• 7 آيار 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : نبيل الانصاري

 

يتوجب على كل من يسيطر على هذه البلاد المقدسة أن لا يتخذ موقفاً إقصائياً تجاه أتباع الديانات الأخرى والتي تنتمي إلى العائلة الإبراهيمية .. ونقصد إتخاذ موقف إقصائي نافياً للآخر ، ولمفهوم العيش المشترك بين أبناء الديانات السماوية الثلاث .. وببساطة لا يمكن الاستحواذ على هذا المكان المتمثل بمدينة القدس المقدسة وإقصاء الأطراف الأخرى ..ألف الأخوين رحباني بعد حرب عام 1967 هذه الأغنية الجميلة التي تثير الحب والفضول، خصوصاً ذائقة المتلقي الشعرية عند سماعه لها .. الأخوين رحباني  يعتبران من عظماء الموسيقى العربية والعالمية، إضافة إلى كونهما شاعران من الطراز الفريد وموزعان موسيقيان بارعان. " لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي..."

فانطلاقاً من اعتقاد المسلمين بأن خط النبوة المنطلق من إبراهيم الخليل عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مروراً بالأنبياء موسى واسحق ويعقوب وداود وسليمان وعيسى بن مريم .. هو حلقات من سلسلة العائلة الإبراهيمية النبوية، فقد بجّلوا جميع الأماكن التي تذكرهم بتلك العائلة المباركة، أو تُقرن بها، ورفعوا من شأن كل الرموز الدالة على الجغرافية المقدسة للديانتين المسيحية واليهودية.

 ولكن بالمقابل فإن اليهودية لم تعترف بقداسة الجغرافية المقدسة للمسيحية،  ناهيك عن الإسلامية ...وتفيدنا بطون كتب التاريخ بأن الرومان ومنذ تيطس عام 70م حرموا على اليهود دخول القدس وهدّموا هيكلهم ثم أتى هادريان عام 136م فأكد هذا الحرمان، وأكدت السلطات المسيحية أيضاً هذا الحرمان، في زمن قسطنطين في القرن الرابع، واستمر هذا الحال حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع.

 أما التجربة المسيحية الغربية الأخرى، كما جسدها الصليبيون، الذين افتتحوا ممارستهم نحو العلاقة بالآخر، بقتل جميع المسلمين واليهود عند دخولهم مدينة القدس، فقد تجلٌت بأن حرموا على المسلمين واليهود دخول المدينة المقدسة، وطمسوا المعالم الإسلامية، وحولوا المسجد الأقصى، ومسجد القبة إلى كنائس، ومكان لقيادة الداوية،  وإسطبلا لخيولهم،  فجسدت المسيحية الغربية في المرتين موقفاً إقصائياً نافياً للآخر ، ولمفهوم العيش المشترك ...

وعند مراجعتنا بطون كتب التاريخ نرى أن أمر هاديان بمنع اليهود من دخول مدينة القدس قد استمر تنفيذه خمسة قرون، بعد أن أكد عليه الإمبراطور قسطنطين الذي أعلن المسيحية ديناً للإمبراطورية، إلى أن ألغاه العرب المسلمون بعد الفتح العمري ..  

    يا سادة يا كرام،  تكشف لنا بطون كتب التاريخ بأن التجربة العربية الإسلامية في إدارة مدينة القدس تتميز منذ الفتح العمري، في أنها تقوم على الأعتراف بحق أهل الكتاب، يهود، ومسيحيين، في العيش المشترك في المدينة المقدسة، وحقهم في إقامة شعائرهم في أماكنهم المقدسة، فلقد أبطل المسلمون القرار البيزنطي الذي يقضي بمنع اليهود من دخول مدينة القدس، وأمنّوا المسيحيين على أموالهم وأنفسهم، وكنائسهم، كما هو واضح في العهدة العمرية ..

