- 24 تشرين أول 2024
- أقلام مقدسية
بقلم : د. لبيب قمحاوي
الأحاديث العامة التي تنطلق من العواطف وتنتهي بها لن تفيدنا بشئ إذا فشلنا في سبر غور الحقيقة حتى نتمكن من معرفة كيفية التعامل مع ما هو قادم من أخطار وتحديات. ومع ذلك ، فإن السؤال الحقيقي والهام الذي يستوجب الإجابة قد يتكون من أكثر من شق وفي أكثر من إتجاه . ولكن يبقى التساؤل الأهم يتمحور حول ماذا يريد الكيان الإسرائيلي تحقيقه من كل هذه الحروب ؟ وماذا تريد أمريكا تحقيقه أيضاً ؟
في البداية ، لا يوجد خلاف بين الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل والأهداف الإستراتيجية لأمريكا ، وإن وجد أي خلاف فهو في الأولويات والأساليب فقط خصوصاً حجم القتل والدمار كون المصالح الأمريكية هي بالضرورة أكبر وأوسع وأشمل من المصالح الإسرائيلية وقد تتطلب بعض المرونة أو الليونة التي تفتقد إليها حكومة نتنياهو. ومن هنا قد يكون الخلاف في الأولويات خصوصاً حجم العدوان ومدى وحشيته بإعتبارها أموراً أكثر أهمية لأمريكا منها لإسرائيل ، نظراً لتأثيرها على سمعة أمريكا وعلى مصالحها الدولية ونفوذها السياسي العالمي .
تختلط الأهداف المعلنة بالنوايا الخفية لإسرائيل فيما يتعلق بفلسطين المحتلة وكذلك دول الطوق المجاورة لفلسطين المحتلة . ومن هنا يصبح الفصل بين الأهداف والنوايا أمراً يزداد صعوبة مع تطور تلك النوايا من خلال انجازات عسكرية إسرائيلية بشكل يحوّل تلك النوايا الخفية إلى أهداف معلنة يصعب تجاهلها كونها تصبح عندئدٍ جزأً من الرؤيا الإستراتيجية لإسرائيل ، وهو ما جرى ويجري الآن في إقليم غزة وقد يمتد ليشمل جنوب لبنان ومناطق أخرى .
الحقبة القادمة قد تشهد تحولاً عربياً في الموقف تجاه إسرائيل . فأحد النتائج الهامة للحروب الإسرائيلية الدائرة الآن قد أوصلت الأنظمة العربية إلى قناعة أكيده بأن نوايا إسرائيل العدوانية وخطرها على دول المنطقة هو خطر حقيقي غير مقتصر على الفلسطينيين فقط وأن لا فائدة ترجى من السلام مع إسرائيل أو من الإعتماد على أمريكا لتوفير الدعم للعرب في حال تعرضهم لأي خطر من إسرائيل . فالسلام مع إسرائيل لا يمكن أن يكون حالة إستراتيجية عربية لأنه في أصوله سلام شكلي لدرء المخاطر بالنسبة للأطراف العربية ، وسلام متقلب لإفساح المجال للمناورة خدمة للنوايا العدوانية الخفية للكيان الإسرائيلي . إن هذه القناعة قد تؤدي بالنتيجة إلى بداية تغيير إستراتيجي في التحالفات السائدة بين دول المنطقة من جهة وأيضاً دول المنطقة في تحالفاتها مع القوى الدولية من جهة أخرى ، ويشمل ذلك أمريكا وروسيا والصين . أما أهم الأهداف الإسرائيلية المدعومة أمريكياً في المرحلة المقبلة فـتتلخص بما يلي :-
أولاً : توسيع الكيان الإسرائيلي جغرافياً بحيث يشمل كامل الأرض الفلسطينية وإلغاء صفة "الأراضي المحتلة" عن أي أراضٍ فلسطينية من خلال ضم إسرائيل لتلك الأراضي ومحاولة افراغها من سكانها الفلسطينيين ما أمكن ، والعمل على إلغاء كل ما من شأنه أن يشير إلى وجود أراضٍ محتلة أو قضية فلسطينية بشكل عام . ومن أهم تلك الاجراآت تدمير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو إلغاء صفتها تلك أينما وجدت ، وكذلك إلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وفي النهاية محاولة استصدار قرار أممي بإلغاء القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بحق العودة أو التعويض لمن يختار ذلك من الفلسطينيين . هذا هو الهدف الأهم والذي يحتوي في طياته على باقة من الأهداف الأخرى الصغيرة والتي تصب في مجموعها كروافد للوصول إلى الهدف الأكبر المتمثل في استحواذ الكيان الإسرائيلي على كامل أرض فلسطين وضمان أمنه على حساب الفلسطينيين ودول الجوار .
ثانياً : قتل فكرة المقاومة أو هدف التحرير حتى جزئياً ، وعدم السماح بإنخراط الآخرين، مهما كانوا ، مع الشعب الفلسطيني في محور مقاومة بهدف التحرير ، وإستعمال أسلوب القتل الجماعي والتدمير الممنهج وإغتيال القادة لخلق حالة من الخوف والرعب تمنع أي كان من التفكير في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي أو وجود إسرائيل كدولة . وقد حرصت أمريكا على إنجاح هذا النهج من خلال تقديم كافة أشكال الدعم العسكري والتكنولوجي والسياسي والمالي لإسرائيل لتمكينها من فرض تلك الرؤية .
