• 28 آيار 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم :   فواز ابراهيم نزار عطية

 

الدول الاستعمارية ليست وليدة الصدفة ومخططاتها واهدافها ليست عشوائية، بنيت تلك الدول على التخطيط والاعداد لما هو ابعد من حدودها ضمانا لبقائها وحفاظا على مصالحها، فالقدس كانت على سُلم أولويات  التخطيط الأوروبي ما بين عامي 1905 و1907، إذ تيقنت تلك الدول بأن القدس  قلب الأمة  العربية والاسلامية النابض، فوُضعت الخطط  لتقليل نبضات القلب رويدا رويدا حتى يتم اعلان توقف عمل القلب، من خلال مؤتمر سري عُقد في لندن برئاسة هنري كامبل بونرمان بعد أن سقطت حكومة المحافظين برئاسة آرثر بلفور، حيث وجد هنري المذكور، أن تشكيل جبهة استعمارية موسعة في المنطقة العربية الممتدة ما بين آسيا وإفريقيا، سيغير تاريخ المنطقتين ويُحكم السيطرة على العالم،  فدعا إلى تأسيس لجنة عليا عام 1907 مؤلفة من انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا، بالاضافة إلى جانب كبير من علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول، بهدف تحقيق المشروع الاستعماري والانقضاض على الدولة العثمانية، ليكون مركز التحكم على العالم من خلال المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط عبر بوابة القدس.

ومن خلال المداولات والمناقشات الحثيثة في المؤتمر، وبعد أن ألقى هنري خطابه الشهير امام اللجنة المذكورة قال:" نحن الآن في مرحلة انحدار وبيننا خلافات كبيرة وبيننا تنافس خطير لا تجمعنا لغة واحدة ومختلفون في العقيدة.... فهل تريدون البقاء في القمة أم تريدون مواصلة السقوط ..." فإذا بإجماع الحاضرين يقولون نريد البقاء في القمة، فوزع عليهم خريطة الوطن العربي وقال :" إن سِرّ قوتنا وسِرّ ضعفنا في منطقة ضعيفة متشرذمة، لكنهم يمتلكون كل مقومات النهضة، قوة بشرية هائلة دين واحد لغة واحدة ثروات طبيعية مهولة"، وذكرهم أن تحلي شعوب تلك المنطقة باليقظة السياسية نتيجة التفافهم ومؤازرتهم لقرار السلطان العثماني عبد الحميد، بمنع التدخل الاجنبي في سلطنته ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين عامة والقدس خاصة، سيمنع قوتهم وسيجعلهم في انحدار وسيزيد من تفرقهم، مما توصل المؤتمرون إلى حلٍ يؤدي لتشرذم المنطقة العربية بعد انهاء الخلافة الاسلامية العثمانية واستعمار الاقطار العربية لمدة معينة، في سبيل تهيأة الاجواء بزرع كيان لم يُتفق على تسميته بعد، لوضع المنطقة العربية ضمن قالب التأخر والتجزئة والانقسام والانشغال بالحدود والممالك والسيادة، الامر الذي قرروا اقامة "الدولة العازلة".

لذلك صدرت التوصية في نهاية اجتماعهم بأن:" إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، سيشكل في تلك المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس، قوة عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها..." فالتقطت جماعة الصهيونية هذا المشروع، وقدمت نفسها في سبيل التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة، بأن يقام كيان غريب في غربي البحر المتوسط " فلسطين"، باعتبار هذا الكيان قلعة متقدمة ترعى المصالح الغربية، بما يضمن ضعف المنطقة ويمنع وحدتها.

ومن هذا المنطلق، وبعد احداث دامية متسلسلة خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، قررت الجمعية العامة للامم المتحدة   في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1947 (19/11/1947) مشروعا يدعو إلى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وطالبت الجمعية العامة اليهود باتخاذ الخطوات اللازمة من جانبهم لتنفيذ ذلك القرار، مما بادرت القيادات الإسرائيلية إلى إعلان قيام دولة إسرائيل يوم 14 أيار عام 1948 (14/5/1948)، بعد انسحاب الانتداب البريطاني من أرض فلسطين، ودعت يهود الشتات للعودة إلى "الوطن"، مطالبة إياهم بدعم الدولة الوليدة التي سارعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى الاعتراف بها بعد دقائق من إعلانها.

بعد كل تلك السنوات من الصراع بين العرب والدولة العازلة على مرّ سبعة عقود، مرورا بمآسي الشعب الفلسطيني وشعوب الجوار، برزت فكرة صفقة القرن لمزيد من التخريب والشرذمة العربية منذ احتلال العراق من قبل القوات الامريكية عام 2003 وصولا إلى الربيع العربي الذي دمر العباد والبلاد في بعض الاقطار العربية بتمويل عربي للاسف، وكنتيجة لإنصهار الفكر العربي لبعض الانظمة الحاكمة مع الفكر الصهيوني في سبيل الحفاظ على العروش، تم تمويل وتجنيد شياطين الانس من بعض ما يسمى بالمفكرين وبعض مع نسب نفسه لزمرة علماء الدين، لتمرير فكرٍ جديد من خلال الأبواق المسمومة لشطب مصطلح قدسية وعدالة  القضية المحورية من قلب العالم العربي، واعتبار القدس مدينة أقل أهمية من أي مدينة عربية أخرى، بل واعتبار الفلسطيني دخيل محتل للدولة العازلة.

