• 26 كانون الثاني 2023
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : أحمد صيام 

يخطئ الكثير من الإعلاميين والسياسيين حين الحديث عن المسجد الاقصى المبارك ومحاولات استهدافه والانتهاكات الاسرائيلية بحقه ، بدعوة سلطات الاحتلال الى الحفاظ على الوضع القائم فيه وعدم المساس بقدسيته ،والأصل في ذلك ، ان الدعوة يجب ان تكون إلزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالحفاظ واحترام الوضع التاريخي القانوني للمسجد والذي يعود الى القرن الماضي وربما أكثر من ذلك ، الى ان يزول الاحتلال عنه ويعود للمسجد بهاءه الاسلامي . فما الفرق بين الوضع القائم والوضع التاريخي القانوني للمسجد الاقصى ؟ 

بداية يجب التطرق الى الوضع التاريخي ، والذي يعود الى العقد الثاني من القرن الماضي ، بمعنى الى العام 1924 ، حين تبرع الشريف حسين بن علي ، شريف مكة ، بمبلغ خمسة وعشرين الف جنيه ذهبا الى صندوق المجلس الاسلامي الاعلى في فلسطين لاعمار المسجد الاقصى ، واطلق على تلك الخطوة بالاعمار الهاشمي الاول ، ومن ثم البيعة التي نتجت عن مؤتمرقيادات ومؤسسات مقدسية وفلسطينية عقدته في مدينة القدس وبايعت الملك عبد الله بن الحسين ، وكان حينها ما زال اميرا ، بالوصاية على المدينة ومقدساتها الاسلامية والمسيحية ، ومنذ ذلك الوقت الى اللحظة تتمسك المملكة الاردنية الهاشمية بالوصاية الهاشمية والدور التاريخي لإدارته لمدينة القدس ومقدساتها ، والاعتراف الدولي بهذا الدور من قِبل المؤسسات الدولية والأممية ودول كبرى، وصولا الى اعتراف الاحتلال الإسرائيلي ودولة فلسطين المحتلة بحق الأردن بالوصاية على القدس والمقدسات بموجب اتفاقيات وادي عربة عام 1994 ، والتي بموجبها اعترفت سلطات الاحتلال بوحدانية الدور الاردني في رعاية المقدسات الاسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الاقصى المبارك ، ومن ثم الاتفاق الاردني الفلسطيني الذي ابرمه الملك عبد الله بن الحسين والرئيس محمود عباس عام 2013 ، والذي اكدت بموجبه منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية على دور ملك الممكلة الاردنية الهاشمية ، صاحب الوصاية وخادم الاماكن المقدسة في القدس ، ودوره فيه بذل الجهود الممكنة لرعاية والحفاظ على الأماكن المقدسة في القدس وبشكل خاص الحرم القدسي الشريف وتمثيل مصالحها في سبيل تأكيد احترام الأماكن المقدسة وتأكيد حرية جميع المسلمين في الانتقال إلى الأماكن المقدسة الإسلامية ومنها ، وأداء العبادة فيها بما يتفق وحرية العبادة وإدارة الأماكن المقدسة الإسلامية وصيانتها بهدف احترام مكانتها وأهميتها الدينية والمحافظة عليهما وتأكيد الهوية الإسلامية الصحيحة والمحافظة على الطابع المقدس للأماكن المقدسة واحترام أهميتها التاريخية والثقافية والمعمارية وكيانها المادي والمحافظة على ذلك كله ، اضافة الى متابعة مصالح الأماكن المقدسة وقضاياها في المحافل الدولية ولدى المنظمات الدولية المختصة بالوسائل القانونية المتاحة والإشراف على مؤسسة الوقف في القدس وممتلكاتها وإدارتها وفقا لقوانين المملكة الأردنية الهاشمية . 

