• 10 نيسان 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم :الباحث مازن أهرام * 

 

ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه أهل أبرهة بأهل الحفاة العراه فيما كادوا يفعلون فأبرهة الأشرم قبل أربعة عشر قرناً جاء بجيشه العر مرم من اليمن تتقدمه فِيَلته العظيمة لهدم الكعبة، وها هم الذين يتطاولون بالبنيان يتأمرون كخفافيش الظلام على المسجد الأقصى فنقول خاب ظنهم وطاش سهمهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم ، لكن هل يكفينا الآن قول عبد المطلب مع أبرهة حينها: "إن للبيت ربا يحميه"؟

عبدالمطلب كان يملك بعض السلامة الفطرية التي جعلته ينطق بهذا القول بعد ما انقطعت به الأسباب، وعجزت الحيل عن رد هذا الهجوم عن البيت الذي يأوون إليه ويعتزون به ويعيشون في كنفه، في ظل انقطاع من الرسل وفترة من الوحي؛ فحينها أراد رب البيت سبحانه أن يعلم هؤلاء المشركون أن للبيت – حقاً - رباً يحميه، وأن يُثبِّت هذه الحقيقة في قلوبهم؛ فجاء دفاعه الرباني عن بيته الحرام، بسلاح غريب وعجيب وهو "الطير الأبابيل التي تحمل حجارة من سجيل" لدحر هذا المعتدي الباغي وإهلاك فِيلته العظيمة؛ حتى نزلت سورة من القرآن باسم "الفيل" تخليداً لهذه القصة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد أنشد عبد المطلب قائلاً


لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك     لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك

جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك    ولا هم المرء يمنع رحله فامنع عيالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

 

ليست هذه المقولة آية ولا حديثاً نبوياً، لكنها حلّت في ثقافتنا المجتمعية وكأنها وحي منزّل، يحفظها الصغار والكبار، ويستشهد بها الخطباء والوعاظ بكل ما تحمله من معانٍ مختلفة ودلالات غير محسوبة وغير مدروسة. 

تُنسب المقولة إلى عبد المطلب كبير مكة وجدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث واجه بها غطرسة أبرهة الحبشي، الذي جاء من اليمن قاصداً هدم الكعبة. 

المقولة -بلا شك- تحمل بعداً إيمانينا ، لكنها تحمل كذلك دلالات خطيرة وكبيرة؛ فالمسافة التي قطعها أبرهة كافية بأن تنبه العرب إلى هذا الخطر الداهم، وليس صحيحاً أنهم كانوا عاجزين تماماً عن صده أو عرقلة مسيره على الأقل، لكن الذي يدرس طبيعة المجتمع العربي يدرك أنهم ومن عمق التاريخ أقدر على إظهار معاني البطولة والتضحية والاستبسال في حروبهم الداخلية، فهم هنا أباة الضيم وأباة الهوان ولو فنيت القبيلة عن بكرة أبيها، أما مع العدو الأجنبي فلا يُظهر العرب هذا المستوى من الحماس إلا قليلاً، ويقيناً أن ما قدّمه العرب من تضحيات في حرب

البسوس مثلاً كانت كفيلة بصد أبرهة وثنيه عن مراده. 

 واليوم قد يقول قائل: وما حال المسجد الأقصى اليوم وقد تركته أمته وحيدا عن حال الكعبة عام الفيل ببعيد؛ وما حال المسجد الأقصى بمؤتمرات عفي عليها الزمن ولجان الفشل والعجز المسماة لجان القدس والمؤتمرات الخاوية  على عروشها التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع بأفضل مما كانت عليه مكة التي كانت تحصي أنفاسها بانتظار جحافل الغزو الحبشي...فهل هذه هي الحال فعلا؟

