• 16 تشرين الثاني 2022
  • حارات مقدسية

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

يقول الله تعالى:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‌، حَتَّى زُرْ‌تُمُ الْمَقَابِرَ‌، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَ‌وُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَ‌وُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}   (التكاثر: 1 إلى 8)

في هذه الآية الكريمة التي معنا اليوم يحذّرنا الله من التباهي بكثرة الأموال والأولاد حيث يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقال: ألهاكم: أنساكم وأشغلكم، والتكاثر: التفاخر بالقبائل والعشائر، وطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره‏، والمعنى: شغلكم التباهي بكثرة الأموال والأولاد، والتفاخر بالقبائل والعشائر، وجاء في تفسير الجلالين: معنى وتأويل الآية 2«حتى زرتم المقابر» بأن متم فدفنتم فيها، أو عددتم الموتى تكاثر قال قتادة:

 نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان   وبنو فلان أكثر من بني فلان

ما أشبه اليوم بالأمس عندما يستولي الاحتلال بزعمه على المقامات والقبور ويعبث بتاريخنا لا ينطلي على أحد مُدعياً أن له جذوراً يُحصي ويعُدُ أموتاً قضوُا على فترةِ من الزمن السحيق بحجة الاستيلاء على البلاد وزرع المستوطنات وإخلاء أصحابها وهدم بيوتها وتهويدها ومهما حاول أن يبدل ويغير من تاريخ بلادنا إلا أن الحقائق على الأرض تأتي بخلاف ذلك ولنستشهد مِثالاً على ذلك 

سِلْوان هي البلدةُ المُجاورةُ لأسوار القدس والمسجد الأقصى من الجهة الجنوبيّة، وتُعرف بلقبِ حاميةِ القدس إذ تُشكّل حدودُها قوساً يمتدّ من الناحية الشرقيّة الجنوبيّة وحتى الجنوبيّة الغربيّة للمدينة وفي عام 1980 ضمّت إسرائيلُ القدسَ الشرقيّةَ (بما فيها سلوان) إلى الشطر الغربيّ من المدينة لتُصبح القدس الموحدّة عاصمةً لها حسب قانون القدس، وهو من قوانينها الأساسية، لكنّ الأمم المتحدة اعتبرت القانونَ انتهاكاً للقانون الدولي، ووجّهت إليه النقدَ (بأشدّ العبارات) (لكونه يُشكّل عقبةً جديّةً أمام تحقيق سلام كامل وعادل ودائم)

ارتبط وادي قادرون أو وادي جهنم   الذي يفصل مدينة القدس عن جبل الزيتون المطل عليها، بقصص توراتية وإنجيلية عديدة وكلمة قادرون باللغة العبرية تعني العميق، في إشارة إلى المياه الكثيفة التي كانت تجري فيه، ولكنه الان خال من المياه، وعبارة عن واد جاف، توجد فيه كنائس شهيرة، مثل كنيسة الجثمانية وكنيسة ستنا مريم، وبعض من مقبرة يهودية قديمة وقبور وهمية مزروعة ترامت أطرافها حتى أوصدت الطريق العام  

الاستحواذ على المعالم التاريخية وجغرافيا فلسطين محتدم على الجانب الإسرائيلي ويحاصرنا ويضيق علينا الخناق في كل مكان في تغييب سافر للتاريخ الفلسطيني وللهوية الفلسطينية وجذورها في اعماق جغرافية الأرض الفلسطينية وتاريخها تصبح الرواية الإسرائيلية أمرا واقعا في إطار هذا الواقع الافتراضي والعالم يقف عاجزاً يغض الطرف أحياناً وأحيناً لا يبالي مجرد خبر يظهر على شاشات   التلفزة لا يتجاوز بضع ثواني لتتوالى الأحداث.

