع «شالوم تسيون» وحديقة بلومفيلد»، وقسم من منطقة وكنيس «يشيرون»، ومنطقة واسعة قرب «جبل صهيون»، ومنطقة «رحافيا» و«الطالبية»، ومناطق في شوارع واشنطن وجابوتنسكي، ومنطقة ومقبرة مسيحية في منطقة راتيسبون (حي رحافيا)، وحي الفنانين، وحديقة الجرس، ودير مار يوحنان، وأرض الشماعة، وباب الخليل الخ... ويجري هذا بينما يختنق المسيحيون العرب الأرثوذكس خاصة، والفلسطينيون إجمالاً، من الضائقة السكنية في القدس، ويضطر بعضهم بسبب ذلك إلى الهجرة، خاصة في سياق معركة الوجود الفلسطيني الإسلامي والمسيحي ومعركة الدفاع عن عروبة القدس ومقدساتها.

«احتلال أجنبي» من نوع آخر

وتشهد الساحة الفلسطينية منذ عشرين عاما تقريباً معركة حامية ضد «احتلال أجنبي» غير الاحتلال الإسرائيلي لجزء ليس ببسيط من التراث القومي الفلسطيني، ومعه قدر كبير من الأراضي والعقارات، هو استعمار الكنيسة الأرثوذكسية وبطريركيتها في القدس، والذي بدأ منذ أكثر من 460 عاماً. وإلى جانب أبناء الطائفة العرب الفلسطينيين، يشارك في هذه المعركة إخوانهم الأرثوذكس المقيمون في شرق الأردن، الذين يتبعون من الناحية الكنسية منذ القدم الكرسي البطريركي للكنيسة الأرثوذكسية في القدس كأعلى سلطة دينية.
ورغم وجود ميل عام لدى المهتمين بقضية الصراع العربي اليوناني داخل الكنيسة الأرثوذكسية في القدس لإضفاء طابع ديني على الصراع داخل هذه الكنيسة، إلا أن حجم الصراع وإسقاطاته التي تمس لب الصراع العربي الإسرائيلي والوجود العربي على أرض فلسطين قد تعدّى البعد الديني، ليصبح الأمر صراعاً سياسياً ما عاد ممكناً معه دفن الرؤوس في الرمال، وتجاهل مطالب أبناء الطائفة الأرثوذكسية في البلدين، صوناً لأملاك الطائفة وأوقافها المهددة بالضياع في فلسطين، والتي تسربت أجزاء مهمة منها إلى أيد يهودية خلال الأعوام السبعين الماضية على يد الرئاسة الروحية اليونانية لبطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية.

صفقات بيع وتسريب



 

الحاج أمين الحسيني محاطاً ببطريرك الروم وبطريرك الأرمن ومطران الأقباط (١٩٣٠)

