• 21 كانون الثاني 2022
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : سعادة مصطفى ارشيد

 

 حسب ما يرى علم الديالكتيك القديم أن مسار الزمن يسير كالنهر، فالماء يجري دوما باتجاه واحد، نحو البحر و لا يمكن له العودة بالاتجاه المعاكس، أضاف كارل ماركس في نسخته من الديالكتيك، أن الزمن من الممكن أن يتكرر مرتين فقط، الأولى على شكل ملهاة و الثانية على شكل مأساة، اتفق كثيرون جزئيا مع مقولة ماركس هذه، و لكنهم رأوا أن الحدث قد يتكرر مرات عديدة و قد تتبدل مواقع الملهاة و الكوميديا لتتأخر عن المأساة التراجيدية .

 فأي من ولايتي ترامب ستكون الملهاة و أيها ستكون المأساة الأولى أم تلك التي قد تأتي في وقت ليس ببعيد ؟ من شبه المؤكد أن ترامب في حال عودته سيبقى على التزامه بالترامبية، و إن كان لا احد يستطيع الجزم،, ثم أن السنوات الثلاث بانتظار الانتخابات الأمريكية القادمة في زمن أصبحت السرعة من سماته قد تغير الكثير مما بين أيدينا من معلومات و تخمينات، إنما يجوز الافتراض و التوقع ,فهل سيكون ترامب قد أدرك مقادير قوة الدولة العميقة في بلادة و سيسعى للتفاهم معها؟ أم انه سيبقى على اشتباكه معها مدعوما بجمهور ناخبيه البيض؟ و في المجال الخارجي سيكون أمامه عالم جديد قد اختلف عن ذلك العالم الذي تعاطى معه في ولايته الأولى، عالم قد ساهم في صنعه غريمه و نقيضه جو بايدن، عالم قد غادره حليفة السابق و خذله مؤخرا نتيناهو، كما مستشاره ألمانيا القوية أنجيلا ميركل، و قد يكون قد غادر موقعه مكارون فرنسا و جونسون إنجلترا و رجب طيب اردوغان و غيرهم، عالم تكون إدارة بايدن قد أبرمت فيه اتفاقا مع طهران، عالم تكون الصين قد أطبقت فيه على طريق الحرير و روسيا قد أتمت العمل على خط غاز شمال البلطيق ,عالم قد لا يكون – أو قد يكون النظام الصحي العالمي قد وجد طريقة للتعاطي مع جائحة كورونا و متحوراتها، عالم تكون قضايا الطاقه و البيئة و التكنولوجيا قد أصبحت أكثر إلحاحا، فكيف ستتعامل النسخة الترامبية الثانية مع كل ذلك وكما مع مسائل شرقنا الحزين ؟

 على صعيد أوروبا الحليف التقليدي، سيعود للتعاطي معها بمنطق أميركا أولا وثانيا و ثالثا، و هي ليست ندا أو شريكا و إنما ملحقا بالولايات المتحدة، قد تتغير بعض التفاصيل في الأداء و لكن الثابت في ميزانية الناتو ترامبيا يجب دعمها من جميع الشركاء لا من الولايات المتحدة فقط فعلى أوروبا أن تدفع ربما يشكل شبيه لطريقة دفع الملك السعودي المعروفة، خاصة و العالم يرى و يسمع تفاصيل أداء زعماء أوروبيين و فضائح فسادهم التي نالت من هيبتهم و هيبة بلادهم ربما باستثناء ألمانيا حتى الآن .

 الصين ستكون أكثر راحة و أقوى في التصدي للسياسات الأمريكية الثابتة ضدها، خاصة و أن طرقها البرية الآمنة و السريعة و الزهيدة التكلفة ستوصل منتجاتها إلى أماكن بعيدة بسهولة ويسر، و ستكون من اقل الدول تأثرا بالكساد الاقتصادي العالمي، كما أن اذرعها الناعمة العاملة بصمت ستكون قد أنجزت اتفاقيات اقتصادية و سياسية و ربما عسكرية – أمنية في أنحاء عديدة من العالم .

 لعل روسيا ستكون من الدول الأكثر راحة و الأشد ابتهاجا في حال عاد ترامب، فقد احتفظ ترامب بعلاقة مقبولة مع بوتن، سبق و إن أثارت شبهات حول دعم هذا الأخير له انتخابيا، و هي شبهات استغلها خصومه الديمقراطيون، وان كانت فكرة محاصرة روسيا ستبقى نشطة في العقل الجمعي الامريكي . 