وهل اليوم  تنتهي الحكاية عند هذا الحد؟ 

صحيح أن أكثر سواد الأمة من المجاميع الغثائية قد استقالت من مسؤوليتها نحو البيت والرسالة استقالة قريش من دفع الأذى عن الكعبة؛ وصحيح أن أكثر أهل الأرض من أمة "لا إله إلا الله" قد ركنوا في أمر سلامة الأقصى إلى مقادير الله؛ وأعرضوا عن المشاركة في الذود عن البيت بدمائهم وأموالهم؛ وصحيح أنهم أشاحوا بوجوههم بعيدا متمتمين بقولهم "للبيت رب يحميه" ربما بغير يقين عبد المطلب وتجليات نور إيمانه اللحظي في ذلك الموقف

أصبحت حكومات وزعامات تدرس للناس صباح مساء أن الخيانة سياسة؛ وأن التفريط حالة متقدمة في فهم العلاقات الدولية؛ وأن العهر السياسي درجة من الواقعية السياسية يعرفها من أوتي الحكمة في اتباع الضلال وفصل الخطاب في الاستخذاء للإعداء والهرولة والتطبيع في ظلمة سواد الليل البهيم في زمان غابر قديم عقيم لعقد صفقات وتحديات الصفقة تلو الصفعة بثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ  اجواؤنا مستباحة. واهلنا يذبحون وبيوت وعقارات تُباع وتُشترى لسماسرة تؤل لبني صهيون وإلى متى ؟؟؟

كل هذا نعم صحيح!

 لكن إن كان الكفر يرمي الأقصى اليوم بشرذمةً من الرعاع وجيشه وأفياله وتدميره وجبروته؛ فان في الطائفة المنصورة من أكناف بيت المقدس الذين تحدث عنهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبشر أنهم فيها مقيمون؛ وعلى الحق ظاهرون في هذه الطائفة الغناء والكفاية بإذن الله جل وعلا

فالطائفة المنصورة من خير أمة أخرجت للناس لن تنتظر الطير الأبابيل؛ ولن ترضى قبل التوكل على الله بأقل من أن تعقل وتعتذر لنفسها أمام ربها جهدها؛ فتلبي نداء   الله فهذه العصبة هي البقية الباقية من جيل من البشر أنعم الله عليه بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذه الثلة من الفرسان هم أشقاء من أنقذت رسالة التوحيد المصطفوية كرامتهم وإنسانيتهم؛ فبدلت شقاء عمر وشقوته جبروتا في سبيل الله؛ وردت حلم معاوية وذكاء عمرو سياسة شرعية في خدمة دين الله؛ وفجرت طاقات الإبداع كلها لنصرة المشروع الإسلامي على يد هذا الجيل المهاجري الأنصاري ومن تبعهم من المخلصين بإحسان القدس، مدينة مقدسة لسائر البشرية ويجب ان تكون رمزاً للسلام والوئام، ومفتاحاً للاستقرار والأمن والأمان

القول الفصل وما بعد البيان إلا البيان فالقدس والوصاية الهاشمية ورعاية المقدسات هي صمام الأمان ليس فقط للقدس وفلسطين بل للعالم أجمع وما يُمارس اليوم على الاردن أرض الحشد والرباط والصمود وخاصة عرين الهواشم من ضغوط   لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ نقول لإصحاب العباءات  لا تفرحوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ

إن الوصاية الهاشمية على المقدسات لم تأت صدفة أو وليدة اللحظة بل هي منذ أكثر من مائة عام وباعتراف الفلسطينيين أنفسهم وذلك منذ الإعمار الهاشمي الذي تم سنة 1924 م على يد الحسين بن علي شريف مكة عندما تبرع بمبلغ 24 ألف ليرة ذهبية لتصرف على إعمار المقدسات الطاهرة. وبعد تولي المغفور له الملك الحسين بن طلال سلطاته الدستورية عام 1953 م خص القدس والمقدسات الدينية عناية واهتماما كبيرين، فقد أمر عام 1954 بتشكيل لجنة لإعمار المقدسات الإسلامية في القدس الشريف تحت الرعاية الهاشمية، كما تمارس المملكة الأردنية الهاشمية مسؤوليتها تجاه المقدسات في القدس انطلاقاً من الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية

وقد ارتبط الهاشميون تاريخياً، جيلاً بعد جيل بعقد شرعي مع المقدسات الإسلامية.  فحفظوا لها مكانتها؛ وقاموا على رعايتها، مستندين الى إرث ديني وتاريخي وارتباط بالنبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان حالهم مع القدس حيث اولى الهاشميون جل اهتمامهم للمدينة المقدسة ، وبذلوا جهوداً مضنية في حمايتها ورعايتها

ولقد كانت القدس على رأس أولويات الشريف الحسين بن علي، ملك العرب ومفجر ثورتهم التي هدفت الى التحرر والكرامة والوحدة. وفيها استؤنفت، في ظل الولاية الهاشمية، مسيرة الحفاظ على المقدسات في القدس

وانطلاقاً من البيعة والوصاية تولى الشريف الحسين بن علي إعمار المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف حيث يعتبر هذا الاعمار الهاشمي الأول

ومنذ تلك البيعة، فإن الهاشميين يمارسون مسؤولياتهم الدينية والتاريخية للحفاظ على المقدسات في القدس ورعايتها واعمارها ومع تأسيس الدولة الأردنية تكرس عهد جديد من الوصاية والرعاية الهاشمية على المقدسات

وقد خاض الاردن وجيشه العربي انطلاقاً من مسؤولياته الوطنية والقومية معارك بطولة وفداء للحفاظ على القدس وعروبتها عام 1948.ونجح في منع سقوطها في يد الاحتلال. ولقد أصبحت القدس الشرقية، كبقية مناطق الضفة الغربية، عام1950 جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية بعد إعلان الوحدة بين الضفتين

وخلال هذه الفترة، من عام 1948 إلى عام 1967، تعززت الرعاية الأردنية للمقدسات. وحين تم إعلان قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية عام 1988، فإن القرار أستثنى القدس حتى لا تقع في الفراغ او يتسلل لها الاحتلال. وقد واصلت المملكة دورها في رعاية مقدساتها، والدفاع عنها، وتقديم ما يلزم من دعم لأبنائها ، وفي اتفاق تاريخي، وقعه جلالة الملك عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس في عمان في شهر آذار/مارس 2013م، أعيد التأكيد على الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة، وأن جلالة الملك هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس

وقد ارتبط الهاشميون تاريخياً، جيلاً بعد جيل بعقد شرعي مع المقدسات الإسلامية.  فحفظوا لها مكانتها؛ وقاموا على رعايتها، مستندين الى إرث ديني وتاريخي، وارتباط بالنبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان حالهم مع القدس حيث اولى الهاشميون جل اهتمامهم للمدينة المقدسة. وبذلوا جهوداً مضنية في حمايتها ورعايتها الهواشم أصحاب الوصاية والرعاية والسيادة وهذا ديدن الهاشمين وإن غداً لناظره قريب 

حفظ الله المسجد الأقصى المبارك رعاك الله يا مسجدنا اولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ، المسجد الأقصى للركع السجود لا يقبل القسمة ولا يقبل الشراكة وأسمى من أن يخضع لقوانين بشرية أو مزايدات أو تنازل  عن ذرة ترابه  الطهور حتى أن يرث الله الأرض ومن عليها 

ونقول لأهلنا

إن زيارة المسجد الأقصى والسعي بقصد عبادة الله وإقامة شتى أنواع العبادات فيه، كالصلاة والدعاء والصوم والاعتكاف والذكر وقراءة القرآن سنة متفق عليها عند علماء المسلمين، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) فلنحافظ على المسجد الأقصى المبارك واليوم أُهل علينا شهر رمضان المبارك فنذكر أنفسنا بحديث جدنا رسول الله صلى الله عليه وآلة وصحبه وسلم (صوم يوم في بيت المقدس براءة من النار)

 

* رئيس هيئة أشراف بيت  المقدس  وفلسطين