• 14 تشرين الثاني 2022
  • أقلام مقدسية

                    

 

 بقلم : أحمد صيام 

واهم من لا يعتقد أن مدينة القدس تعيش اسوء حالاتها منذ سقوطها تحت الاحتلال البريطاني عام 1917 واخضاعها كسائر ارض فلسطين تحت سلطة انتدابه ، حيث تتعرض لابشع حملة تهويد طالت الحجر والبشر والشجر، واحتلال لا يدخر جهدا في تسخير الاوضاع لصالحه وتجنيد الداعمين والاموال الصهيونية المحلية والدولية لتحقيق احلامه التي طالما كانت تراوده في المدينة المقدسة ، والقائمة على مبادىء دينية يهودية وايديولوجية صهيونية . 

وفي صلب هذه الحملة إستهداف المقدسات الاسلامية والمسيحية ، وعلى وجه الخصوص المسجد الاقصى المبارك والحلم الصهيوني الكبير بفرض السيطرة الكاملة عليه وهدمه واسكات اصوات التكبيرات التي تصدح منه يوميا لتذكر العالم بما يحيط به من مؤامرات واستهداف خطير ، واقامة الهيكل المزعوم على انقاضه لا قدر الله ، ومن ثم الانتقال للمقدسات المسيحية لاسكات اصوات القيامة التي لم تكف اجراسها عن قرع ترانيم المحبة والسلام الحزينة منذ سقوطها تحت قبضة الاحتلال الاسرائيلي ، انطلاقا من الايدولوجية اليهودية الصهيونية الزائفة ، القائمة على طمس اي بعد اسلامي مسيحي في المدينة المقدسة  وانكار الاخر . 

وليس بعيدا عن ذلك ما تمارسه سلطات الاحتلال الاسرائيلي من اجراءات اقتصادية خانقة على المواطن المقدسي خاصة والفلسطيني عامة ، والتضييق عليه للحد من تمدده الديموغرافي في القدس وبالتالي دفعه للتفكير بهجرة طوعية عن ارض الاباء والاجداد ، إضافة الى محاولات استبدال الثقافة العربية المتأصلة ، وطمس التاريخ والجغرافيا وأسرلة التعليم والكثيرمن الاجراءات التعسفية الهادفة الى توسيع دائرة عملية التهويد ، وما بين هذا وذاك محاولات اختراق البنية الاجتماعية والمجتمعية وخلخلة المجتمع عبر اختلاق الفتن والمشاكل الداخلية والطائفية وزرعها بين ابناء الشعب الواحد . 

في المقابل ، وعلى الجانب الفلسطيني لم تصمت الاصوات  – الرسمية والشعبية – عن المناداة بالقدس عاصمة ابدية للدولة الفلسطينية المستقلة القادمة ، وضرورة التصدي للاجراءات الاسرائيلية الاحتلالية ، ولكن من دون صدى يذكر أو اجراءات عملية على الارض ومن دون اسناد مالي او سياسي واضح ومباشر، والمواطن المقدسي يجد نفسه في اغلب الاحيان وحيدا في معركة الدفاع عن الكرامة التي يخوضها نيابة عن اكثر من مليار عربي ومسلم ، ولعل الاحداث التي شهدتها المدينة المقدسة في السنوات الاخيرة والتصدي البطولي للمقدسيين في الدفاع عن المسجد الاقصى وسائر مقدساتهم ووجودهم ، كان بلا سند او مرجعيات تذكر رغم تواجد بعض الرموز التاريخية والدينية والتي كان لحضورها وتفاعلها ، التأثير الايجابي على القرار الشعبي بالتصدي للاجراءات الاحتلالية ، ما ولد شعورا لدي اهل المدينة المقدسة انهم بلا اب او راعي يتابع همومهم ، وأيتاما على مائدة اللئام ، خاصة وان هناك شخوص تعتبر نفسها رموز لكنها مستحدثة على الواقع النضالي وبلا بعد تاريخي غابت عن المشهد المقدسي في حينه ، ويمكن القول ان هذا الشعور اخذ بالتجلي والظهور الى العلن بعد استشهاد أمير القدس فيصل الحسيني ( ابو العبد )  رحمه الله ، والذي كان يشكل حاضنة شعبية للكل المقدسي يفتقر لها اهل القدس حتى اللحظة  . 