فالرئاسة الروحية اليونانية بالبطريركية تمادت في استهتارها بأبناء الطائفة العرب، ووقعت عقود تأجير وبيع لأملاك عديدة تابعة لها للإسرائيليين، كان آخرها عقد بيع لقطعة أرض في منطقة دير مار الياس بالقرب من جبل أبو غنيم بين القدس وبيت لحم، قبل عامين، يقع جزء منها في الأراضي المحتلة منذ في عام 1967.
وبدلا من المشاركة في مقارعة احتلال الأراضي الفلسطينية والاستيطان الإسرائيلي مثلها مثل الفلسطينيين أبناء الطائفة الأرثوذكسية، أقدمت الرئاسة الروحية للبطريركية على إبرام صفقة البيع هذه لقاء مبلغ زهيد من المال، رغم علمها أنه لا يحق لإسرائيل بموجب القوانين والأعراف الدولية بناء المستوطنات على الأراضي المحتلة وتغيير معالمها.
وتشكل قضية دير مار يوحنا، وهو نزل كبير في البلدة القديمة بالقدس، مثالاً آخر لهذه المحاولات «الناجحة» بين الرئاسة الروحية بالبطريركية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي للسيطرة على الأملاك العربية في القدس، فقد قامت الجمعية الاستيطانية «عطروت كوهنيم» عام 1990 بشراء حقوق الإجارة سراً من المستأجر الأرمني للدير من البطريركية مقابل ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار، وعلى اثر ذلك دخل المستوطنون إلى النزل واحتلوه. وربما كانت أهم قضية تسريب وتفريط لأوقاف البطريركية تلك التي نشرت تفاصيلها خلال العام 2005، وتتعلق بالأملاك داخل باب الخليل فيما يعرف بساحة عمر بن الخطاب، والتي تشمل الفندق الكبير «امبريال» الذي كان استأجره آل الداودي والدجاني من البطريركية عام 1950، وفندق البتراء المستأجر منذ سنين عديدة من قبل عائلة قرش، بالإضافة إلى 27 مخزناً يستأجرها تجار من مدينة القدس. وقد أظهر حجم هذه العقارات المهمة بالنسبة لمشاريع الاستيطان الإسرائيلية مدى الضرر الذي سيلحق بالبنية العربية في هذا الجزء الهام من المدينة المقدسة داخل السور فيما إذا تم تنفيذ هذه الصفقة التي أولاها اهتماماً بالغاً كل من الحكومات المتعاقبة، وأثارت حراكا وطنيا فلسطينيا رسميا وشعبيا، وأردنيا أيضا، في مواجهة الصفقة، ما أدى إلى عزل البطريرك ايرينيوس وتنصيب البطريرك ثيوفيلوس مكانه، مع استمرار النزاع المرير في أوساط البطريركية حتى الآن.
وسبقت ذلك كله، عملية مقايضة استولت شركات إسرائيلية واستيطانية بموجبها على 750 دونما من أراضي دير مار الياس قرب موقع قبة راحيل على طريق القدس - بيت لحم، وعملية تبادل أراض في منطقة الخان الأحمر على طريق أريحا لتوسعة مستوطنات هناك، ونشرت صحيفة إسرائيلية تفاصيل هذه الصفقة يوم 3 نيسان 1992، وأكدت أن هناك شرطا واضحا نصت عليه الاتفاقية وهو توخي السرية الكاملة، وأن خمسة ملايين دولار دفعت للبطريرك، في الوقت الذي أعلنت فيه مصادر مطلعة في القدس أن المبلغ الذي تقاضاه البطريرك بلغ عشرين مليون دولار.
ولعل ما يدعو للأسى، أن عملية التصرف غير الشرعي بالأوقاف ظلت مستمرة من دون هوادة، ففي العام 2003 قام اليوناني المدعو باباديموس الذي كان يعمل مديراً مالياً لدى البطريرك المعزول ايرينيوس (2001 - 2005) وهرب فيما بعد لعلاقته ببيع العقارات في ساحة عمر بن الخطاب، بتأجير قطعة أرض تبلغ مساحتها 34 دونما في منطقة «تلبيوت» المجاورة لحي القطمون العربي بالقدس إلى شركة أ. ج. ف كابيتال المحدودة التي كان أسسها هو يوم 4 آب 2003 بقصد الاستثمار في عقارات البطريركية، وقد نصت شروط العقد على أن البطريركية سوف تتقاضى 33% فقط من المساكن التي ستبنى دون إيجار سنوي أو أي فائدة أخرى للبطريركية، مما يظهر مدى الغبن في اتفاق كهذا.

