• 5 حزيران 2022
  • أقلام مقدسية

 

 بقلم : تحسين يقين

الدرس الشخصي الأسري والوطني لخالتي: بإمكان الفلسطيني أن يعيش بكرامة إن عرف قيمة أرضه، فهي لن تخذله، ولن يحتاج لأحد، فمن خلال ما وهبت فلسطين من مناخ معتدل، فمعنى ذلك استمرار الفصول، وكما قيل "اللقمة من الفأس قبل الفكرة من الرأس".

للأرض رسائلها دوما التي يلتقطها من عاشها وعرف قيمتها، فمن هذا التراب عشنا، وعرق الآباء والأمهات، والأهم: يمكننا أيضا دوما أن نعيش ونبقى بها.

كيف بقينا وكيف سنبقى؟

الجواب لدى الفلسطينيات أينما كنّ، ومنهن خالتي.

نحن بحاجة لهذه القدوة، لتقرير كل ما بين أيدينا لنستثمره الى آخر مدى ونظل هنا بقوة واقفين.

سأظل دوما متذكرا دعاءها الحكيم والذكي لنا؛ ولنا اليوم وغدا أن نتأمل عمق الأمهات والخالات والعمات والجدات والأخوات الكبيرات أيضا.

في الفترة الأخيرة، صارت خالتي تضيف "ويعين أولادكم" لدعائها العميق:

"الله يعينكم ع زمانكم"، ليصير ويعين ولادكم ع زمانهم؛ فهل هناك ما هو أكثر عمقا بتحولات الزمن وأثرها على الأفراد، حين تصبح الحياة أصلا محصلة لتحدي الإنسان لما يجدّ في الحياة من معان ومقتنيات؟

شريط من الذكريات، أول فتحت عيني، وصرت أعي من حولي، لتصبح هؤلاء الأمهات العظيمات جزءا مهما من تكويننا، الباقي فينا، وها أنذا اليوم، مثل آخرين، لا يذكرون خالتي عايشة إلا واقفة!

مثلت خالتي خصوبة الكون والأرض، كأم ظلت تنجب طوال فترة الإنجاب، لتمنح الأرض أطفالا وطفلات دائمين، ليصيروا أسرا جميلة، ليظل البقاء هنا في أروع تجلياته، فصارت الأرض أكثر خضرة، ولتعمّر المزيد من الأراضي لتصير جنائن وبساتين وثمرا شهيا.

سيرة حياة وأي سيرة تلك وأية حياة شهدنا وشاهدنا النصف الثاني منها، والذي تجلت فيه عبقريتها في إدارة الموارد البشرية والطبيعية، لتخلق دروسا في الاقتصاد، فبربكم، كيف عشنا وبقينا على هذه الأرض لو لم تكن هؤلاء الرائعات هنا؟

كانت خالتي أم فوزي تزهد كثيرا بالكلام والشكوى، لتستبدل كل ذلك بالعمل المتفاني منقطع النظير، حتى النهاية؛ فقد اهتدت لسر الكون، بأن أفضل الرد على آلام الحياة وتحدياتها هو العمل، والفعل الإبداعي؛ فلم يكن لخالتي مجال في القيل والقال، إلا بما يقوي الأمل ويشجع على الاستمرار.

قلت لها: الآن يا خالتي صرت أعرف معنى دعائك لنا، فابتسمت وقالت: ويعين أولادكم ع زمانهم، فندخل في نقاش إبداعي عن أمس واليوم وغدا، فتحدثنا عن رحلة الأهل منذ بداية القرن العشرين، وما عانوا، مؤكدة في كل مرة على أن العمل كان دوما هو من يساعد على البقاء، مبدية تضامنها معنا، ومع أولادنا وبناتنا، لما ينتظرهم من تعقيدا وتحديات، غير ناسية آلام الاحتلال.

تلك هي عمق البساطة، وبساطة العمق؛ مدرسة جيل من الأمهات والآباء، الاهتمام بالأسرة والاعتماد على الذات، لأن ذلك يقوي خلاصنا الوطني العام، فكل أسرة وكل أرض مزروعة لا تعني إلا محصلة جهد الحفاظ على الشعب والأرض.

كنت أصغي دوما لها تقديرا لرحلتها، وكانت تحب إصغائي، كأن خالتي أودعتني سيرتها، فأي مسؤولية تلك التي نتحملها، وكم  كان بين السطور من بوح، وكان كان اغروراق عيون، تختصر الأمل والألم، ليفتر ثغرها عن ابتسامة رضا، عن أداء رسالتها، ناظرة الى السماء حامدة شاكرة، لترضى بعدها على أولادها وبناتها، معتزة دوما بغرس أيديها.

