• 14 آيار 2022
  • أقلام مقدسية

بقلم : تحسين يقين

 

كقريبة لهم، بكاها الناس بحزن عميق.. أختا، ابنة..

 كان الظن انها ستنجو من الإصابة؛ مبكرا كنت بالأرض، أنافس أشعة الشمس الأولى، "أبحش" حول شجرات العنب، وأنزع الحشائش والأشواك الضارة، لم تكن سوى دقائق حتى يأتي خبر استشهادها، فألقيت فأسي، وبكيت هناك..في ذلك الفجر، ولم أدر أنه بعد ساعات ستبكيها الملايين.

لأحزن قليلا، ولتختلط حبات الدمع بالندى بالعرق معا..

أربع جنازات، لم يحظ أحد بمثلها، فقد ودّت الملايين تشييعها ووداعها، تدخل بها موسوعة غينيس للأرقام القياسية، ينسجم ذلك مع حجم الجريمة، ابنة الاحتلال الذي ‏يحقق دوما الأرقام القياسية في الانتهاكات بحق الإنسانية.

الأكثر حضورا على مدى أيام، والأكثر تداولا في عالم الكلمة والصورة، حتى أنها كانت في غيابها كانت الأكثر حضورا..

كل فلسطيني وفلسطينية هنا، له قصته مع شيرين، ولي قصتي، لك، لنا، قصتنا هنا وصورتنا وصوتنا، وهكذا سيمر شريط أمام عيني لحياتها، منذ عرفناها كمواطنين وإعلاميين، على مدار أكثر من 25 عاما، حيث كنا نغادر عشرياتنا من العمر، لندخل تجربة التحولات الوطنية هنا، منذ ما بعد أوسلو، مرورا بالانتفاضة الثانية، حتى الآن.

كنت أتابع خبر اقتحام مخيم جنين مبكرا، قلت ما هؤلاء الغزاة الذين لا ينامون ولا يتركوا الناس تنام؟!

يسوّق الاحتلال فعله الإجرامي باقتحام المخيمات بمرر محاربة الإرهاب، كذب الاحتلال، ولو أراد فعلا اعتقال أي مطلوب، لاستطاع من خلال استخباراته الوصول إليه بشكل مفرد، لكن الواقع أن الاحتلال هو الإرهاب، وهو أكبر إرهاب يا شيرين أبو عاقلة التي ستظلين طويلا تفضحينه.

هو أكبر من أي (إرهاب فردي)، لأنها تنسب نفسها للدول، إنه يعني إرهاب الدولة الرسمي المنظم، والذي وصل قبحه ووقاحته، حد البث المباشر أمام عالم لا ترى دوله الكبرى إلا ما تود أن تراه طالبة ودّ دولة الاحتلال.

ما هي قضية فلسطين الا الأرض، وها أنذا سأجد نفسي غاضبا بعد حزن، أضرب بنصل الفأس عمق الأرض، لك الرحمة يا شيرين، هناك استودعت يا رب روحها، لروحها السكينة، وهكذا همست بسورة الفاتحة.

كقريبة لهم، بكاها الناس بحزن عميق.. أختا، ابنة..فعلا، لأنها عاشت بين الناس، في فلسطين، بينهم كانت، لم تنقل صوتهم فقط، بل نبض قلوبهم، وكثيرا ما كانت تغلبها الدمعة، واليوم ها انت شيرين تركت كل دموعك لنا، ولكن سنستلهم منك الأمل نحو التحرر، غير مكتفين بالبكائيات ولا الرثاء.

"وفي فيديو ترويجي بثته الجزيرة في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي بمناسبة الاحتفال بذكرى تأسيسها ال25، قالت أبو عاقلة: "اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلا ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم…أنا شيرين أبو عاقلة".

فعلا أنت شيرين أبو عاقلة، لقد أوصلت صوتنا للعالم كله.

واليوم أكملت رسالتك كأروع ما يكون إيصال الرسالة، لعلنا فعلا نتعمق أكثر بالرسالة والرسولة.

"فلسطينية العينين"، وعربية العينين، بكل ما في الوجه من محبة، ما جعل قناة الجزيرة تختارها لتكون أول من يفتتح بثها المباشر من هناك، بعد تحسن العلاقات القطرية-المصرية والسماح للقناة بالعودة إلى القاهرة.

تنقلت شيرين في أماكن متعددة، وبالرغم من أن الكثير من الإعلاميين/ات ربما يحبون السفر خارجا، إلا أننا كنا نكتشف أنها كانت تختار فلسطين وطنها للعمل والإبداع، ومن هنا كان الوطن هو سرّ من أسرار نجاحها، ولم تكن تنقصها لا الموهبة ولا العلم ولا المهنية؛ فهناك إجماع على ذلك، وهناك إجماع على محبتك ايتها الزميلة الرائعة فعلا.