  نتذكر جميع طنطور فرعون ومجموعة المقابر الهيلينستية الرومانية في الواد المقدس والتي استعملها الفلسطينيون منذ أيام اليبوسيين في القدس وذلك لدفن الموتى. وتوالت الأديان لتصبح مقابر على الطراز اليوناني والروماني لتصبح بعدها مقبرة لنصارى كلا من الروم واللاتين

هذه الأضرحة، إذا كانت فعلا كذلك، محفورة في الصخر، ومهملة، لكن هذا لم يقلل من أهميتها لدى الجهات المختلفة. وربما أهم وأجمل هذه الأضرحة، هو أكبرها والذي يسميه السكان (طنطور فرعون) ويتميز بقبته التي تشبه رأس القنينة، ويعتقد انه يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، ثم يليه ما يعرف بقبر زكريا وله قبة تشبه الهرم، ويعتقد انه أقدم من الأول ويعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وبجانبه قبر أخر مختلف بقبة مكعبة، ربما يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ويطلق عليه قبر بنت فرعون كذلك قبور ماشطة بنت فرعون وأولادها  ويضم كل ضريح منها ما يمكن اعتباره غرفة للدفن، وبسبب أشكالها الهرمية، سمي أشهرها طنطور فرعون، وأشكالها على العموم تظهر تأثرها بالعمارة المصرية القديمة.

طنطورة فرعون” هو الاسم الذي يطلقه العرب على موقع أثري يقع إلى الشمال الشرقي لمدينة القدس، ليس لأن القبة التي تنتصب فوقه تشبه القبعات التي كان يعتمرها الفراعنة في مصر فقط، وإنما مماحكة باليهود، لأن الاسم يذكرهم بطردهم من مصر، وبالحاكم الذي كان يسومهم سوء العذاب ويستبيح نساءهم

ولكن أرض فلسطين “تتكلم عربي”، وهي ترفض تزويد اليهود بأي إثبات أركيولوجي يشير إلى وجود حقيقي لهم في فلسطين، ولذلك فإنها سرعان ما كشفت أن الطنطورة لا علاقة لها بأبي شالوم ولا بغيره. ومضمون الكتابة يؤكد بالدليل العلمي والقطعي أن طنطورة فرعون مكانا مقدسا للمسيحيين العرب وأن اسمها هذا أطلقه العرب الفاتحين لكون قبتها شبيهة بقبعات الفراعنة

حكاية ضريح يجاور قبر النبي زكريا

يقـع جنوبـي طنطـور فرعـون، وينسـب إلـى سـيدنا زكريـا. بالرغـم مـن تسـميته بالقبـر ولكنـه لا يحتـوي علـى قبـر وإنمـا يعتبـر نصـب تـذكاري. القبـر محفـور بالصخـر ومبنـي علـى شـكل مكعـب بسـقف هرمـي الشـكل، تتميـز جـدران القبـر بوجـود أعمـدة منقوشـة١٩

حي وادي الربابة ووادي حلوة في بلدة سلوان المستهدفان بمشروع الحوض المقدس فوفقا للأسطورة اليهودية، ترتبط المقابر اليهودية في جبل الزيتون بالهيكل الثالث” الذي سينزل المسيح المنتظر وهو يحمله من السماء باتجاه جبل الزيتون وسيدخل به من باب الرحمة (أحد أبواب المسجد الأقصى) لإقامة الهيكل الثالث في المسجد. كما يرتبط كل من حي وادي حلوة والبستان ووادي الربابة بالملك داوود الذي كان يسير في المكان قديما ويكتب مزاميره، وبالتالي لا بد من تهويد المكان بالكامل تمهيدا لإقامة الهيكل الثالث، وفقا للرواية التوراتية. أما القبور الواقعة في منطقة طنطور فرعون، فليس لها علاقة بالروايات التي أطلق مشروع “الحوض المقدس” من أجلها، لكنها أُقحمت في المشروع باعتبارها جزءا من التاريخ اليهودي أن المشروع وبعد الإعلان عن انتهاء كافة جزئياته سيكون قد أتى على محيط البلدة القديمة من الناحيتين الجنوبية والجنوبية الشرقية بالكامل.

منذ العصور الكنعانية لمدينة القدس وما بعدها، ساد اعتقاد بأن للمدينة صلة بين الحياتين الدنيا والآخرة. ومن هنا كان سكان المدينة يوصون بأن يدفنوا فيها بعد مماتهم، ولذلك كثرت القبور وتناثرت وتفاوتت ما بين قبر بسيط كتبت عليه نقوش وأسماء، وقبر كبير فخم يشهد على مكانة بانيه، ويعترف بكون "القدس جسرًا بين الحياتين"، وفقا لتقرير للمركز الفلسطيني للإعلام.