في بداية فصولنا معها، يبدأ فصل نضال أبنائها جميعا، وما تبعه ذلك من معاناة اعتقالهم، وتنقلها بين السجون، وهي التي وقتها أصلا ممتلئ برعاية الأسرة الكبيرة، والأرض الجبلية الواسعة، ولم تكن قد التقطت أنفاسها ليرحل شريكها تاركا لها مسؤولية ثقيلة: متطلبات أسرة كبيرة، وأرض، واغتراب أبناء آخرين، واستحقاقات نضال أبنائها الذين كانوا من فرسان الانتفاضة الأولى، لم تعرف خالتي "من وين تلقاها"؛ فأية نفس عظيمة تلك التي تحملت، ظلت واقفة!

ترأست خالتي أسرتها بحنان وحسن إدارة، كان نهارها وليلها عملا ممتدا، كانت تستمد القوة من نظرتها نحو السماء الواسعة. وبذكائها الاجتماعي ثبتت ابنها شفيق الابن الأكبر في الوطن، ليكون مكان الوالد الراحل، في إدارة الأمور في ظل المجتمع الذكوري، وهو الذي صار رفيق الرحلة، حتى كبر الأبناء الصغار. من جهة أخرى، تعاونت الأم مع أبنائها المغتربين، يد على يد، وقلب على قلوب، لإيمانه بأنه "الوفق في رزق"، وكلنا نعلم دور المغتربين الفلسطينيين في دعم أسرهم في الوطن.

خالتي عايشة من جيل آمن بالأرض، التي تحمي وتستر صاحبها وتحميه، كما آمنت بالعلم والتعليم، حيث كانت ترسم لأسرتها طريق الخلاص، وطريق العيش الآمن.

أتذكر دوما رحلة خالتي الى الكروم، كنت طفلا في آخر السبعينيات، حينما كانت تمشي قريبا من المدرسة، كنت ابن 12 عاما، فبالرغم من اعتيادنا على عمل المرأة في الزراعة، إلا أن خالتي كانت في مرحلة معينة هي الأثنان معا الرجل والمرأة، كنت أنظر اليها ونحن في ملعب المدرسة، وقلبي قد طار مني ليحضنها، ليخفف بعض الحمل، من يومها بدأت أول دروس المرأة الفلسطينية، لنكتشف أنه كان أروع وعي تقدمي متجذر في الأرض، عمليا لا كلاما، فتلك هي مدرسة خالتي وجامعتها.

ماذا يعني أن تكون بكل هذه المسؤوليات التي كانت تزيد كل يوم وكل عام؟

عندما نكبر قليلا، ونسير في طريق الحياة، فإننا نتعلم معنى أن نكون وسط هذه التحديات، وهكذا كنت أقول لخالتي: "مش عراف يا خالتي كيف كنت شايلة هالحمل"، لتجيب بابتسامة ودمعة، وتختم ذلك بدعاء لي، حتى خالتي ربما كانت فيما بعد تستغرب كيف نجحت في تحمل المسؤولية.

في رحلتها مع أسرتها، وفي حسن إدارة كل شيء، علمتنا أن أي شيء مهم، وكل شيء مهم؛ ففي عالم الثمار، كانت تقدر هذه النعم، فما يباع، وما لم يباع فإنها كانت تحفظها بطرقها وطرق أمهاتها وجداتها الكنعانيات، ليظل الخير موجودا طوال العام شتاء كما صيفا.

منذ ثمار الخضار والورقيات، (وزريعة الندورة)، فالبرقوق والخوخ، فالعنب ورق الدولي والثمر، فالزيتون، وهي دائمة التواجد في الأرض، 

إنه تقدير عظيم للثمر، فلم تكن لتقبل لتركه دون اهتمام، مهما كان، تلك هي أسرار البقاء المقاوم يا خالتي ام فوزي. 

هي ابتسامة الرضى والحمد لا اللوم والعتاب والشكوى، فأية طمأنينة قد سكبت في روحها، وأي صبر جميل، وأي عطاء إلى آخر مدى!

بقاء أسرة خالتي وتقدمها وازدهارها، وحضورها الاجتماعي والوطني يدين لخالتي بالكثير، فهي المربية والعلمة بحنان وقدوة، فكان عملها الفعلي دعوة للأبناء والبنات للفعل.

ظلت الأرض "والشغل" في رأس خالتي وفي أطرافها، ولم يكن من أمنية أجمل من البقاء في الأرض، وتلك هي الحياة.

ظلت تطمئن على أولادها وبناتها والأحفاد، وأبناء الأحفاد. كل شيء مهم ويجب أن ننتبه له، ذلك هو درس خالتي، الذي ظلت تعلمه، ولعله هو مستخلصها من هذا الكون. 

من حنان خالتي العظيم ما ذكرته لي ابنتها، حيث كانت تحمل همّ أسرتها في يوم رحيلها، فهل هناك أعظم من هذه الأم!؟