• 8 آب 2022
  • أقلام مقدسية

 

 بقلم : داوُد كُتّاب

لم يتوقع الأطباء والممرّضات والنزلاء في مستشفى المطلع في القدس سماع مقاطع شعرية من الرئيس الأميركي الزائر جو بايدن، فقد استهل كلمته في زيارته المستشفى بقراءة بيت للشاعر الأيرلندي الكاثوليكي، روبرت فيتزجيرالد، من قصيدته "العلاج في تروي" التي تتضمن كلماتها إصرار التاريخ على ألّا يكون هنا رجاءٌ، وتنتهي بأنّ العدل لا بد أن يرتفع، وأن الأمل والتاريخ سيتناغمان. وقد علّق الرئيس الأميركي، وهو كاثوليكي من أصل أيرلندي، على القصيدة بالقول: "صلاتي أننا نقترب من تلك اللحظة حيث يلتقي الأمل مع التاريخ".

وكان بايدن قد بدأ كلمته بالقول إن عائلته "تأتي من أصول أيرلندية، وإنّ النضال الأيرلندي الكاثوليكي، وتاريخهم الطويل الذي دام أكثر من أربعمائة سنة، لا يختلفان كثيراً عن تجربة الشعب الفلسطيني وبريطانيا".

لم ينتبه كثيرون إلى هذه المقارنة بين النضالين الفلسطيني والكاثوليكي الأيرلندي، فعناوين الصحافة ركزت على تبرّع الولايات المتحدة بمائة مليون دولار لشبكة المستشفيات الفلسطينية في القدس، ثم انتقل الحديث للقاء بايدن بالرئيس محمود عباس، وجملته أنّ الوضع "غير ناضج" لعقد مباحثات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ثم زيارته كنيسة المهد في بيت لحم.

من يتابع الصراع في شمال أيرلندا ويتجول في أحياء مدينة بلفاست، يعرف بصورة فطرية عن تلك المقارنة، فالأحياء الكاثوليكية ترفع الأعلام الفلسطينية في حين أنّ بعضهم في الأحياء البروتستانتية يردّون برفع الأعلام الإسرائيلية. وقد قال لي أحد النشطاء الكاثوليك الأيرلنديين إنّ أكثر عنصر مقارنة بين الصراعين يتمحور حول ما يتعلق بالاستيطان. "من الممكن أن تتخلص من قوى الاحتلال العسكري يوماً ما، لكنّ الأصعب هو التخلص من الاستيطان المدني، فهو أكثر صعوبة بالاقتلاع". ومعروف أنّ بريطانيين بروتستانت من اسكتلندا استوطنوا في شمال أيرلندا في محافظات ألستر منذ القرن السابع عشر، وشكل ذلك عقدة، ولما اتحدت جمهورية أيرلندا بقي شمال أيرلندا جزءاً من المملكة المتحدة. واستمر نضال الكاثوليك من أجل وحدة جمهوريتهم سنوات طويلة، وشمل مقاومة سياسية ومسلحة، وانتهى الأمر (نسبياً) في ما سمي اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998 بين دولتي بريطانيا وأيرلندا، الذي وفر تشكيل كيان متعدّد الأحزاب في شمال أيرلندا يشمل الفرقاء المختلفين.

وكان التقارب الفلسطيني الأيرلندي أيضاً على مستوى المقاومة بين الجيش الأيرلندي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ممثل في لوحة ضخمة في مدينة بلفاست، تضم مناضلين فلسطينيين وأيرلنديين كاثوليك.

وقد ساعد موقف الفاتيكان المؤيد لنضال الشعب الفلسطيني وحقّه في تقرير المصير في تقوية الدعم الأيرلندي للقضية الفلسطينية، وقد تُرجم ذلك في أشكال متعدّدة، حين سمحت حكومة أيرلندا على سبيل المثال لا الحصر لسفن أيرلندية اتجهت لكسر حصار غزة.

ويقول متابعون إنّ التقدم الكبير في عمل الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ بالأساس سوقاً مشتركة، وتطوّر كثيراً مع السنوات، ساعد في تقليل الصراع الكاثوليكي البروتستانتي في شمال أيرلندا حيث فتحت الحدود، وبذلك قلّ الاهتمام بضرورة التركيز المبالغ فيه بشأن موضوع السيادة في شمال أيرلندا.

ورغم أنّ أساس المشكلات في فلسطين جاء على يد اللورد بلفور، البريطاني البروتستانتي المتشبع بالفكر الصهيوني المسيحي، فإنّ هناك اختلافات جوهرية بين الصراعين. فعلى سبيل المثال، لا يوجد هناك تصاهر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما هو بين الكاثوليك والبروتستانت وحرية التنقل والسكن مفتوحة بالاتجاهين. ورغم النظرة الفوقية البريطانية للكاثوليك الأيرلنديين، فإنّ هناك تشابهاً فكرياً ولغوياً وثقافياً، ما هو غائب بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

تدخل المقارنة مع أيرلندا في الفكر الفلسطيني من ناحية التفكير بموضوع الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية، وهو خارج نطاق فكر (وتوجّه) غالبية المتابعين للحركة الوطنية الفلسطينية، الذي تنحصر فيه استراتيجيتهم وأديباتهم في ما يسمّى حلّ الدولتين، أي الانفصال عن الإسرائيليين، وليس إيجاد حلّ تشاركي تتساوى فيه حقوق المواطنة. ويرى من يعارض المثال الأيرلندي أنّ المثال الأكثر ملاءمة لفلسطين هو الجزائري، المبني على المقاومة العسكرية، وتطهير الوطن من المستعمر الفرنسي. لكن قد تكون المشكلة الأكثر تعقيداً هنا وجود مئات آلاف من المستوطنين المستعمرين في فلسطين، ما سيصعّب تطهير الوطن منهم.

يبقى أنّ قصيدة الشاعر الأيرلندي الكاثوليكي، روبرت فيتزجيرالد، عن ضرورة التناغم بين التاريخ والأمل توفر فسحة من الأمل، لمستقبل ترتفع فيه العدالة، وتسود فيه الحرية والسلام والكرامة.

العربي الجديد