أما البطريرك الحالي ثيوفيلوس الذي انتخب عام 2005 بعد عزل البطريرك ايرونيوس، فقد كان وعد ببذل الجهد لاسترجاع العقارات موضوع الشكوى، والمحافظة على الأوقاف من كل عبث، وتطبيق مواد قانون البطريركية رقم (27) لسنة 1958 تلبية لرغبة الحكومتين الأردنية والفلسطينية، إلا أنه للأسف نكث بوعوده ولم ينفذ منها حرفاً واحداً، كما أنه كان طرفاً في قضية التخلي عن عقار ثمين آخر هو قطعة أرض الشماعة الواقعة خارج باب الخليل في الآونة الأخيرة، حيث تبلغ مساحة الأرض 38 دونماً وكانت قد بيعت خلال الأزمة المالية للبطريركية عام 1927 إلى مستثمر مصري يدعى إيليا شماعة مقابل 38 ألف جنيه مصري (كانت عندها تزيد قليلاً على 38 ألف جنيه إسترليني) على أن يسدد القسم الأكبر من المبلغ وقيمته 30 ألف جنيه بموجب أقساط سنوية في الوقت الذي تظل فيه الأرض مرهونة لأمر البطريركية. وبما أن هذه الأقساط لم تسدد في مواعيدها، فقد قامت البطريركية عام 1970 برفع دعوى مطالبة إما باستلام رقبة الأرض أو التعويض المقدر بخمسين مليون شيكل إسرائيلي، وحيث أن الحكومة الإسرائيلية كانت في هذه الأثناء قد استولت على الأرض بذريعة كونها من «أملاك الغائبين»، فقد بدأت بتعطيل الإجراءات، مع أن القضية كانت تسير لمصلحة البطريركية، وكانت المفاجأة كبيرة عندما قام البطريرك الحالي ثيوفيلوس بإسقاط الدعوى في حركة مفاجئة بعد إقراره بأن تسوية قد تمت مع عائلة شماعة والحكومة الإسرائيلية، والمهم في الأمر أن المبلغ الذي دفع للبطريركية لتسوية هذه القضية، والذي كان كبيراً بلا شك نظراً لأهمية الموقع، لم يصل إلى البطريركية شيء منه حسب قيودها الرسمية، والأنكى من ذلك أن البطريرك أنكر أية علاقة له بالموضوع حتى بالنسبة لإسقاط الدعوى مع أنه هو الذي وقع طلب الإسقاط!
وهناك قضية أرض أخرى تتعلق بأراضي دير مار الياس لقربها منها، وهي أرض جبل أبو غنيم التي أسماها الإسرائيليون «هار حوماه»، وقد أقيمت مستعمرة على الأراضي العربية في المنطقة، وكانت من بينها مساحة 68 دونماً تابعة للبطريركية الأرثوذكسية أجرتها لمدة 99 سنة لهذا المشروع الاستيطاني مقابل مبلغ زهيد هو مئة ألف شيكل، أقر البطريرك ذيوذوروس باستلامها يوم 18/2/1992.
وبموجب أرقام متوفرة لدى الجمعيات الأرثوذكسية العربية، قامت الرئاسة الروحية للطائفة على سبيل المثال، ببيع أكثر من 90% من أملاك الطائفة في القدس الغربية التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1948 وأجرتها لفترات تتراوح بين 99 و120 عاماً لأفراد ومؤسسات إسرائيلية. ومما يلفت الانتباه أن البعض في إسرائيل بات يفكر بكيفية السيطرة وبشكل نهائي على الأملاك المستأجرة من البطريركية الأرثوذكسية.
ففي مؤتمر خاص حول الأملاك في إسرائيل، عقد في القدس عام 1994، دعا المشاركون الإسرائيليون الحكومة إلى سن قوانين من شأنها منع إعادة الأملاك التي تستأجرها الدولة أو الشركات والأفراد من الطوائف المسيحية لمدد طويلة إلى أصحابها، واعتبار فترة الإيجار الطويلة كافية لتملك المستأجرين لهذه الأملاك. يشار أيضاً إلى أن إسرائيل ما زالت تعمل بموجب بعض القوانين العثمانية والبريطانية التي وضعت في زمن الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، ففي نهاية عقد الثمانينيات صدر في بريطانيا تعديل لقانون الأملاك أصبح بموجبه للمستأجرين الحق في ملكية العقار بعد مرور زمن طويل، لذلك هبّ المعنيون في الأمر داخل إسرائيل مطالبين بتبني مثل هذا التعديل بالنسبة للأملاك المستأجرة داخل إسرائيل لمدد طويلة، ومن ضمنها أملاك الوقف الأرثوذكسي في جميع أنحاء البلاد، إذ تجدر الإشارة إلى أن أعداداً كبيرة من الإسرائيليين تقيم في منازل أنشئت على هذه الأملاك، وعلى الأرجح أن يصبح الضغط الانتخابي لهؤلاء قريباً عاملاً أساسياً في رضوخ الحكومة الإسرائيلية لمطالبهم وتبني تعديل للقانون يتيح مستقبلاً إمكانية السيطرة نهائياً على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية وغيرها وعدم إخلائها لدى انتهاء مدة عقود الإيجار.

