• 9 آب 2022
  • حارات مقدسية

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

  حكاية حارتنا اليوم قٍصتها مختلفة روايتها عن بقية الحارات المقدسية والتي سبق أن رويناها ... عبر دروب البلدة العتيقة في مدينتنا المقدسية    والمتأمل عبر طُرقات وأحواش وأزقة القدس, يُشاهد أقواس متعانقة تعلوا الشوارع الضيقة، أحياناً تلك الأقواس يعلوها بناء يستند على   داران  متوازيتان ومتلاصقتان , يرتقي أعلى  القوس عن غرفة تعلوها قبة ترتكز  على أربعة زوايا  لها نافذتان شرقية وغربية تسمح لضوء الشمس و الإنارة  التسلل عبر الأوضة  ساعات النهار  ويُطلق على  نوافذها  المشربية وأصل الكلمة (مشرفية) أي التي تشرف منها النساء علي الطريق أو لكونها طاقة خارجة تشرف علي الشارع

 وقيل إنها سميت المشربية لأن اواني الشرب الفخارية (القلل) كانت توضع بها، حيث بروز المشربية عن سمت المبني يضمن تيار الهواء

المتجدد لتبريد المياه وربما يؤكد ذلك حرص الصانع علي وجود موضع للقلل بأرضية المشربية من الداخل. وقالوا انها سميت المشربية لصناعتها من خشب يعرف(بالمشرب) وهو نوع من الخشب الجيد له لون بني داكن، يتميز بصلابته وتحمله لحرارة الشمس والعوامل الجوية الأخرى.

 وهناك مسمي اخر للمشربية ورد في الوثائق وهو (الروشن) وهي من الفارسية (روشندان) وتعني موضع المصباح أو مكانا يدخل منه النور، ومن الفارسية (روزن) بمعني النافذة أو الشرفة.

تلك الحضارة الهندسية التي أبدع فيها الصناع والمهندسون تراث أثرى للأبنية المقدسية والتي شكلت مفهوم الزخرفة العربية الإسلامية وخصوصا وانه ميراث ليس بالقليل شكله اجيال من المفكرين العرب منهم (ابناء موسي بن شاكر) القرن الثالث الهجري

(وثابت بن قرة 288) و (الحسن بن الهيثم 430) (والجوهري 214)

و(شمس الدين السمر قندي .672

بدع الفنان المسلم في صناعة العناصر المكونة للمشربية وتفنن في ضبطها وتنميقها هندسيا، وحرص عند تعشيق الحشوات علي ترك فراغات بين الحشوات المخروطة ومراعاة لما يحدث للأخشاب من تمدد وانكماش ومما يثبت عبقرية الصانع هو إنجازه لهذه الوحدة الزخرفية المعقدة التركيب دون استخدام الغراء أو المسامير معتمدا فقط على اسلوب التعشيق ودقة الصنعة.

ومن خلال قاعدة الروشن كما اتفقنا على تلك التسمية توجد فتحة دائرية تستعملها سيدة البيت لإنزال سلة القش المعقودة بحبل يتدلى يضع بها صاحب البقالة حاجة البيت من طعام   ومستلزمات دون عناء النساء التجول في الأسواق وحفاظاً عليهن.

في وسط الأوضة يوجد قوس داخلي مغلق وذلك لوضع متاع البيت من فُرش وحصير ووسائد  وسُمي بالخورنق   وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب ويُحفظ فيه الطعام (المُونة)

في الزاوية المقابلة نافذة صغيرة في الحائط ترتفع مقدار ذراعين يُطلق عليها   كَوَّة، وهي خَرْقٌ فِي الجدار، ثَلْمَةٌ، فَتْحَةٌ، للإضاءة ونحوهما يوضع فيها السراج   من خلالها تنتشر إضاءة الأوضة، وفي وسط الأوضة سرير نحاسي بأعمدة تُعلق عليها   الناموسية من التل المطرز يتناسب لونه مع ا لستائر، بجانبه صندوق العروس تضع فيه العروس كافة احتياجاتها من ثياب وعباءات وأغطية للمفروشات ومجوهرات ومقتنياتها من تحف شخصية وكل ما هو ثمين لديها. يُصنع من الخشب ويزين بالنقوش الإسلامية الهندسية الملونة ومسامير معدنية أو فضية وربما يكون الصندوق مغلف بالصدف أو بالعاج. 

صنـــدوق العــروس " المصنوع من الخشب من أهم مستلزمات العروس فهو من أساسيات الزواج فى أيام الزمن الجميل وكان يعتبر صندوق الأحلام لفتيات القرن الماضي  , صندوق العروس لا يزال محفورا في ذاكرة جداتنا وإن كان يعتبره البعض اليوم من " المخلّفات والعادات البائدة "،  ومع أن هذا الصندوق الذي كانت تحفظ فيه العروس أجمل الثياب والجواهر والنقود فقد سطوته واحتلت مكانه الخزانة العصرية التي تفتح وتغلق بالأرقام الإليكترونية وربما بالريموت، إلا أنه يشكل تراثاً رائعاً تتندر عليه الأمهات الفلسطينيات اللواتي كن يحرصن على شرائه قديماً من "الصدّاق" أي المهر .

