• 13 حزيران 2024
  • أقلام مقدسية

 

﴿ ۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾
(الإسراء

بقلم : الشيخ مازن أهرام 

 

تختلف الحكايا والقصص عن الأباء بين العائلات المقدسية فلكل حكاية وقصة لها ميَزة ونكهة زمانها ومكانها سردها وما لها من تأثير حُفرت ذكراها بين الضلوع والشرايين وأخذت تخفق مع كل قطرة في القلب 

هناك من يطيب ذكره في كل الأوقات، هناك من مرّ كعابر سبيل، وهناك من تمنّين عدم مروره. ربما تختلف طرق التربية بين أب وآخر، لكن لا يمكن أن ننكر أنه في بعض الأحيان، رغم القسوة التي يظهرها، حِرصاً على فلذات أكباده تفلت منه لحظة حنان لا يُنسى أثرها مدى الحياة.

عندما نصفُ عظمة الأب تظل جميع حروف اللغة العربية عاجزة تماماً عما يختلج في الفؤاد ، تعجز الكلمات عن وصف الأب بأي عبارة!!! 

فهي لغةُ شوقٌ وأذواق ودموع ساكبات تُذْرف من مُقلةُ العين كلما تذكرت معنى الفقد آه من الفقد ما أوحشه في سجى الليل البهيم ولمة الناس الحزانى آه وألف آه ....  

   فمن يدري يعذرني والعذر مقبول 

كلما قرأتُ نصوصاً كتبتُها لسنوات خلت، أو تذكّرتُ أموراً فعلتها أو قلتُها أو حتى فكّرتُها فيما مضى، شعرتُ بالعجب، حيال النار المتقدة التي كانت مستعرة فيّ القلب تُجاه ما أضحت إليه مدينتي وما ألت إليها حالها وناسها أهلها بيوتها وحواريها ودروبها فأين الذين قضوا ؟

لا يعني هذا، في أي شكل من الأشكال، أني انطفأت، أو بردت، بل على العكس، لا أزال مُشتعلٌ كبركان، ملتهبٌ كشمس في حر اللظى، بل لعلني صرتُ أكثر تأججاً من ذي قبل. لكنّ الفرق أني أصبحتُ اليوم أدرك،  ويكفيني فخرا ان جذوري ضاربة في قاع هذه الأرض المباركة ومن يتحداني في اصولي عليه ان يثبت قبر ابيه وجده أولا أو يصمت. 

فحينما يغلب عليك الشوق تتمنى أن تنقلب وجوه الناس كلها وجهاً واحداً في مدينتنا العتيقة فهي لغةٌ إذا وقَعَت على أسماعِنا كانت لنا بردًا على الأكْبادِ رغم تهيج الفؤاد 

هنا البداية هنا النهاية ولكل منا حكاية 

حاولت جاهداً  الاستماع لقصة مرت عليها سنوات خلت من صديق صدوق حميم بعد أداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ونحن نسير والقبة الذهبية يتلألأ نورها تلامس نسائم السماء

قص على حكايته، فحالي كحاله وقصته أشبه بقصتي وإن اختلفت المسميات   فالعبرة أن البيوت المقدسية تتمازج   أتراحهم وأفراحهم على حد سواء 

فقد أبيه غدراً من بطش الإحتلال عام 1967م تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ، زوجة تركها زوجها وهي في ريعان شبابها بعد أن أنجبت منه أبناء وبنات عناية الله كفيلة فلتكن مشيئة الله

كل شيء بيد الله، ما دام كل شيء يرتبه بحكمته وسابق علمه وكل شيء على وشك أن يتحقق بالمشيئة الإلهية، سننتظر كل شيء من المستقبل، ولا بد أن يجيء الخير منها فقط في الوقت المناسب.. 

فكما قال الرافعي "أعلم أن الآلة التي تدير هذا العالم إنما تُدار من فوق حيث لا تصل إليها اليد التي تحاول أن توقفها أو تبطئ من حركتها أو تزيد فيها".

