- 25 تشرين الثاني 2021
- أقلام مقدسية
بقلم سعادة مصطفى ارشيد
في أعقاب التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 ، أصدر عراب و مهندس تلك الاتفاقية ، شمعون بيرس كتابه الشهير : الشرق الأوسط الجديد ، و قد عبر فيه عن مجمل و خلاصة الرؤى السياسية لحزب العمل ( الإسرائيلي ) في حينه ، و قد اعتبرت نظرية شمعون بيريس أن شرق أوسط جديد آخذ بالتشكل ، وأن ( إسرائيل ) سوف تكون جزءا محوريا و شرعيا ومقبولا من النظام الإقليمي الناشئ ، الأمر الذي لم يعجب اليمين ( الإسرائيلي ) في حينه ، و أثناء إلقائه محاضرة في مجموعة من الطلبة ( الإسرائيليين ) لتسويق نظريته الجديدة ، هاجمه طلاب إحدى الجامعات من المتطرفين اليمينيين ، متهمين إياه بالتخلي عن الحق التوراتي الرباني ، و عن مشروع ( إسرائيل) الكبرى ، أجابهم ساخرا : انه هو و نظريته من يعملون لتكريس الحق الرباني و ( إسرائيل ) الكبرى ، و لكن مع تغير العالم ، فلم يعد ذلك ممكنا بالسيف و الكرباج و البندقية ، و إنما بالتكنولوجيا و الاقتصاد و مشاريع الربط الاقتصادي ، فهذا العالم دائم التغير و التطور ، و أنهى كلامه قائلا : لا تقولوا أنني قد تغيرت ، و إنما العالم من حولي قد تغير . وهكذا فان المشروع الغربي الصهيوني لا زال ثابتا في جوهرة و مضمونة ، وإن مس التغير من مظهره و شكله الخارجي فقط .
يوم الاثنين الماضي ، تم الاحتفال في إمارة دبي بالتوقيع على اتفاقيتين بين أطراف ثلاثة ، الأردن ، الإمارات و( إسرائيل ) و ذلك بحضور السياسي الأمريكي المخضرم جون كيري ، الاتفاقية الأولى تهدف إلى إنشاء حقول خلايا شمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية في صحراء الأردن لصالح توريدها وبيعها ( لإسرائيل ) ، و الاتفاقية الثانية تهدف إلى بناء محطة تحليه مياه على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، حيث تحلية مياه البحر المالحة ، و يتم ضخ الناتج المحلي للأردن – طبعا بثمنه - وكانت الجهات الرسمية الأردنية قد بالغت مؤخرا بالحديث عن أزمة مياه خطيرة تواجهها المملكة ، تهيئة لقبول الرأي العام بها ، علما أن الحوار والمفاوضات حول الاتفاقيتين كان قد انطلق بعيد توقيع اتفاق ( أبراهام ) بين الإمارات و البحرين و ( إسرائيل ) .
هكذا يكون شرق أوسط شمعون بيرس الذي بشر به في كتابه ، قد أخذ يأخذ شكله العلني الفج و الوقح ، الدفع باتجاه جعل الترابط و التشبيك الاقتصادي والتكنولوجي واقعا حقيقيا معاشا، فهذا الارتباط والتشابك يجعل من احتمالية المواجهة العسكرية و السياسية ضعيفة ، و تحتاج هذه الاتفاقيات لمنظومات استخبارية وأمنية مشتركة لحماية المشاريع من أية تهديدات مشتركة ، فالسلام أمر واقع , ويمثل حاجة و ضرورة لأطرافه ، ثم أن هذا يحد من التشبيك والترابط القومي والعربي إلا إذا تم عبر الشريك ( الإسرائيلي ) ، الذي سيمثل القاسم المشترك داخل الدائرة القومية والعربية ، و بالطبع هذا ما نراه اليوم على الصعيد الرسمي ، و لكن النظرية هذه ترى أن الصعيد الشعبي لن يلبث أن يلتحق بالرسمي و بفضل الثقافة النيو – ليبرالية في المجتمع و الاقتصاد ، و منطق السوق وجعل لكل شيء قيمته المادية المعزولة عن قيمته القومية و الوطنية و الأخلاقية ثم بعد ذلك ، أن الحكومات سوف تأخذ بطريقة تشعر مواطنيها بلذة ثمار هذا السلام ، فهذه المشاريع التي تكون بها ( إسرائيل ) طرفا رئيسا ، هي القادرة على إيصال الكهرباء إلى بيوت المواطنين دون أن تنقطع ، و هو ما تعجز عنه الدولة الوطنية ، لا بل و حتى أي مشروع قومي لا تكون ( إسرائيل ) طرفا به ، و هذه المشاريع هي التي تدرأ عنه العطش ، الذي تبالغ فيه المصادر الحكومية ، و تهدده المشاريع الإقليمية ، فإثيوبيا تفترس سدودها مياه نهر النيل و تعطش مصر و السودان ، و تركيا بدورها تفترس مياه دجلة و الفرات مهددة سوريا و العراق بالعطش و الجفاف .