وقبل الزواج وفي يوم " الكسوة " كان يذهب عادة وفد مكون من أقارب الدرجة الأولى رجالا ونساء إلى سوق الخواجات في البلدة القديمة التي كانت تعج بالحياة والتجارة، من أجل شراء الكسوة.  والأهم منها هو"   الصندوق" الذي يتم شراءه أو تفصيله ليكون هذا الصندوق أغلى ما تملكه العروس والذي يعتبر بمثابة غرفة نوم في زماننا الحاضر.

لكيلا ننسى (الطبلية) واليوم تُسمى طاولة السفرى، منضدة دائرية خشبية ارتفاعها لا يتزاوج القدم يتحلق حولها أهل البيت لتناول الطعام   وشرب الشاي وهكذا....

من هنا تبدأ الحكاية 

أثناء تجوالي في تلك الدروب لفت انتباهي تلك الأقواس وما علاها من غُرف مصفوفة، ألقيت التحية على العم حنفي وهو شيخ كبير، يجلس على إحدى مكسلتي مصطبة بيته بجانب الدرب الممتد سارح في ملكوت ربه او في خلوته وكأنه يتذكر فراق الأحبة بعد طول غياب يعزف على أوتاره معاناة الحياة وأثقالها يستشعر السعادة كلما مر عليه أهل الحي  بتحية  وسلام ,دعاني لأحتسي بمعيته كأس شاي (استكانة) بالنعناع ,   كأنه يريد أن يفضفض ذكريات خالجته  بين أكوام الذكريات, بادرني قائلاً (اشرب الشاي بالنعناع  ريحته تفوح  إلَي يقعد يقعد وإلَي يروح يروح )

لبيت دعوة العم حنفي لأسمع الحكاية تلك وأنا أرقب سعادته وهو 

يسرد ها لأنه شاهد على العصر يوم نشأتها فهو يعرف كل حجر صُف فوق حجر  فحجارة القدس تروي تاريخها وكل حجر حكاية ورواية تنبئ عن أصالتها وعروبتها  مهما طال عليها الزمن جذورها ضاربة في  التاريخ بيوتها مأوى ساكنيها  ومن نقش شواهدها  تعرف أصحابها ليس غريباً عن مدينة بلغت الآفاق شأواً ألا تكون ذات سابقة في الحياة؛ فعلى أبوابها العتيقة نبتت زهرة الياسمين وانتشت فترات وشحب لونها في فترات أخرى وفي أزقّتها كان الحمام ولايزال بهديله يطربها في فرحها ويُسكن آلامها في حزنها، تتبدّى لك على سفوح جبالها شجرة الزيتون وهي تفرض كيانها ضاربة بجذورها في العمق ترفض الغرقد ومن جاء به.

ألا ترى المبنى والمعنى في قديم الزمان كان يأتي الجار لجاره ويقول له

  (شحدني كتفك) والمعنى أراد أن يصل بين بيته وجاره بقوس يعلوه غرفة تستند على جداريهما تُقام عليه يكون الولوج إليها من أحد البيتان بدرج حجري، وبعد الموافقة تجتمع الجيرة لمد يد العون والمشاركة بالبناء ويتبرع الجار القريب بتقديم وليمة الطعام (القرى) وتقام ترحيباً بالضيف أو الذي يسكن البيت الجديد على أكتاف الجيران حُباً وكرامة 

هنا لم تنتهي حكاية العم حنفي يأتي الجار ليطلب يد ابنة جاره لابنه على سنة ا لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تلك العلية عُش الزوجية. يباشر بالوليمة الطعام المتخذ للعرس.. ويُطلق عليه (النقيعة) طعام الأملاك (التزويج). أصل الكلمة كما قال الخليل بن احمد الفراهيدي: وقال الازهري: واشتقاقها من الولم وهو الجمع وأصلهما من اجتماع البنية يحظى الأهل بالقرب من أحباهم وأحفادهم ويعيشوا في ثبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات، الحكاية حلوة ولا ملتوتة من عمي حنفي 

هذه مدينتنا المقدسة بأطيافها وساكنيها بحواريها ودروبها وأحواشها وأزقتها بقامتها ,وأجدادنا   وحكاية  جداتنا بالبذل والعطاء والإيثار بالمحبة التي جمعت الأنساب والأصهار والأحفاد بالذرية التي تغدوا   وتروح لصلاة الفجر بالمسجد الأقصى ومشاركة الأهل والعشيرة أتراحها وأفراحها بروح الإنسانية الأمن والأمان والحرية  ويسود السلام  على أرض ويرتفع الآذان  على مآذنها   وتقرع أجراس كنائسها  ... انهم يرونه بعيداً ونراه  قريبا.....