ولقد كرّر صلاح الدين السلوك العمري نفسه عند دخوله القدس عام 1187م، على الرغم من مرارة التجربة الصليبية، فجعل المدينة مفتوحة لأبناء الديانتين، المسيحية واليهودية،  لإقامة شعائرهم الدينية في دور عبادتهم، وشجع المسيحيين العرب، والمسيحيين الشرقيين،  الذين اضطهدتهم الفرنجة، على الإقامة في القدس، وظلت تلك المبادئ القائمة على قاعدة الاعتراف بالآخر ، ومبدأ العيش المشترك ، هي الإطار الناظم للإجتماع البشري في مدينة القدس ..  

  وعندما نقوم بتأمل ومعاينة بطون كتب التاريخ نصل إلى استنتاجات فريدة في مضمونها .. فمثلاً لم تؤد استعادة الهوية الإسلامية في مدينة القدس، إلى إزاحة الأماكن المقدسة المسيحية واليهودية، أو أسلمتها،  فوقف القائد العربي المسلم صلاح الدين الأيوبي بصلابة ضد اقتراح من أراد الثأر من الفرنجة بتقويض كنيسة القيامة، بأن اتخذ موقف الخليفة العادل عمر  بن الخطاب قدوة له، حين قال: "عندما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مدينة القدس في صدر الإسلام. أقرّهم على هذا المكان ولم يأمرهم بهدم بنيانه، وذهب أكثر من ذلك، بأن سمح للفرنجة بزيارة بيت المقدس، وسمح للمسيحيين الأرثوذكس واليعاقبة بالبقاء فيها، بشرط الجزية، مع إعفاء الفقراء، وأشرف رجال الدين الأرثوذكس على الأماكن المقدسة المسيحية .. كما سمح الخليفة العادل عمر بن الخطاب لليهود بالسكن فيها مجددًا.. ويذكر الأديب اليهودي الإسباني (يهود الحرزي)، الذي زار المدينة في عام 1217م، "أرسل السلطان صلاح الدين منادياً ينادي في أرجاء البلاد بأن باستطاعة كل سلالة إبراهيم العودة إلى مدينة القدس من العراق ومصر ومن كل البلاد التي لجؤوا إليها ..

وعندما طلب ريتشارد قلب الأسد في أيلول من عام 1192م، من صلاح الدين أن لا يسمح للحجاج الأوروبيين المتدفقين على مدينة القدس بزيارتها، إلا أولئك الذين يحصلون على إذن منه، أو كتاب، رفض صلاح الدين،  ورد عليه بالرؤية الإسلامية العميقة للقدس بأنها مدينة مفتوحة للديانات الإبراهيمية،  بالقول : "إن هؤلاء الحجاج، قد وصلوا من ذلك البعد لزيارة المكان الشريف، فلا استحل منعهم "! ولا مندوحة (بمعنى لا مفر  من القول)  أن  المؤرخون العرب قد نظروا إلى  العائلة الإبراهيمية، على أن لها صلات عميقة بمدينة القدس،  وعلى أن هذه العائلة تتفرع إلى أولاد إسماعيل العرب، وأولاد إسحاق، وتتبعوا سيرة أولاد الأخير ، ومنهم داود وسليمان وصلاتهم العميقة بمدينة القدس.

 باعتبار هذه الصلات جزءاً لا ينفصل عن التاريخ الروحي للقدس،  باعتبار هذه الصلات جزءاً لا ينفصل عن التاريخ الروحي لمدينة القدس،  وعن تاريخ الجغرافية الروحية الإسلامية .

 فيشير المؤرخ العربي، أن إسحاق أمر ولده يعقوب (إسرائيل) بالمسير إلى أرض الشام ، وبشّر بنبوته،  وبنبوة أولاد الإثنين عشرة، وهم الأسباط الإثنا عشرة .. ثم يحرصون على ضم تاريخ من العائلة الإبراهيمية إلى تاريخهم الروحي ... وإلى تاريخ القدس .