لما كان موضوع اتفاقيات الكهرباء و الماء هو شاغل المحتفلين يوم الاثنين الماضي في إمارة دبي ، إلا أن مفاعيل اتفاقيات التطبيع المعقودة و التي ستعقد قريبا تبدو مفاعيل نشطة ، و أدراج أطرافها مزدحمة بالمشاريع التي لا حصر ولا عد لها ، و التي ستجمع كثيرا من المحتفلين الموقعين قريبا ، وذلك بعد ما تأكد أن الاتصالات السعودية - ( الإسرائيلية ) قد قطعت أشواطا قربتها من خط النهاية ، التي قد تعلن قريبا إما على شكل زيارات متبادلة لمسئولين من الدرجة الأولى ، أو بالإعلان المباشر عن التطبيع الإبراهيمي ، و لعل احد المشاريع المرشحة للإعلان عنها قريبا ، هو الشروع بالعمل لإنجاز و تشغيل خطوط سكة حديد تربط مينائي حيفا وأسدود بالشرق ، مع استخدام بقايا خطوط سكة الحديد العثمانية .
في فلسطين الحزينة ، ينهار ما تبقى من المجتمع تحت وطأة صراعات عشائرية و حقوقية ، فيما تعجز السلطة عن حلها إلا باللجوء إلى شيوخ العشائر الذين أصبحوا حاكما بديلا للسلطة القضائية ، والسلطة تعاني أيضا من أزمة رواتب قد تكون مماثلة لازمة المياه في الأردن ، أي أزمة ذات وظيفة لتبرير ما هو قادم ، و غياب فلسطين عن هذه الاتفاقيات ما هو إلا غياب ظاهري أو مؤقت ، بالطبع المبرر يتم العمل عليه ،ماذا تفعل الحكومة أمام أزمة الرواتب مثلا ؟ و أمام التزامات كذا .....؟ أكثر من أي وقت مضى ، يكشف بؤس السياسات المتبعة منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو ، و لم يعد بالإمكان الاختفاء وراء رفع علم أو إصدار طابع بريد أو تعطيل المدارس والجامعات و الدوائر الرسمية احتفالا بعيد استقلال ، و لم يعد سرا أن ، جبل أوسلو لن يتمخض إلا عن فأر حكم ذاتي على بعض مناطق الضفة الغربية فقط ، فهذه جزء يسير من حصة ( إسرائيل ) الإقليمية ، فقد أخذت تركيا ما تعتقد أنه حصتها من سوريا و العراق بالاحتلال ، و من ليبيا بالنفوذ والسيطرة على بعض البلد وقيادتها ، فيما تأخذ ( إسرائيل) حصتها في الضفة الغربية ، أكثر مما أخذته تركيا ، و لكن باحتلال ناعم مجمل مناطق شاسعة، دون عساكر و هدير آليات الحرب ، و دون خسائر ، لا بل و مع أرباح استثنائية .
الحكومات التي تشارك في هذه المشاريع و تلك اللاحقة بها قريبا ، لا زالت على وفائها بان تستعمل اللغة البائدة – القديمة في بياناتها النمطية : نقف إلى جانب الأشقاء في فلسطين ، و لا بديل عن حل الدولتين ، وأن الدولة الفلسطينية يجب أن تقوم على كامل حدود أراضي الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس ، هذا على صعيد القول ، أما على صعيد الفعل ، فانه يذهب باتجاه ما ورد بالمقال أعلاه .