• 6 تشرين الثاني 2022
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : تحسين يقين

سيبكي كثيرون وكثيرات؛ فالفقد أكبر المآسي، لكن تظل الدموع الزائر الدائم لمن فقد الأحبة، ومرّ هو الفراق، مرّ جدا، ووحده تحقيق الهدف سيخفف الحزن. وهنا في هذه اللحظة التاريخية، سيكون لنا ما نرويه؛ فما معنى الوجود الآن لنا غير أن نسرد قصتنا. ولكن ونحن نروي فإن هناك ما ينبغي فعلا عمله، وهناك ما لا ينبغي فعله. وسيكون للكلمة معنى إن كانت فعلا نبيلا.

كل وجيله، ولي أن أذكر بعض تفاصيل الطفولة، حين كنا أولاد البلد معا، حتى افترقنا كبارا، فلم نعد نلتقي إلا قليلا، فلا نجد غير التحية، وكل يمرّ سريعا الى بيته وعمله؛ فللخمسينيين مثلنا في بلدنا أن نتذكر طفولتنا حين نلتقي معا، ومنا من صار له أحفاد وحفيدات.

نحن بشر يا بشر، ومن حقنا أن نعيش بكرامة وأمان، وسرور، ومن حقنا التنقل بسهولة ويسر في فضاء المكان؛ فكيف تستلب الحركة، والبصر، والصوت، والضحكة الحلوة!

الشهيد حابس ريان، كل وله قصصه ورواياته، عرفناه باسم حابس، لكن حين انتقلنا الى مدرسة أخرى، عرفنا أن اسمه آخر حبّاس، هو الاسم الرسمي، لنكبر قليلا ونعرف أن الاسم هو صيغة مبالغة، أي كثير الحبس. لكن أولاد بلدنا ظلوا ينادونه باسمه الأول، فانقسمنا في المدرسة الجديدة بين ما ينادي بحابس وحبّاس.

ولأن قرية بيت دقو صغيرة، تجمعنا علاقات القرابة، فقد عرفنا من أين جاء الاسم، فحباس الطفل والفتى والشاب والشيخ الباسم، بل البسّام، أطل الى الحياة ووالده يقضي حكما لثلاث سنوات منذ الاحتلال عام 1967.

لم نعرف هذه المعلومة إلا متأخرين، فهو المولود عام 1968، ونحن نكبره بعام واحد، فقد كان عام الهزيمة عام مولدنا، لكن حينما كنا في الصف الثاني، وهو في الصف الأول، اعتقل والده المرحوم الحاج عبد الحفيظ ريان أبو سعود، مع آخرين من القرية، عام 1974، أعاد الحدث التفكير بالاسم، فربطنا المعنى أكثر.

 ولأته يقيم في النوادر (البيادر) البعيدة 200 متر عن (الحويطية) مكان بيتنا، فلم نكن نلتق إلا القليل، فوالدته الحنونة والمبتسمة دوما، أم مسعود، ابنة عمتي أديبة، أم المأمون. لكن حين التقينا في مدرسة بيت دقو، تعرفنا على بعضنا أكثر و أكثر، خصوصا أن المدرسة الصغيرة كانت تجمع كل صفين في غرفة واحدة، ونحن نكبره بعام، وعلى ذلك التقينا في الثلاث غرف القديمة، التي للأسف تمت إزالتها لتوسيع المدرسة فيما بعد.

لم يكن لا حابس ولا نحن نعرف ما حدث قبل سنوات، حين استشهد خاله المناضل أمين ريان ابن عمتي، عام 1968، ولا أنا كنت أدري، لكن لفت نظري دموع عمتي في أيام العيد، وكم التقت دموعها بدموع والدي، ووالدتي، فكنت أحزن لذلك، لكن دون أن أدرك، فلعل والدي كان يشفق علينا حين كان يقول لنا "روحوا يابا العبوا"، ربما ليبكي الجميع براحة.

لذلك نشأنا بقلوب حنونة، ومنا حابس، أبو عاصم. ومن المواقف التي أذكرها، أن معلما طلب من الأطفال أن يلقي من يحب نشيدا، وحين بدأ الطفل الذي كانه، انسابت دموعه على خديه، فشجعه المعلم فتابع، ومن يومها ربما دخل الطفل قلبي وما خرج، فليس غريبا، أنه من أكثر من يجمع على حبه أهل بلدنا.

لم يكن الشيخ حابس يتحدث إلا والابتسامة في وجهه، ومن تعامل معه يعرف كم كان مثلا حنونا على من يعمل معه، حيث كان بناء ماهرا، لكنه كان الأكثر زهدا وصبرا على مستحقاته.