 أتخيلك الآن تنظرين تجاهنا، تجاه نفسك وانت محمولة على أكتاف أبناء شعبك، وأتخيل كيف يمكن أن يرثي الإنسان نفسه، فعل ذلك محمود درويش، الذي أظنك الآن في ضيافته،..قليل من هو مثلكم، ومثلكن، لم تتركوا لنا فعلا إبداع رثاء يليق.

لن تتفاجئي بالجموع، وأنت من تحظين بجنازات أربع في جنين ونابلس ورام الله والقدس، وجنازات رمزية في كثير من الأماكن، لأنك انتميت لهؤلاء الناس الطيبين والمناضلين/ات.

سترين الكثير من الوجوه الذي تعرفينهم، ولا تعرفينهم، لكنه يعرفونك جميعا ويحبونك طويلا، وأنت من اخترت وطنك أسرة، والناس أهلا لك.

من حظي مثلك بمراسم شعبية ورسمية؟ خرج الناس ليودعوك حبا لا وظيفة، يليق بك وانت من وهبتهم وقتك وأزهار العمر، سيطول عطرها..

ما الذي سنصفك به، ونحن نتذكر أول صوت من أريحا، قبل 28 عاما، هنا صوت فلسطين، وانت تثيرين المهنية الجمالية والوطنية في اسجام هارموني لم نجد له مثيلا، حيث برز ذلك وأنت تنقلين رسائلك من أكبر فضائية.

تروي شيرين أبو عاقلة، "أن من أكثر اللحظات التي أثرت فيها هي زيارة السجن والاطلاع على أوضاع أسرى فلسطينيين، حيث قضى بعضهم ما يربو على 20 عاما خلف القضبان".

الحرية..للأسرى ولشعبنا ووطننا..

عاشت شيرين على أمل نقل صورة التحرر وصورته، سيستلم الميكرفون تلميذ لك أو تلميذة..بشغف وحب ومهنية.

الآن أتذكر أحد تغطياتها لأحداث المسجد الأقصى، كانت هناك تجلس على درجات مسجد قبة الصخرة، بتواضعها اللافت للنظر، وأدبها الجمّ، وهي مدرسة خلق جميل فعلا كما يروي زملاؤها وزميلاتها الذين يعرفونها. كانت متحدة بفضاء المسجد روحيا، كان وجهها مشرقا، كنا دوما نشعر أنها تعمل فعلا، تعدّ بانهماك، غير مكتفية كونها نجمة تلفزيونية، لذلك ستمضي وهي تترك وراءها تلاميذ كثيرين وتلميذات جادين وجادات.

جئنا، نحن الكتاب والصحفيين/ت في بداية التسعينيات، كانت مدريد، فأوسلو، نحن متجايلون/ات، اجتهدنا في أفعالنا، نحن في عالم المكتوب، وآخرون في عالم المسموع والمرئي، وهي منهم، كنا نتابع بعضنا بعضا؛ فالمجال في ظل ما بعد أوسلو، كان دافعا لنا للتجريب، على أمل الوصول الى صوتنا الخاص، للكتابة والإعلام، بالاستفادة من جهود إعلامية نجلها، منها ما استمر حتى اللحظة، في الوطن والشتات، وأظننا وقفنا على أرض صلبة. 

وأنت يا أستاذة شيرين، وقد تحملت مسؤولية نقل صورة فلسطين عبر أكبر قناة فضائية، وفي ظل تغيرات عالم السياسة، وعلاقة ذلك باتجاهات الإعلام، لم تجدي غير بوصلة الحقيقة، لذلك احترمك الجميع، احترمك المتنازعون والمتصارعون، والمختلفون، وهم الآن معا مجمعون على حبك واحترامك.

انت من فرض الأسلوب والمضمون والمهنية العالية، حتى وأنت تنقلين آلام شعبك، فلم يجد هناك من يعترض، فوصلت الجميع. تلك عبقريتك.

نختم أم نبتدئ؟

قلت يا أختاه: 

"اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلا ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم…أنا شيرين أبو عاقلة".

كنت وما زلت..

وصلت الرسالة.

ها نحن نعود منها للأرض، والوطن الجميل، لعلنا نزيل كل ما هو ضار، ونزرع الأمل ليخضرّ ويثمر، أما أنت أيتها الخالدة، فارقدي في القدس التي احبتك وأحببتها، تطلين جنوبا فترين الخليل التي كانت لك دوما فيها تغطيات صحفية، تطلين غربا، فتكاد أمواج بحر يافا تصل قدميك، أما الباقون هناك فيذكرون وقفاتك الداعمة لهم في الحياة الكريمة، وانت التي تعاملت مع فلسطين الواحدة..

صحيح أنه سيفتقدك الميكروفون والكاميرا والقلم والورق، وعشرات الملايين، ونحن، ولكن سيكون لرحيلك حيوات أخرى، حيث ستحل روحك في عالم الصحافة والإعلام.