وفي الحديث عن الوضع التاريخي لا بد من الاشارة الى العهدة العمرية والتي اختلف المؤرخون عليها حول عبارة " ان لا يسكن بايلياء معهم احدا من اليهود " حيث نفى البعض ذكر هذه العبارة مستشهدين بان اي من اليهود لم يكن يسكن القدس في ذلك الوقت ، فيما اشار البعض من المؤرخين الى رفض بطريرك القدس صفرونيوس تطبيق التسامح الاسلامي مع الاديان والسماح لبعض عائلات اليهود بالقدوم من مصر والسكن في القدس ، ولكن خبث اليهود المعهود من الازل لم يخل من ادعاءات يهودية ، حيث تدعي رواية يهودية بأن اليهود طلبوا من الخليفة عمر بن الخطاب السماح لهم باستقدام مائتي عائلة يهودية من مصر للسكن في القدس، ولكن البطريق صفرونيوس عارض ذلك، فسمح الخليفة العادل الخطاب لسبعين عائلة بالحضور من مصر وأسكنهم جنوب الحرم القدسي ، حسب الرواية اليهودية ، وما يشير الى كذب هذا الادعاء ، ان مصر كانت قد فتحت بعد فتح القدس بأربع سنوات ، ومن المحتمل أن عبارٍة: أن لا يساكنهم فيها اليهود ـ المذكورة في النصين إنما تدل على أن القدس ـ كما هو معلوم تاريخيا ـ كانت خالية من اليهود ، ولم يرغب النصارى أن يسكنها اليهود من جديد تحت حكم المسلمين، وليس كما فسرها اليهود من أن اليهود كانوا يسكنون في القدس ، واشترط النصارى على المسلمين إخراجهم منها.  

وعند الحديث أيضا عن الوضع التاريخي لمدينة القدس لا بد من الإشارة الى " الستاتيكو العثماني " الذي صدر عام 1852 والذي يقوم على تثبيت حقوق كل طائفة وجماعة دينية كانت موجودة في القدس دون السماح بإحداث تغيير فيما كان عليه الوضع منذ ذلك التاريخ ، والاغلب ان هذا الستاتيكو قد اختص بالعلاقة المسيحية المسيحية ولم يكن فيه ذكر لليهود . الا ان اليهود ومن خلال ادعاءاتهم الزائفة واستخدام كل وسائل المكر والخبث تمكنوا من انتزاع فرمانا من الباب العالي العثماني يبيح لهم الصلاة عند الحائط الغربي للمسجد الاقصى ، وإقامة شعائرهم أمامه ، شريطة عدم الإخلال بالوضع القائم واستفزاز مشاعر غيرهم من الطوائف التى تسكن المكان ، وأشارت دراسات بحثية إلى أن السلطان العثماني سليمان القانوني أصدر فرمانا يقضي بالسماح لليهود بمكان محدود للصلاة عند الحائط الغربي وهو حائط البراق.  

واخيرا لدى الحديث عن الوضع التاريخي للمسجد الاقصى لا بد من الإشارة الى لجنة التحقيق الدولية عام 1929 والتي تشكلت عقب أحداث ثورة البراق ، في مجلس عصبة الأمم يوم 14 كانون الثاني 1930، وخلصت إلى أن ملكية حائط البراق تعود إلى المسلمين ، ولهم وحدهم الحق العيني فيه ، كما رأت أن الحائط الغربي يعد جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم القدسي الشريف التي هي من أملاك الوقف ، وأضافت أن لليهود الحق في حرية الوصول إلى الحائط الغربي لإقامة التضرعات (الصلوات) في جميع الأوقات مع مراعاة عدد من الشروط . وفي واقع الأمر، فإن اللجنة أقرت الوضع القائم الذي كان سائدًا في عهد العثمانيين .

قبل يومين تعهد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو للعاهل الاردني باحترام " الوضع القائم " في المسجد الاقصى وذلك في محاولة منه لامتصاص الغضب الاردني في اعقاب اقتحام وزير الأمن الداخلي المتطرف بن غفير للمسجد في خطوة اعتبرها باكورة توليه منصبه الجديد ، وهي خطوة تحمل في ثناياها الكثير من التحديات . وفي الوقت الذي أصدر فيه نتنياهو تعهده ، تحدى بن غفير من جديد بتصريح : " انه مع الاحترام للأردن فلن يكف عن اقتحام المسجد الأقصى " . 