كبرنا، وجربنا الأفكار، التقينا واختلفنا، كالكثير من الشباب في الثمانينات، لأسافر بعدها وأتخرج، ولننشغل بالأعمال، كل ومهنته، لكن تجمعنا مهنة الزراعة. وها قد ملأ الشيب ما تبقى من شعر رؤوسنا.

لم يكن سهلا سماع خبر الاستشهاد، فهو رغم كرامته، فقد للأحبة، وألم للأهل الأحباء، فوجعهم موجع، في ظل استشهاد ابن عمه الشهيد داود ريان الذي سقط وهو يقاوم اقتحام جيش الاحتلال للقرية فجرا.

داود، مبتسم مسالم، رب لأسرة كبيرة، في آخر الثلاثينيات، ليس من جيلنا، لكنه  من المحبوبين في البلد. أصيب أمامنا في ليلة قبل سنوات، من قناص محتل أصاب بطنه، وحين حاولنا الوصول اليه، منعنا جنود الاحتلال. حضر مسعفون جنود الاحتلال، واقتدوه الى المستشفى فالمعتقل، ليصيبه هذه المرة قنّاص آخر، لكن في مقتل.

هؤلاء أهل بلدنا، وأهل فلسطين المحتلة اليوم، وهناك مسؤولية عظيمة تقع علينا:

فلسطينيا، من المهم اليوم أن نستعيد الكل الفلسطيني، الشاب منه على وجه الخصوص، من أجل الحماية فعلا، ومن أجل ما تقتضيه المسؤولية من فعل وتوجيه فعل، نحقق فيه مكاسب سياسية على الأرض، لا المزيد من الدماء والدموع والخسائر.

لا مجال لبقاء الاحتلال، ولا مجال أبدا لاستمرار انتقاص كرامة أبناء وبنات شعبنا، فالحل العملي والاستراتيجي هو جلاء الاحتلال، والبدء بإيجاد حل للمستوطنين، لكن لا حساب الأرض المحتلة عام 1967، فما دام إسرائيل شعبا وقيادة تنزاح الى اليمين بهذا النحو، فمعنى ذلك لا بد من الانسحاب، وإقامة دولة فلسطين.

وعبه، فإن أي تحرك عربي وعالمي، ينبغي أن يحسم الأمر: إنهاء الاحتلال وتوابعه؛ فإسرائيل الشعب والحكومة لا يريدان لا دولة تضم الجميع، ولا دولتين، فالمطلوب أن تحدد إسرائيل بدقة موقفها من الشرعية الدولية، وماذا تقترح لإنجاز عادل لفلسطين؛ لأن اليمين لن يأتي بالأمن ولا اليسار، بل من يأتي بالحل هو السلوك العقلاني، فحين يخرج علينا سياسيون إسرائيليون يلوحون بلغة القوة، فمعنى ذلك أن الحل سيأتي بلغة القوة، ومعنى ذلك، قمع الفلسطينيين بشدة، وبالتالي تعريض الإسرائيليين لمشاكل متنوعة، حصوصا للمستوطنين.

على العالم أن يطلب من إسرائيل شعبا وقيادة أن تجيب عن تلك الأسئلة، على المستويات السياسية والفكرية والعسكرية والأمنية أن تفكر فعلا بمسؤولية، وباحترام شديد لشعب فلسطين أولا، وللأمتين العربية والإسلامية، والعالم كله، إلى أين أنتم ماضون؟ 

إذا كان الحديث عن حل سياسيّ، فأهلا بالحلول العادلة بعيدا عن الدم، وإذا كان الحديث المزيد من الاحتلال وسلب أكبر فضاءات ممكنة من الضفة الغربية، وتضييق الحال، فلن يكون من السهل تنفيذ ذلك، حتى بالقوة.

نحن في عام 2022 بعد الميلاد، ليس من السهل أن يقبل طفل في العالم انتقاص لكرامته حتى ولو جاء الفعل من أعزّ النّاس.

وفي ظل الحروب والتحالفات المتنوعة والمتحولة، ليس أمام إسرائيل الا التغيير، لا الاستمرار بذات العقلية.

لم تكن الكرة أمام إسرائيل كما هي أمامها اليوم، لتخلص ونخلص جميعا، فكما إننا نحن شعب فلسطين ننشد الخلاص من الاحتلال، يجب أن تسعى قيادات إسرائيل من جميع المستويات أن تتخلص من هذا الفعل. إن تخلّص إسرائيل من واقع احتلال شعب آخر، سيكون بداية الحل الحقيقي، وإلا تفعل فستعود الحالة سيرتها الأولى، والتي لن تكون مضمونة النتائج.

في جميع الأحوال لننجز فلسطينيا أمرين: التصالح الحقيقي والانتخابات، ولنسع مخلصين لتسليم أمانة الحكم والإدارة للشباب، معيدين النظر في نظمنا الاقتصادية والتعليمية والثقافية.

ورحم الله شهداء فلسطين.