فلم تعد القدسية الدينية  للقدس محور اهتمام لتلك البلدان المطبعة، ولم تعد للقدس البُعدٌ الاستراتيجي في قاموسهم، ولم تعد فكرة تقرير المصير مستخدمة في خطاباتهم، وأصبحت مقاومة الاحتلال المقررة في قرارات الامم المتحدة، لغة ارهاب وعنف غُلفت بإطار الارهاب الاسلامي، في الوقت الذي كان يعتبر الكيان الإسرائيلي هو أخطر الوجود في المنطقة وعلى حاضر ومستقبل الدول العربية والإسلامية، فانقلبت المفاهيم وتغيرت الاحوال فأصبح لبعض الانظمة وظيفة محددة هدفها إضعاف المسلمين، وتشتيتهم بإلغاء مصطلح القدس وقدسيتها، مما ساهم في أن يخرج بعض الزنادقة اليوم ليقولوا أن المسجد الأقصى في الطائف وليس في القدس!!!

وعليه، لا بد من أن يفهم أهل فلسطين عامة وأهل القدس خاصة، أن الفهم الاستراتيجي لمقولة" يكمن الخير في الشر" أساسه عقائدي مربوط بأساس تاريخي ثابت، بأنهم نواب عن الامتين العربية والاسلامية في حماية الديار، فلا يأس مع أنظمة غُلفت فيها العقول وصدأت فيها القلوب، بوجود عقول وقلوب لم تشيخ ولم تحيد عن بوصلة القدس.

ولنا في الاحداث الاخيرة ما بين ما اصطلح على تسميته سيف القدس وسور القدس، أسوة حسنة بأن شباب القدس مازالوا في خير، ورغم كل المغريات ووسائل الترفيه والتسهيلات المقدمة لهم بما في ذلك تسهيل درب الشر بتقديم كل مقومات الفساد والافساد الاخلاقي لهم، لكنهم سطروا أروع المقاومة السلمية في منع الاعتداء على المسجد الاقصى، ووحدوا جميع فلسطين التاريخية على كلمة واحدة، بأن القدس خط أحمر لم تشهدها البلاد منذ عقود، بل كان لشباب القدس شرف لم يناله أحد من العالمين، بأن أيقظوا الضمير العالمي ووحدوا شعوب العالم دون استثناء، بل كان في تصرفهم المسؤول أن جندوا عدد لا بئس فيه من اليهود سواء الذين يقطنون الديار المقدسية المقدسة أو الذين يعيشون في شتى بقاع الارض، للتعاطف مع عدالة مطالب أهل القدس، فكتب الجنرالات المتقاعدين وعدد من الصحفين وكل مسؤول لديه كرامة إنسانية أن حكومة الاحتلال برئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنتهية ولايته، ساهمت في عمل غير محق واستفزت المصلين في شهر رمضان المبارك وشوشت على شعائرهم الدينية، وألقوا باللوم على عنجهيت تصرفات قواتهم العسكرية نتيجة استخدام العنف غير المبرر، بل تجرأ عدد منهم  بالقول بأن من أعطى المبرر لدخول غزة في احداث القدس حكومة نتينياهو المستقيلة، وحلل عدد منهم أن هدف رئيسها المستقيل البقاء في السلطة من خلال اشعال المنطقة، بل بعض من وزرائه وضع كل اللوم على رئيسهم.

فتفاجأ القريب قبل البعيد من قوة وحجم الرد الذي صدر عن أهل غزة، وتم كشف اللثام عن زيف القوة الوهمية لعدد كبير من الجيوش العربية، التي انفقت  قياداتها مليارات الدولارات على المعدات والتسليح خلال مدة 70 عاما ويزيد، ولقنت العرب المتخاذلين درسا لن ينساه احد منهم، الامر الذي كتب بعض المحللين من اليسار الاسرائيلي ومن اصحاب الخبرات العسكرية في الصحف العبرية، بأن أهل غزة تعاظم أمرهم وشأنهم وهم في حصار، فكيف لوكانت الحرب مع لبنان؟ كما وأن أهل القدس ووضعوا حكومة الاحتلال في مأزق سياسي امام دول العالم، وتم اعادة القضية لعدالتها وقدسيتها، وفرضت على الاجندة العالمية، بل إن مشاهدة العالم لحجم الدمار والابادة لعائلات كاملة في غزة، أدت لتتعالى الأصوات من مختلف دول العالم، بأن هناك شعب محتل طواق للحرية ولتقرير مصيره، طواق ليتم تطبيق قرارات الامم المتحدة على أرضه.