ناهيك عن ظلم ذوي القربى حينما تتقاذف الأمواج أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

ومن خلف الستائر تُحاك التوجيهات و المداولات والقرارات دون هوادة

نحن أولى بتقرير المصير بدل أن تُمد يد العطف والحنان أستذكر الحديث الشريف لنبي الرحمة صلوات ربي وسلامه عليه  

فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما)،

 لعلّ الجواب الذي نطق به لساني، قذفته الأفكار المتصارعة داخل رأسي عن صورة الأب في حياة ابنائه، تراءت أمامي صورة والدي... والدي الذي جعلني أكون ما أنا عليه الآن! أيُعقل؟

 أيُعقل أن يمسح بعضُ الآباء صورة الرجل السند والحامي وكل صفات الأبوة ويترك عند بناته تجارب أليمة ومؤذية؟

نعم، فقدتُ والدي... وبعد رحيله، صرت أسمع الكثير عن قصص رحيل الآباء وعلاقتهم مع عائلاتهم. الآن أجد نفسي متأرجحة على خشبة بين أمواج من التساؤلات، أتأرجح بين صورة والدي الجميلة وبين ما أرى من صور لرجال آخرين؟ وأما عن أبي فهو سندي ومسندي واتكائي عُمقي وقوّتي ومُلكي ومملَكتي  

قصة الشوق القديم بي دموعا وبي حنانا.. أبي مازال الذي سكن القلوب والأهداب. أبي فهو سندي ومسندي واتكائي عُمقي وقوّتي ومُلكي ومملَكتي   وضلعي الثابت الذي لا يميل.....   

أكثر ما أحاول إخفاءه هي حسرتي على فقدان الأب، لكن ملامح وجهي تفضحني في كل مرة أذكر اسمه، ربما حسرتي تأكلني لأني على يقين أنه منذ رحيله لن يكون هناك شي كما كان على الإطلاق. ولكن في كل مرة سأستجمع قواي، لأن أهم ما كان يريده هو ألّا أغرق في دوامة الظلام والحزن…

 وحتى في آخر لحظات حياته، طلب مني وأخواتي أن نتمسك بالسعادة في تفاصيل حيواتنا الصغيرة. كيف لذاك القلب أن يمتلك كل تلك الطاقة من الحب؟ كيف لرجل يعلم أنه يعيش آخر لحظات حياته وكل ما يفعله أن يذكرنا بالسعادة. الخسارة شي مؤلم فكيف لنا أن نشرح خسارة الأب؟  

ليس لدينا أي فكرة عما إذا كانت ثقافتنا التي تربينا عليها ستتعامل مع الموت بالطريقة الصحيحة أم لا، تلك الفكرة التي زرعوها في عقولنا منذ الصغر أن الموتى يعيشون في أولئك الذين تركوهم وراءهم تجعلني أنزعج بشكل كبير، لكن ربما هذا صحيح، نحن جزء منهم، جزء من أولئك الذين نحبهم ورحلوا.

بعض التجارب تجعلنا أقوى، يمكن أن تجعلنا أكثر لطفاً وأكثر تقديراً للحياة. بعض التجارب تجعلنا نندهش من قوتنا، تدهشنا أننا استطعنا الاستمرار رغم كل الألم والوجع. وهذا شي يجعل أولئك الذين رحلوا يشعرون بالفخر.

الحزن على فقدان الأب عملية صعبة وشاقة تستنزف طاقتنا، تجعلنا لا نرى الضوء في نهاية النفق رغم وجوده. لكلّ من مر بهذه التجربة أو من يمر بها الآن... كل التعازي لقلبك الذي ينزف، إذا كنت تخطيت ذلك يمكنك فعل أي شيء

كي لا ننسى الأم 

وبما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث جعل الأم أولى الناس بحسن الصحبة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا رَسُول اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ

قال صلّى الله عليه وسلّم- قال: (رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ).

 (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)