ثالثاً : إستعمال الحروب الدائرة الآن كوسيلة تـُمَكِّن إسرائيل إما من احتلال أراضي دول مجاورة بطريقة مباشرة ، أو بسط نفوذها عليها بطريقة غير مباشرة من خلال تحويلها إلى مناطق عازلة غير مأهوله خاضعة للنفوذ الإسرائيلي المباشر تماماً كما تجري المحاولات الإسرائيلية الآن في جنوب لبنان ، وقد تمتد إلى العراق وسوريا.
رابعاً : تخويف وإرهاب دول المنطقة بشكل يجعلها تنصاع وتخضع للنفوذ والمصالح الإسرائيلية مما يجعل من إسرائيل الدولة المهيمنة والأقوى في منطقة الشرق الأوسط ، وارغام تلك الدول على تبني الأهداف الإسرائيلية بإعتبارها أهدافاً تمثل مصالح تلك الدول ، أو مصالح المنطقة بشكل عام .
خامساً : الهدف النهائي المرحلي بالنسبة لأمريكا هو تمكينها من إعادة الانتشار وسحب قواتها من منطقة الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى أهمها منطقة الباسيفيك لمواجهة الصين وترك الشرق الأوسط في عهدة إسرائيل لتتكفل بحماية المصالح الأمريكية والغربية فيه .
هذه بعض أهم الأهداف المعلنة وغير المعلنة للحروب الدائرة الآن في الشرق الأوسط بقيادة أمريكا وإسرائيل ، ولكن كيف يمكن التصدي لها وما هي النتائج حتى الآن؟
مع أنه من المبكر إستخلاص النتائج من حروب أمريكا وإسرائيل الدائرة الآن مباشرة على محور المقاومة وبطريقة غير مباشرة على العديد من دول الشرق الأوسط. وبعد انقضاء أكثر من عام على حرب أمريكا وإسرائيل الوحشية على الشعب الفلسطيني في إقليم غزة ، يمكـننا إستخلاص النتائـج التاليـة :-
أولاً : حماس ليست استثناءً وليست منفصلة عن الشعب الفلسطيني ، فهي حتى ولو كان تأسيسها قد تم في إقليم غزة ، إلا أنها تبقى جزأً من الشعب الفلسطيني ككل ، وتمثل ضمير القضية الفلسطينية في تبنيها لنهج المقاومة والصمود ، وهي بالتالي ليست كياناً منفصلاً يمكن الاستفراد به وتدميره والقضاء عليه بمعزل عن الشعب الفلسطيني ، لأنها في واقعها جزأً أصيلاً من ذلك الشعب ومرآة تعكس آماله وتطلعاته . وأي حديث أمريكي أو إسرائيلي خلاف ذلك لا قيمة له على أرض الواقع مهما كان ذلك الواقع مريراً بفعل تفوق السلاح الأمريكي والوحشية الإسرائيلية في استعمال ذلك السلاح .
ثانياً : بعد الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في إقليم غزة لما يزيد عن عام كامل ، يمكننا الجزم بشكل دقيق بما يلي :-
أ – سقوط نظرية الأمن القومي الإسرائيلية تحت مِعْوَلْ الصمود والتضحيات الفلسطينية علماً أن تلك النظرية تستند إلى ثلاثة مفاهيم :-
-
جيش نظامي إسرائيلي صغير .
-
جيش إحتياطي إسرائيلي كبير يتم استدعاءه وقت الحاجة .
-
حروب خاطفة لا تستغرق أكثر من أيام قليلة لحسمها نظراً لأن استدعاء الاحتياط لفترة طويلة سوف يؤدي إلى شل الحياة المدنية والاقتصاد داخل الكيان الإسرائيلي .
ب – سقوط البرقع الأمريكي وانكشاف دور أمريكا المباشر في دعم بل وفي المساهمة والاشتراك المباشر مع الكيان الإسرائيلي في عدوانه على إقليم غزة وعلى دول الطوق وذلك من خلال مساهمة أمريكا في الجهد الإسرائيلي الحربي والاستخباري بما في ذلك أقمار التجسس، والتكنولوجي العسكري بشكل عام ، بالإضافة إلى الدعم السياسي والمالي .
ثالثاً : إن نجاح حركة حماس في القتال ضد آلة الحرب الأمريكية – الإسرائيلية لما يزيد عن عام قد لا تعني الإنتصار بالمعنى التقليدي الحاسم للصراع العسكري ولكنها لا تعني الهزيمة أيضاً . وعدم الهزيمة في هذه الحالة هي بحد ذاتها انتصاراً لا يستطيع أحد أن ينكر مغزاه . وفي المقابل ، فإن فشل إسرائيل في الوصول إلى أهدافها بعد مضي أكثر من عام من القتل الجماعي والتدمير الممنهج لا يعني الإنتصار الإسرائيلي بالمفهوم التقليدي مما لا يسمح لإسرائيل بالإدعاء بذلك النصر المفقود ، ومن هنا رفض إسرائيل لدعوات وقف الحرب على غزة .
القتل والتدمير لا يعني الهزيمة . كسر الإرادة هي الهزيمة ، والفلسطينيون ما زالوا صامدين لأن ما يدافعون عنه هو الحقيقة وهو المستقبل لهم وللأجيال الفلسطينية من بَعْدِهم ولا خيار آخر لهم ، في حين أن إسرائيل لا تدافع عن الحق بل تعتدي على الحق بحكم كونها غاصبة ومغتصبة لوطن الغير وحقوق شعبه الفلسطيني ، مما يجعل من وجودها حالة مؤقتة مهما طال الزمن .