الاسرائيليون خير من يجيد فن الخداع والكذب والتلاعب بالكلمات والمفاهيم ، ومن دون شك ان ما يخرج من افواههم من تصريحات ، يخفون من خلفها الكثير من الأهداف السامة ، ومنذ اللحظة الأولى لسقوط الجزء الشرقي من القدس في حزيران 1967  عملت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تغيير الواقع الذي كان عليه المسجد الأقصى المبارك  قبل ذلك التاريخ ، ومن الواضح من ممارساتها المختلفة أنها لا تفكر أبداً في العودة إلى ما كان عليه قديما ، وتسعى كما تدعي للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد، خطواتها إن أنكرت ونفت تدل على ذلك ، وما تقوم به من حفريات أسفل المسجد ومنع ادارة الاوقاف الاسلامية من أعمالها وخدماتها للمسجد واقتحامات مستوطنيها المستمرة وأداء صلوات تلمودية في ساحاته ، الا اشارة واضحة لا لبس فيها إلى هذه النية ، بلوغا للهدف الاسمى في نظرهم ، وهو الاستيلاء على المكان المقدس والمباشرة ببناء الهيكل المزعوم على أنقاضه لا قدر الله . 

ومن هنا يأتي التباين بين الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك والوضع التاريخي القانوني ، والاختلاف في المفاهيم و النوايا المبطنة ، فالاسرائيليون يتمسكون بعبارة " الوضع القائم " وهو متغير وفق نواياهم ويسير في فلك المحاولات المستمرة لفرض أمر واقع جديد يتيح لهم هامش كبير من السيطرة على المكان في غفلة من الزمان كما جرى مع الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل ، وعلى غفلة من عيون الامتين العربية والاسلامية النائمتين ، على أمل أن يجري التعايش معه محليا وعربيا واسلاميا ، وتنتهي القصة في نظرهم . 

فيما الاردن بالمقدمة ومن خلفه الفلسطينيين وبعض من العرب والمسلمين يتمسكون بالوضع التاريخي القانوني الثابت الذي يحافظ على قدسية المكان واسلاميته . 

ان ما تقوم به سلطات الاحتلال في القدس والمسجد الاقصى تصعيد خطير تجاوز الخطوط الحمراء ، حيث لم يعد الأمر مجرد "زيارة" وهي في الأصل اقتحام بالقوة ، انما مشروع تلمودي صهيوني مخطط له منذ عقود طويلة وسلطات الاحتلال لا تدخر جهدا في استغلال الفرص لتوجيه الضربة القاصمة للمسجد الاقصى ، ولأجل ردع سلطات الاحتلال عن تنفيذ مشاريعها واستهدافها للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس ، وفي ظل حالة الوهن العربي والإسلامي الراهنة ، وإلى أن ينظر الله في أمر كان مفعولا، من الممكن ان تكون هناك خطوات أولية بسيطة للغاية ، ما هي الا " اضعف الايمان " ولكن من شأنها التأثير سلبا على الاحتلال وإجراءاته وتجبره على التوقف ، او حتى الابطاء من التنفيذ ، ومن أهمها التواصل الدولي والضغط باتجاه فرض عقوبات ومقاطعة اقتصادية للاحتلال والداعمين له ومنتجاتهم ، وتوفير الدعم المعنوي والمادي للفلسطينيين عامة والمقدسيين على وجه الخصوص لتعزيز صمودهم وتمكينهم من تقديم الغالي والنفيس وما يتوفر بين أيديهم لنصرة المقدسات . فأبناء الشعب الفلسطيني وأهل المدينة المقدسة الذين يعتبرون رأس الحربة وخط الدفاع الاول عن كرامة الامتين العربية والاسلامية ، ومن خلفهم الشعوب العربية والاسلامية قاطبة ، لا ينظرون الى المسجد الاقصى وكنيسة القيامة ، كمكان للعبادة ولا يتطلعون لمجرد الوصول اليه للصلاة فقط  ، لأن ذلك مكفول ومشروع الاهيا ودنيويا ، لن يستكينوا لإجراءات الاحتلال ، ويتطلعون إلى تحرير فلسطين ، واستعادة وطنهم كاملا ، وتطهير مقدساتهم ، وفرض سيادتهم الوطنية .