 فالمؤرخون المسلمون مثل اليعقوبي وابن كثير والطبري سردوا بعناية قصة يعقوب بن إسحاق، وأبنائه ، ثم قصة موسى عليه الصلاة والسلام ووصاياه العشر والتوراة ورحلة بعضهم إلى القدس، كما ضموا عمارة داوود وعمارة سليمان في القدس، إلى المأثور الإسلامي المقدس فمثلاً  أورد مجير الدين الحنبلي حديثاً .. "عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى لداوود: ابن لي بيتاً في الأرض، فبنى داوود بيتاً لنفسه مثل البيت الذي أمره الله به، فأوحى الله إليه: يا داوود بنيت بيتك قبل بيتي، قال: أيّ رب، هكذا نلت فيما قضت من ملك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد، يعني بيت المقدس" / ينظر الحنبلي ج1 ص103" ..

ونقرأ كذلك بأن المؤرخون المسلمون قد شدّدوا على أن بناء داوود وسليمان لبيت المقدس، ولمسجده، إنما تمّ على أساس قديم فإن أول ما بنى مدينة القدس، ومسجدها من البشر ، إنما هم الكنعانيون، وبالتحديد ملكهم ملكي صادق، بهذا يقول مجير الدين الحنبلي العليمي كغيره من المؤرخين العرب  "فعمارة داوود وسليمان عليهما السلام لمدينة القدس إنما هو تجديد البناء القديم ..ونصل هنا إلى الاستنتاج الهام المتمثل بأن تاريخ القدس الروحي، قد اندمج متوافقاً مع التاريخ الروحي والزماني للقدس سليمان وداوود، بيد أن الافتراق الروحي ما لبث أن حدث مع (انحراف)، بني إسرائيل عن صحيح التوراة، "وضلّوا" فعاقبهم الله على يد نبوخذ نصر، وغيره، واعتمد المسلمون في تفسيرهم هذا، على ما جاء في القرآن الكريم: سورة الإسراء 5-4 "وقضينا على بني إسرائيل في الكتاب لتفّسدن في الأرض مرتين، ولتعلونّ علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما، بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً" ..

 ثم نقرأ ما أورده الطبري كيف انتقم الله للانحراف بني إسرائيل، واضطهادهم  (أرميا) النبي الذي بعثه الله نبياً ..وفي ختام هذه الحكاية العاجلة نورد التسامح الإسلامي الذي تجلّى بما قام به الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما ألح عليه صفرونيوس بمنع اليهود من دخول مدينة القدس، أجابه قائلاً:  "إن ديننا لا يسمح بذلك"!! .

 ويحدونا الأمل بهذه المناسبة أن نقتبس الأغنية الخالدة.. أغنية مدينة القدس "زهرة المدائن" التي كتب كلماتها وألّفها ولحّنها الأخوان رحباني، عقب هزيمة العرب في حرب 1967. وقد سرى اعتقاد خاطئ في معظم مواقع الإنترنت أنها من تأليف الشاعر اللبناني سعيد عقل، وهو ما يتناقض مع المعلومات الواردة في الألبومات والإسطوانات الأصلية لفيروز التي تؤكد أن هذه القصيدة من تأليف الشاعرين الأخوين رحباني ..الراحلين عاصي ومنصور الرحباني اللذين يعتبران من عظماء الموسيقى العربية والعالمية، إضافة إلى كونهما شاعران من الطراز الفريد وموزعان موسيقيان بارعان. هاكم كلماتها المُلهمة .. "لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّني أصلّي الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان لأجل من تشرّدوا لأجل أطفال بلا منازل لأجل من دافع واستشهد في المداخل واستشهد السلام في وطن السلام وسقط العدل على المداخل حين هوت مدينة القدس تراجع الحبّ وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب ، الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان وإنني أصلّي .."

للحديث وللحكاية بقية وتواصل ..