بعد غياب فيصل الحسيني ومن بعده الشهيد الرمز ياسر عرفات الذي كان يولي القدس الاولوية القصوى وينقل عنه رحمه الله عبارة شهيرة كان يرددها دوما يتمحور مضمونها حول ( انه قام بشراء القدس خمسين مرة !! ) ومنذ ذلك الحين تلبدت الغيوم في سماء المدينة المقدسة ، وتسارعت الخلايا السرطانية الاستيطانية الاحتلالية في التمدد بين ثناياها واطرافها ، وتعدد وتنوع العاملون فيها ، رافعين شعارات رنانة بان القدس عربية وعاصمة ابدية للدولة الفلسطينية ومن الضرورة تغليب المصلحة الوطنية العليا ، ولكن دون شواهد حقيقية على الارض ، ما خلق شكلا من اشكال الفوضى الوطنية والوظيفية ، وسهل عملية التهرب من المسؤولية لتجد كل جهة تلقي باتهاماتها على الاخرى ، ما افقد القضية المركزية اهميتها وسهل للاحتلال واعوانه اجراءات التهويد ، ناهيك عن تهديدات الاحتلال لبعض الفاعلين الناشطين بالقدس باجراءات عقابية تعسفية بحقهم ان مارسوا نشاطاتهم ، ما اوقعهم في دائرة الاستسلام للامر الواقع ، واضعف العمل الوطني وخلق فجوة بين المواطن ومن تطلق على نفسها قيادة او مرجعية واخلاء الساحة للاحتلال واعوانه يفعلون ما يحلو لهم بحق المدينة وسكانها ، يضاف الى ذلك شح الموارد التي تصرف على القدس والتي لا تلبي ادنى الاحتياجات الملحلة قياسا بالموازنات الاسرائيلية. 

ويمكن القول في ضوء ما سبق ان الاحتلال الاسرائيلي نجح الى حد كبير في التمكن من القدس وبات قوسين او ادنى من تقويض العمل الفلسطيني بكل اشكاله وصولا الى تحقيق احلامه والحد من الوجود العربي ، واختراق الجبهة الداخلية للفلسطينيين وكذا الجبهة العربية ، بدعم امريكي منقطع النظير ، خاصة مع اعتراف الرئيس الامريكي الاسبق دونالد ترامب بالقدس موحدة وعاصمة لما يسمى  " دولة اسرائيل " وما تلى ذلك من اتفاقيات مع كيانات عربية والتطبيع معها تاركين الفلسطينيين وحيدين كما جرت العادة ، ولكن هذه المرة بشكل صريح وعلني ومن دون خجل او احساس بالانتماء العربي والروابط المستركة التي تجمع الشعوب العربية . 

ما دعا القيادة الفلسطينية للنظر الى القضية على محمل الجد  والعمل على توحيد المرجعيات المقدسية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بالرغم من القيود الاحتلالية الاسرائيلية على عملها والتنكر لاتفاقيات الاعتراف المتبادل  بين الجانبين ، فاجمع المجلس المركزي الفلسطيني في دورته ال 31 على توحيد المرجعيات المقدسية في إطار دائرة القدس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، والعمل على بلورة استراتيجية وطنية لمواجهة الاستراتيجية الاسرائيلية ، تقوم على ربط المواطن المقدسي بقضيته الوطنية وتستجيب لحاجاته بما يخدم مشاريع مدروسة تهدف الى تعزيز صمود المقدسيين ومؤسساتهم على اختلاف وظائفها ، وتبني رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية وخطط عملية مدعومة مالياً لمواجهة سياسة التهويد والضم . 

ومن أهم وظائف هذه المرجعية الموحدة حسب ما اتفق عليه وطنيا - وهو ما قد جرى البدء به على الفور ووضع اللبنات الاساسية الاولية منه - وضع برنامج عمل وطني نضالي متفق عليه بعيدا عن التنظير والمؤتمرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، يقوم على السعي الجاد لتوفير مقومات الدعم بشتى اشكاله وتعزيز الصمود في القدس وفي مقدمة ذلك احتضان الطاقات النضالية الشابة المرابطة والتي تواجه الاحتلال واجراءاته التعسفية الوحشية ، ما من شأن ذلك ايضا ان يعمل على التخفيف من تداعيات العمليات الانتقامية لسلطات الاحتلال بحق ابناء المدينة المقدسة ، ضمن برنامج استباقي مضاد ، يحاصر الاستهداف الاسرائيلي للقدس ومقدساتها واهلها ، وتشكيل جبهة داخلية متماسكة تكون القدس بوصلتها وتخدم المصلحة الوطنية العليا ، لا المصالح الفئوية او الذاتية ، والشروع بحملة محلية وعربية ودولية تحذر من مخططات الاحتلال ومحاولاته طمس المجتمع المقدسي ، او صهره بالثقافة الاحلالية المستوردة دون حقوق او منحه حقوق منقوصة  تمهيدا لازالته . 

