- 20 تموز 2024
- أقلام مقدسية
بقلم الباحث فــوّاز إبراهيـــم نـــزار عطيـــة
إن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي صدر يوم 19/7/2024، له أهمية قانونية لأهل فلسطين عامة وأهل القدس خاصة، بما سيتبعه من تبعات وآثار قانونية جمة على الصراع بين الكيان المحتل وفلسطين، وهذا الأثر حكما سيمتد بالأثر الإيجابي الى الحجر والبشر في القدس الشريف، وسيعكس المرآة الحقيقة لوجه الاحتلال الغاشم.
ومما لا ريب فيه، أنه مهما طالت سياسات الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، ومهما توفر من حماية وانتهاك وتحدي لقواعد القانون الدولي دون وجل أو خجل، ومهما كانت أدوات المحاباة والتحييز الصادرة عن جميع الإدارات الامريكية - دون استثناء- المتعلقة بغطرسة الاحتلال وافعاله وتصرفاته، التي تشكل ضررا واخلالا بقواعد القانون الدولي، فإن ذلك سيقود الى نتيجة حتمية وهي تذكية الصراع وإدارته لصالح المحتل، مما سيعرض السّلم والأمن الدوليين للخطر.
لذلك، فإذا كانت الحماية التي تتمتع بها إسرائيل كدولة احتلال، بمظلة ووشاح علم الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل استمرار الأخيرة استعمال حق النقض "الفيتو"، ضد أي قرار قد يصدر عن مجلس الأمن يدين إسرائيل عن افعالها وتصرفاتها المستمرة في انتهاك قواعد القانون الدولي، إلا أنها حماية مؤقتة، باعتبار سياسات الغطرسة وحمايتها نابعة عن جرائم مخلة ومخالفة لقواعد القانون الدولي، التي لا تسقط بالتقادم لأنها جرائم مستمرة تُرتكب بفعل فاعل أصلي(الاحتلال الإسرائيلي) مع شريك يتمتع بصفتين: المحرض والمتدخل (الولايات المتحدة الامريكية).
وبالتالي، جدير ببيانه أنه منذ إنشاء إسرائيل عام 1948، ورغم مرور 57 سنة من سنوات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس، فإنه لأول مرة يصدر عن محكمة العدل الدولية موقفا قانونيا بشأن الاحتلال الإسرائيلي، ولأول مرة يتم تسمية الأمور ضمن قالبها القانوني، ولأول مرة يُعتبر الاحتلال الإسرائيلي وتبعاته وآثاره غير قانوني في الضفة الغربية والقدس.
ورغم أن هذا الرأي، يعد رأيا استشاريا ليس له صفة الإلزام امام مجلس الأمن الدولي لتنفيذه، إلا أنه سيكون له أثر كبير على صعيد الرأي العام الدولي، بخصوص بناء إسرائيل للمستوطنات في القدس والضفة الغربية، وسيؤثر أيضا على السياسات الإسرائيلية، وسيحد من طموحاتها الاستعمارية التوسعية في أراضي القدس والضفة الغربية.
لذا، وأمل ان يؤدي ذلك القرار الى كسر طموح واحلام بعض الإسرائيليين، حكومة وشعبا والصهيونية العالمية المؤيدة لهم، والذي يقول بأن حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات، الامر الذي سيؤدي على المدى البعيد إلى تغير طروحاتها الخيالية المستقبلية عاجلا أم آجلا.
وما تجدر الإشارة إليه، فإنه من الأهمية توضيح طبيعة الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية، إذ أنها تعتبر الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، بحيث تتولى الفصل في المنازعات الدولية التي تنشأ بين الدول طبقا لأحكام القانون الدولي، وبالتالي فإن مهامها تنحصر في دورين مزدوجين لا ثالث لهما، الأول: يتصل بحل النزاعات القانونية التي تحيل إليها الدول وفقاً للقانون الدولي، والثاني: تقديم فتاوى في المسائل القانونية المحالة إليها من قبل أجهزة الأمم المتحدة والوكالات الدولية المخولة، وفي كلا الدورين تتخذ قراراتها من مصادر متعددة أهمها: المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعمول بها، العرف الدولي، احكام المبادئ العامة للقانون الدولي، الاحكام القضائية، بالإضافة إلى مذاهب أو فقه كبار مؤلفي شرح القانون الدولي كوسيلة فرعية مساعدة.
وعليه، ولما كان الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بالأمس القريب، قد صدر بناء على طلب تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 11 تشرين الثاني 2022، بحيث اعتمدت اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بالمسائل السياسية وإنهاء الاستيطان، بناء على مشروع قرار قدمته دولة فلسطين، لطلب فتوى قانونية ورأي استشاري من محكمة العدل الدولية، عن الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها.
إذ يشكل هذا الرأي الذي صدر، تبعات ومنافع قانونية كثيرة على أهل فلسطين عامة وأهل القدس خاصة، لاسيما في ظل الحرب الشرسة غير المتكافئة القائمة على الإبادة الجماعية لأهل قطاع غزة وفق تقرير حقوق الانسان الدولية، منذ 7 تشرين أول من العام 2023 وحتى اللحظة، الامر الذي يجدر الإشارة إليه في هذا المقام، أن من أهم ما جاء في الرأي الاستشاري هو:
- القلق البالغ الذي وجدته المحكمة في سياسة الاستيطان الإسرائيلية وهي سياسة آخذة في التوسع، مما يشكل ذلك مخالفة واضحة للقانون الدولي.