تعريب الكنيسة

العنصر الهام في هذه الأزمة هو تأثيرها السلبي على الوجود العربي في البلدة القديمة بالقدس، لأن هذه المحاولات الإسرائيلية للاستيلاء والسيطرة تنجح في كثير من الأحيان في إدخال عناصر المستوطنين إلى قلب المدينة القديمة. وهناك خاسر آخر بلا شك هو البطريركية الأرثوذكسية وأبناؤها الأرثوذكس العرب، الذين كانوا - ولا زالوا - يطالبون بكل إصرار بأن يتوقف هذا العبث بأوقاف البطريركية التي يجب أن تكون مصانة من كل اعتداء لأنها تراث ليس فقط لأبناء الكنيسة الأرثوذكسية وإنما لأبناء فلسطين والأمة العربية عموماً.
لذلك، تعتبر الأوقاف الأرثوذكسية في فلسطين عموماً، وفي القدس خاصة، قضية مهمة يجب أن يتصدى لها الفلسطينيون والأردنيون دون تأخير، فالقدس هي مفتاح القضية الفلسطينية ولا بد من إعطاء الدعم والمساندة لأهلها للصمود على أرضهم وعدم السماح لهذا الخطر الداهم في شكل عملية تفريغ المدينة من سكانها العرب من السيطرة على حياتهم أو إنهاء وجودهم فيها بعد تاريخ حافل يزيد عمره على الثلاثة آلاف سنة، وليس من المصلحة في شيء أن يقلل بأي شكل من الأشكال من أهمية دور الأوقاف عموماً في صمود أهل القدس.
ولكن تبقى هذه الأزمة عالقة إلى هذا اليوم دون أية حلول من شأنها تلبية مطالب أبناء الطائفة العربية الأرثوذكسية، ودون أن ينجح الوطنيون الأرثوذكس في تعريب كنيستهم أو إحداث تغيير جذري في هذه القضية الشائكة، إذ في الوقت الذي نجحت فيه بعض الطوائف المسيحية بتعريب كنائسها والتخلص من السيطرة الأجنبية عليها، ولو بشكل جزئي، تستمر الرئاسة الروحية اليونانية بالبطريركية الأرثوذكسية في تعنتها ضد إشراك ممثلين عن أبناء الطائفة العربية في إدارة شؤون البطريركية وعدم تنفيذ قانون البطريركية رقم 27 لسنة 1958، ودون السماح للكهنة الوطنيين بالوصول إلى المراكز القيادية في الكنيسة، وتستمر تلك الرئاسة في يوننة (إضافة الصبغة اليونانية) البطريركية وعقد الصفقات التي تتعلق بالأوقاف، هذا إن تبقى منها شيء، وتبقى بذلك القضية العربية الأرثوذكسية تراوح في مكانها دون إحراز تقدم ملحوظ.
في ضوء ما تقدم، تبقى مسألة الكنيسة ونقاؤها وعودتها إلى جذورها المشرقية ووقف تغريبها مسألة المسائل منذ أن استولت رهبانية القبر المقدس اليونانية على البطريركية، وهذا هو المطلب الذي رفعه الوطنيون الأرثوذكس منذ مئات السنين، بوتائر مختلفة وبحدة تتباين بين فترة وأخرى للحفاظ على الوجود العربي الأرثوذكسي في فلسطين والدفاع عن عروبة أوقافه.
وما زال يتردد في الآذان صوت المثقف المتنور والمربي الوطني الأرثوذكسي خليل السكاكيني، الذي كتب محتداً سنة 1908، عندما فشل مع غيره من القيادة الأرثوذكسية العربية في حينه بإلزام البطريركية بإجراء الإصلاح المطلوب، وأصرّ أنه سيكرس كل جهوده لمقاومة وفضح رهبانية «أخوية القبر المقدس» في البلاد وتطهير الكرسي البطريركي المقدسي من فسادهم وتأثيرهم.. وقال «لقد استخفوا بنا وكانوا منغمسين في أخطائهم».
وفي النهاية، لا بد من التأكيد على العلاقات الوطيدة مع اليونان، شعباً وحكومة ورجال دين، والتي يكن لها الفلسطينيون، بمن فيهم أبناء الطائفة الأرثوذكسية، كل الاحترام، مع الحرص على تطوير هذه العلاقات، وهو الأمر الذي ينسجم مع رفض فساد هذه الفئة المتسلطة منذ عقود، والتي تسيء لتلك العلاقة بين الشعبين ولصورة الشعب اليوناني نفسه، كما تسيء للوجود المسيحي العربي بالقدس وفلسطين عموما، ولقضية الدفاع عن مقدساتنا الإسلامية والمسيحية من خلال التفريط بأوقافنا.