الخطوة التي اقدمت عليها القيادة الفلسطينية ، من دون شك هامة جدا وبالاتجاه الصحيح ، خاصة انها تؤكد على مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية ، شريطة الجدية المطلقة في قضية التمسك بالقدس عاصمة ابدية للدولة التي تنشدها بمعنى الكلمة .

 ولكن قبل ذلك القيادة الفلسطينية مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى وخاصة بعد جنوح المجتمع الاسرائيلي لليمين المتطرف حسب ما ظهر جليا في الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة ، وضع قضية القدس واهلها ضمن الاولويات القصوى وحشد القوى المحلية والاقليمية والدولية وكشف الزيف الاسرائيلي الذي رفضته الشرعية الدولية في اكثر من مناسبة والتاكيد على الوجود العربي الفلسطيني في المدينة المقدسة وتعزيزه بتعزيز صمود المقدسيين . 

وقبل ذلك كله ، القيادة مدعوة لاستغلال مخرجات القمة العربية الاخيرة التي انعقدت في الجزائر ، على احسن وجه ، والتي اكدت على مركزية القضية الفلسطينية وضرورة مواصلة الجهود لحماية القدس ومقدساتها والدفاع عنها تصديا لمحاولات التهويد والأسرلة ، عبر اجراءات تغيير ديموغرافيتها وهويتها العربية الاسلامية والمسيحية والوضع التاريخي القائم فيها ، لذلك فالقيادة مطالبة بضبط  جميع الرؤى الاخرى العاملة في القدس والتي تغرد خارج السرب وكما يبدو غير معنية بالقرار الوطني الفلسطيني وفق ما يتضح من الاجواء وتعمل بشكل منفرد ، بعيدا عن العمل الوطني الجماعي ومن دون خطة استراتيجية واضحة المعالم ، بل وتصر على العمل بخلاف ذلك القرار بما يتعارض والمصلحة المقدسية الوطنية العليا ، ولا تعير اي اهمية للاعتبارات الوطنية ، ولا تأخذ التحديات الخطيرة التي تواجهها مدينة القدس واهلها على محمل الجد ، لا لغرض ، الا وكما يبدو لتعارضه ومصالح فئوية او ذاتية لهذه الرؤى ، ما قد يعرض قرار المجلس المركزي الى وأده قبل ولادته ، وربما تلك فرصة ذهبية تقتنصها القيادة للرد وتفويت الفرصة على المحاولات الشعبية الاخيرة الداعية الى اصلاح منظمة التحرير الفلسطينية واعادة الاعتبار لها كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني في كافة اماكن تواجده ، حيث تبدأ عملية الاستنهاض للمنظمة  من القدس . 

وهنا تكمن الاستحالة في تطبيق نظرية  توحيد المرجعيات بشكل متكامل قبل ضبط  الامر مركزيا  بالرؤية الوطنية المجمع عليها ضمن اطار منظمة التحرير الفلسطينية ، وهو ما يعني اعادة ملف القدس الى الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كما كان في عهد الراحل فيصل الحسيني ، وحل كل ما يتعارض وقرار المجلس المركزي من لجان عاملة في مدينة القدس وحولها ومنع تشكيل أي لجنة تتضارب والقرار الوطني وتوسيع نطاق العمل ليسع جميع الجهات الفاعلة والناشطة في المدينة المقدسة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ، والإستعداد لمواجهة تداعيات الانتخابات الاسرائيلية من مبدأ الدفاع عن الوجود وحماية المستقبل الفلسطيني في مواجهة التطرف الايدولوجي المتجدد والمتصاعد لدى المجتمع الاسرائيلي .

 فالصراع يدخل مرحلة جديدة قد تكون الأخطر على القدس والقضية الوطنية منذ وعد بلفور المشؤوم ، حرب تلمودية مفتوحة بقيادة الإرهابي " بن غفير " وريث الكاهانية الجديدة التي باتت تمثل بوصلة الاحتلال الإسرائيلي وحكومته اليمينية العنصرية القادمة بقيادة  نتنياهو المعروف بعقائديته وفساده ، وربما تنتقل الى حرب تصفية وإقتلاع وإستئصال ضد كل ماهو مقدسي فلسطيني عربي ،  المواجهة المفتوحة والشرسة المنتظرة مع حكومة اليمين الفاشي المقبلة فاصلة في مستقبل القدس على وجه الخصوص والقضية الفلسطينية على وجه العموم ، وتبدأ بالوحدة والتوحد والإتحاد والتوافق على برنامج وطني للمواجهة والتصدي للمشروع التلمودي الصهيوني بكل تجلياته ، التهديد والخطر وجودي في جوهره ونتائجه لا يحتمل المغامرة أو المقامرة او التراخي او التآمر او الكيد  للاخر لان تداعياته ستطال الكل دون استثناء .