  تزخر مدينة القدس بالقبور الفردية أو الجماعية، ومن بين هذه القبور أضرحة "طنطور فرعون" الضخمة التي تقع في الطريق الواصل بين بلدة سلوان والمسجد الأقصى المبارك، والتي بنيت في القرن الثاني قبل الميلاد، وسميت المنطقة بهذا الاسم لأن القبور فيها تأخذ الشكل الهرمي والقرنفلي ويقول الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية، للمركز الفلسطيني للإعلام، إن الضريح يقع بين تل الظهور الموجود جنوب المسجد الأقصى المبارك والسفح الشرقي لتل رأس العامود في وادي قادرون أو وادي (ستنا مريم) كما يطلقون عليه، وترجع تسميته بـ"طنطور فرعون" ليشهد على مدى تأثر الفن المعماري المحلي بالفن المصري الفرعوني، والتناغم الذي واكب العصر اليوناني من حيث تمازج للثقافة المعمارية اليونانية والفرعونية

في السبعينيات ادّعى الاحتلال أن أحد القبور يخص "أبشالوم بن داود" مؤكدين أنه دفن هناك، إلا أن الأبحاث التي أجريت على يد قوات الاحتلال أنفسهم أثبتت أنه لم يكن لهذا الشخص أي علاقة بالمكان، لذلك أهملت بلدية الاحتلال هذه القبور، فلا توجد عليها حراسة، ولا ينالها نصيب من الترميم المستمر. أبشالوم هو ابن سليمان فهو حسب الرواية التوراتية ثار على أبيه وانتهت حياته بالقتل في القرن العاشر قبل الميلاد، غير أن أكثر علماء الآثار أرجعوه إلى الفترة اليونانية وبالتحديد أواخر الفترة، أي القرن الأول قبل الميلاد.

ويظل حقيقة "طنطور فرعون" محيرًا لكثير من الباحثين من حيث بنائه ولمن يرجع، إلا أنه يبقى واحدًا من أهم مباني القبور التي تشهد على عظمة ومهارة الفن المعماري في ذلك الوقت في القدس

وفي تموز 2003 أعلن الباحث الإسرائيلي جدعون بروستر عثوره على معطيات مادية تؤكد أن نصب “يد أبي شالوم “، هو موقع مسيحي يعود للقرن الرابع م. كما عثر على كتابة يونانية عليه تمّ محوها؛ لكنه تمكن من قراءتها كما يلي: “هذا هو ضريح القديس زخريا الكاهن، المؤمن، والد يوحنان”. ويعتقد أن يوحنان المذكور هو يوحنا المعمدان.

تسعى المؤسسات الإسرائيلية  منذ زمن طويل السيطرة على منطقة طنطور فرعون الواقعة بين احياء وادي حلوه والحارة الوسطى ورأس العمود  ودرج العين في بلدة سلوان وقد سعت سلطة الاثار الإسرائيلية في السابق لاستكمال مشروع حفريات ابتدأته في بداية السبعينات من القرن الماضي وذلك امتداداً  لمشروع الحفريات في وادي حلوه وهضبة سلوان وبعد فترة وجيزة سعت جهات يهودية متدينة لوقف الحفريات بداعي ان هناك قبور يهودية بالمنطقة ولا يجوز الشروع لا لحفريات حسب الشريعة اليهودية وقد حصلت مصادمات بين القوات الإسرائيلية واليهود المتدينين حتى تم ايقاف عملية الحفر الا ان وفي الأونة الأخيرة وضمن مشروع تهويدي سلوان تقوم جمعيات استيطانية بمعاونة مؤسسات إسرائيلية رسمية بمحاولة طمس الحقائق من خلال زرع قبور وهمية وتغطية واجهة الارض بتربة حمراء تحضيراً لمشروع تهويدي لمنطقة طنطور فرعون في سلوان.