في عالمنا العربي ستدفع عودة ترامب باتجاه مزيد من التطبيع العلني بين دول عربية و (إسرائيل )،- إن بقي أحد من أولئك القوم لم يطبع - باعتبارها انجازا سهلا لسياسته الخارجية، السعودية مثلا و كذلك يمن عبد ربه منصور هادي إن كانت لا زالت موجودة، أما ارتفاع أسعار البترول في السوق العالمي و الذي تجاوز مؤخرا حاجز 80 دولار الأمر الذي سيزيد من مداخيل دول البترو دولار، و هذا ما سيزيد أيضا من شهبه ترامب لاستلاب ما سيترصد في حسابات تلك الدول، يساعده على ذلك الرعب الذي أصاب الإمارات اثر الهجوم اليمني الأخير على مطاراتها و الذي ستنتقل عدواه لغير الإمارات من الدول التي تقتل باليمن و أهله، أو لمن اعتقدت الإمارات أنها باتفاقياتها التطبيعية الأمنية و الاقتصادية ستجد لديه الحماية و إذا به يخشى أن تصل المسيرات اليمنية إلى ايلات، هذا و قد اتضحت استراتيجية اليمن التي تقضى بإطالتها لاستنزاف خصومة وارهاقهم, فهم اعجز من أن يستمروا بالقصف، و أكثر هشاشة من احتمال الضربات في عمقهم، إذ لا يستطيعون على المدى البعيد أكثر من دفع المال .

 تركيا و اردوغان على موعد قريب مع انتخابات ليس من السهل التنبؤ بنتائجها، و لكن البلد ستكون موضع اهتمام إدارة ترامب و ذلك في مقابل أوروبا التي لا تريد الاعتراف بغربيتها من جانب ,ثم لثبات ولائها لحلف الناتو و أن اتخذت سياسات مخالفه أحيانا من جانب آخر، ولضرورات ملء الفراغ الناشئ عن تقليص التواجد الأمريكي في الشمال السوري و غرب العراق.

 إيران ستكون مصدر صداع لترامب و مشكله من مشاكله، في الغالب ستكون قد وقعت اتفاقها النووي مع الإدارة الحالية، إيران الحذرة و التي لا تلدغ من جحر واحد مرتين، ستكون حريصة كل الحرص على أن يكون اتفاقها هذا ملزما للدولة الأمريكية لا لرئيس بعينه و لا يستطيع خليفة الرئيس نقضه كما حصل في الاتفاق السابق مع إدارة اوباما، و هي حريصة أيضا على ضمان للمستقبل من ناحية أن لا تكون التجارة الإيرانية أو أموالها المجمدة رهينة مرة أخرى و ذلك بإخراجها من منزلقات المسالك المصرفية و المالية الأمريكية أولا و الغربية ثانيا . لذلك سيبحث ترامب عن مجالات اشتباك مع طهران، للاشتباك معها عبر حلفائها، الأمر الذي ينذر دمشق و الضاحية الجنوبية و غزة بأوقات قد تكون صعبة . 

فلسطينيا، سيعمد ترامب في غالب الأمر إلى إهمال السلطة الفلسطينية وإلى عدم فتح أية آفاق سياسية تفاوضية معها، فالمسالة لا تبدو ملحة، اللهم أن حصلت على الصراع مستجدات رفعت من حرارته، كما قد يخرج الشأن الفلسطيني من أدراج البيت الأبيض إلى دائرة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية أو إلى مكتب فرعي من مكاتب وكالة المخابرات المركزية، حيث ستدار الأمور على طريقة الباب الدوار، بحوارات و زيارات و وفود لا تقدم شيئاً، مصاعب السلطة المالية قد تزداد فالدعم المالي سيعود إلى التوقف أو التدفق بضعف كما في ولاية ترامب السابقة و لكنه سيبقى متواصلا للأجهزة الأمنية و بشكل مباشر، دون المرور بالحكومة أو وزارة المالية، وكالة غوث و تشغيل اللاجئين ( انروا ) ستعاني من أحوال مالية صعبة حيث ستكون ممن ينالهم التضييق المالي .

 الالتزام بدعم ( إسرائيل ) سيبقى على حالة إن لم يتزايد، سواء عسكريا أو ماليا أو سياسيا و في المحافل الدولية الدبلوماسية و القضائية، و ذلك بغض النظر عن انسجام ترامب و أركان أدارته مع الحكومة الحاكمة في حينه، و في حال استمر العمل على تقليص التواجد العسكري في الإقليم، فستكون ( إسرائيل ) هي المستفيد الأول، خاصة أن صح الافتراض بتصاعد الصراع مع إيران عبر دمشق و الضاحية و غزة .

 بما أن عودة ترامب غير المباركة واردة، فبعض العالم يستعد و بعد العدة لموجهتها كالصين و إيران، فيما بعض العالم عليه أن يستعد لها بتقديم ما يطلب منها في المال و السياسة و من هؤلاء بعض عالمنا العربي، و علينا أيضا في مشرقنا الشامي الاستعداد و وضع تصوراتنا لهذه العودة المحتملة قبل أن تتداركنا الأحداث .