أخيرا أقول أن ويلات وآهات وأنين المصابين في القدس غزة والضفة الغربية، والهبّةُ الجماهيرية العربية من مختلف الأماكن في الوطن العربي، وتدفق الأفواج البشرية ممن حاولوا عبور الحدود مع فلسطين التاريخية ، والتضامن العربي من الكويت حتى موريتانيا، فضلا عن حجم الدمار الهائل في الشجر والحجر في غزة، عجّل من وقف الاعتداء على أهل غزة، وأضفى على القدس شرعيتها وقدسيتها واعادها لمسارها الصحيح بما حدده الله تعالى بطابعها المقدس والارث الاستراتيجي، الذي لا يتغير ولا يتبدل رغم التآمر على القدس من بعض المتآمرين.

ولنا في الاقوام السابقة عِبر وآيات كعاد وثمود وقوم هود، ولولا أن قضية الشيخ جراح والاعتداءات التي قامت بها قوات الاحتلال على المصلين في المسجد الاقصى وعلى شباب القدس على درجات باب العمود، لما اعيدت قضية فلسطين على الواجهة العالمية، كما ولم يتم تحرك الضمير العالمي، ولما تدخلت قوى الاستعمار المؤلفة من مؤتمر عام 1907 التي أنشأت الدولة العازلة، وطلبت من الاحتلال وقف المجازر، فتلك الشرور وحدّت فلسطين التاريخية على قلب رجل واحد، واعادتها بجدارة على طاولة الامم المتحدة، الامر الذي يجب أن نشكر حكومة نتيناهو على تصرفاتها الخارجة على قواعد الاخلاق واحترام النفس البشرية، لأنها كشفت حقيقة وجه تلك الحكومة التي تتغنى بديمقراطيتها الفريدة في المنطقة وحرصها على حقوق الانسان، مما ساهمت بشكل رئيسي في وضع القضية بمحور القدس على الاجندة الدولية من جديد.

ورغم ذلك، فلا بد من التذكير أن الانتقام من الاحتلال سيكون سيد الموقف، فيجب على شباب القدس عدم اعطاء المحتل الذرائع ليبطش به، وعليهم التسلح بالحكمة في تصرفاتهم دون أن يتم استفزازهم بأي واقع، لتفويت الفرصة على المحتل من تحويل الصمود الاسطوري إلى نكسة يتهموا فيها بأنهم أصحاب شرٍ وبلطجة، وبالتالي يجب أن يبقى سلاحنا المعنوي "التعاطف الدولي"ملازم لنا في جميع المناسبات، كما وعلى أولي الامر من قيادتنا، أن يعيدوا النظر في كل العمل الوطني، وعليهم أن يعيدوا حساباتهم في المناهج التعليمية الحالية، بوضع خطط واستراتيجيات تثقيف وتعليم الجيل الحالي والقادم، بما يضمن اعادة البرمجة الذهنية الفلسطينية بما يواجهنا من مؤمرات ومكائد دولية: فإعادة تثقيف اطفالنا وطلابنا بمناهج تعليمية تبين الحقيقة التاريخية للقدس منذ عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب إلى تاريخ انهاء الدولة العثمانية بجميع جوانبها، والاسباب الحقيقة التي ادت إلى خلق كيان في قلب الامة، وتبيان حقيقة دامغة وفضح الغرب الذي كان أساس نكبتنا، بأن أنشأ ذلك الكيان لتحقيق مصالحه الخاصة الاستعمارية بغية زرع الفتن ما بين المسلمين واليهود، ليحقق أكبر قدر من الاستفادة من الثروات الطبيعية على حساب العرب، كما ويجب اعادة توجيه الخطاب للشعوب العربية والاسلامية بأسلوب علمي وحضاري، بأن القدس ليست ملكية خاصة للفلسطينين، وانما هي ملكية عامة لجميع العرب والمسلمين بقرار رباني، وأن الوجود اليهودي فيها من باب حسن الجوار وبما لا يتعارض مع العهدة العمرية، وأن وجود أهل فلسطين على الثغور حماية لكرامة جميع الشعوب من الخليج إلى المحيط، بما كرمهم الله بحق الرباط فيها إلى يوم يبعثون، لتغيير منهجية التفكير السلبي لدى بعض الشعوب العربية التي اتخذت للاسف اليوم من الصهيونية فكرا وشعارا، فهم لا يعوا إلى ما ينتظرهم من الشقاء والتعب، لأن تردادهم لشعارات غريبة عن بيئتهم والعمل على تطبيقها في اقطارهم، سيزيدهم بُعدا عن حقيقة ما ترمي إليه تلك الافكار، يوم لا ينفع الندم في اصلاح الدمار.