تطل هذه القبور اليوم على الجزء الجنوبي للمسجد الأقصى بشكل كامل، ولم يوفر الاحتلال الإسرائيلي فرصة لنسبتها إليه وإثبات أحقيته بالقدس، حيث زعم أنها تعود إلى عهد ما يسمى الهيكل الأول كما تمتزج مع فن الأعمدة اليونانية والتي نرى أثرها   في العامود الأيوني! إن البناء الاول بطليمي وهو يمزج بين الحضارة المصرية والاغريقية ويعتبر آية في الاناقة تذكرنا بجمال وروعة التربة المصرية التي بلغت أوجها في العصر المملوكي!

على الواجهة وبخط ركيك نقش بصورة بدائية لا تتناسب وجودة النقش في العمارة نجد اسم يهودي   يتخذه الإسرائيليون ليشيروا الى جذورهم التاريخية على ثرى فلسطين. الاسم المنقوش هو إضافة لاحقة للمبنى واستعمال ثانوي هدفه اضفاء الهوية اليهودية على المكان.

وتبعا لذلك تنسج رواية دينية يهودية ويجدون تأكيدا لها في التوراة ويسقط تفسير ديني يهودي على رموز العمارة وأقسامها ولنشر المعلومة تصبح مزارا يقصده طلاب المدارس اليهودية ويتم تلقين الرواية للأدلاء السياحيين

 وبتزوير تاريخ المعالم المرتبطة بالشعوب والديانات الاخرى يصبح كل موقع في فلسطين مرتبط حصريا بالوجود اليهودي في فلسطين، ليخلق ويرسخ العقيدة اليهودية الصهيونية.

هذه الاجراءات ليست مجرد وجهة نظر بل استراتيجية مدروسة عن قصد وسابق تدبير، تهدف الى خلق هوية إسرائيلية تمتد شرعيتها ومصداقيتها عبر التاريخ ويتردد صداها في فلسطين.  وهكذا وبقدرة قادر يصلح كل معلم وكل بقعة جغرافية دلالة على جذور هويتهم المزيفة. وفي غياب التاريخ وعلم الآثار الفلسطينية تضمحل وتتلاشى الهوية الفلسطينية ويغيب عن الذاكرة طنطور فرعون بدلالات ورموزه الحضارية المرتبطة بالهوية الفلسطينية ليحل محله قبر إبشالوم اليهودي الهوية!

 سؤال برسم الإجابة على طاولة الخبراء والأساتذة والمسؤولين الفلسطينيين:

 اين هي الرواية الفلسطينية؟! وماذا فعلنا كمثقفين وخبراء من اجل الحفاظ على الرواية الفلسطينية حية، في وجه الرواية الإسرائيلية المسيطرة؟!

 

المراجع:

  المركز الفلسطيني للإعلام

د على قليبو

الباحث روبين أبو شمسية 

الدبـاغ، مصطفـى مـراد (2003) بالدنـا فلسـطين: فـي ديـار بيـت المقـدس) الجـزء الثامــن- القســم الثانــي (، كفــر قــرع: دار الهــدى، ص.155.الدباغ. ص. 151.

عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس (الجزء الأول)، القدس: مكتبة الأندلس، 1999، ص544

 مرمرجي الدومنكي، أ. س. (1987) بلدانية فلسطين العربية. الرياض: عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع. ص. 8

أكرم رشيد محيي الدين الحوراني، ولد في مدينة حماة السورية الشهيرة عام 1911 وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة دار العلم والتربية، وهي مدرسة نموذجية أسسها الملك السوري (والعراقي فيما بعد) فيصل الأول بن الشريف حسين بن على، واتخذ لها موقعا قرب قصر العظم في حماة. وقد تأثر أكرم الحوراني بأستاذه عثمان الحوراني الذي كان يدرس مادة التاريخ، إذ كان يغذي في طلابه روح الحرية والاستقلال والمقاومة المسلحة والفخر بالعروبة، وكان هذا الأستاذ من المشاركين في ثورة 1925، وهكذا عاش أكرم الحوراني، عن قرب وعن إيمان، أجواء الثورة والصراع السياسي الذي فجرته ثورة سورية المبكرة.

اصدار هيئة أشراف بيت المقدس