- أن استخدام إسرائيل للموارد الطبيعية في الأراضي المحتلة "يتعارض" مع التزاماتها بموجب القانون الدولي كـقوة احتلال.
لذلك، إن أول الغيث قطرة، فالنتائج القانونية التي ستُبنى على هذا الرأي محققة وكبيرة، لأن ولاية المحكمة مستمدة من القانون الدولي، وحق اصدار رأيها كان من ضمن اختصاصاتها القانونية، وبناء على إجراء قانوني سليم سبق الإشارة إليه أعلاه، مما لا يعتبر من الضرورة حضور إسرائيل إلى جلسات المحاكمة، وليس لبياناتها أية أهمية، وليس في نعتها لمؤسسات القانون الدولي بأنها ضد السامية أي تأثير على الحق وقواعد القانون الدولي، وليس في وسائل الترغيب والترهيب الصادرة عن الشريك الأمريكي أي فاعلية بالتأثير على القضاة، وعن أداء مهامهم في إرساء قواعد القانون الدولي وفي قول الحق، فمهما كانت قوة الولايات المتحدة، إلا أن قوتها تبخرت امام إصرار العالم وفي ظل إبداء أكثر من 52 دولة رأيها في القضية، إذ الأغلبية الساحقة منها رأت أن الاحتلال مخالف للقانون الدولي، ووجهت المحكمة إلى اعتباره كذلك.
وبناء على ما تقدم، ولما كانت محكمة العدل الدولية قد سبق لها وأن أصدرت رأيا استشاريا عام 2004، بشأن جدار الفصل العنصري حول الضفة الغربية، فإن إصدارها الرأي الحالي، يعد انتصارا إضافيا للقضية الفلسطينية المشروعة العادلة، ويعد انتصارا لأهل فلسطين في حق تقرير مصيرهم، كما ويشكل بوصلة الوصول إلى الدولة الفلسطينية عن قريب بأذن الله، لأن قواعد القانون الدولي أسمى من التشريعات الوطنية، فلا قيمة قانونية لقانون سيصدر عن الكنيست الإسرائيلي يمنع إقامة دولة فلسطينية، ولا قيمة للحبر المصاغ على ورقه، في ظل إرادة دولية ورأي عام دولي ناصر القضية الفلسطينية بطريقة لم يكن لها مثيل من قبل، فبشاعة وجه الاحتلال وزيف ادعائه بالديمقراطية، كشف عن حقيقة تعطشه لقتل الأبرياء والأطفال بمجازر تشيب لها الولدان، ويعجز المؤرخون عن وصفها.
لذلك، أرى أن ساعة العمل الجدية قد دقت، وحان قطاف ثمرة هذا الرأي الاستشاري للعمل على تمريره على باقي مؤسسات الأمم المتحدة، من اجل استصدار قرار الاتحاد من أجل السلام في ظل عجز مجلس الامن الدولي عن القيام بدوره المناط إليه.
وهذا الرأي بلا ريب، يعد انتصارا للقدس وأهلها وبارقة أمل في الحفاظ على الهوية المقدسية، في ظل المحاولات المتكررة بتهويد المدينة، إذ اعتبره أداة إضافية لحماية حجارة القدس ورونقها العربي الإسلامي المسيحي، وكل بقعة مقدسة فيها من عبث الاستبداد الاستعماري التهويدي، لاسيما وأنه سيعرقل أي مخطط مستقبلي في بناء المستوطنات في القدس الشرقية، فيما لو استمرت الجهود بمواكبة ومتابعة باقي أروقة الأمم المتحدة من أجل إلزام إسرائيل باحترام قواعد القانون الدولي بل إلزامها بتطبيقه، بالتوازي مع ازدياد الدول المعترفة بفلسطين، وسيشكل ذلك الاعتراف الوصول الى نهاية المطاف في حق الشعب الفلسطيني وتقرير مصيره، وسيكون ذلك الحق مشمولا بالحفاظ على الهوية والطابع العربي الإسلامي في المدينة المقدسة، والحفاظ على الطابع الوجودي الديمغرافي في القدس، وعلى وجه التحديد في البلدة القديمة، التي تشكل النسبة العربية نسبة مطلقة من تعداد السكان فيها، كما وأنني اعتبر هذا الرأي الاستشاري نقطة انطلاق لمحاسبة إسرائيل عن استغلالها للموارد الطبيعية المتوفرة في الأراضي المحتلة، لاسيما المياه الجوفية المتوفرة في منطقة القدس خلال مدة الاحتلال، وكنتيجة لاستغلالها للمعالم التاريخية والاثرية المتوفرة في القدس وتحريفها ضمن المشروع التهويدي.
وهذا الامر بحاجة إلى اعداد فريق عمل مهني متخصص في علوم الجغرافي والموارد الطبيعية والتاريخ والآثار، لمطالبة إسرائيل بالتعويض الكامل والشامل، نتيجة اهدار حق الشعب الفلسطيني في استغلال موارده المذكورة خلال المدة الطويلة بسبب قوة الاحتلال غير القانوني.