- 18 تشرين الثاني 2024
- أقلام مقدسية
بقلم : د. لبيب قمحاوي
إن إعادة تعريف طبيعة وأطراف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قد أصبح أمراً هاماً ومُلِحاً خصوصاً بعد أن تمكن الطرف الإسرائيلي من فرض رؤيته الخاصة على طبيعة هذا الصراع ضارباً ، من أجل ذلك ، بعرض الحائط بالقانون والأعراف الدولية والقيم الإنسانية ، وبعد أن تحول الدور الأمريكي من شريك من خلف ستار إلى عدو معلن مباشر لا يتوانى عن استعمال أشرس أشكال الدعم العسكري والأمني والإستخباري والسياسي وعلى مدى أكثر من عام وبشكل متزايد وبوقاحة غير مسبوقة من قِبَلْ دولة عظمى في حربها على شعب أعزل ومحتل ومحاصر كالفلسطينيين لا يملك من أمره إلاّ الإرادة الوطنية والإيمان بالحق .
إن أقسى ما يمكن أن يصيب أي شعب أو أمة هو الضعف الذي يحولها إلى مُتـَلَقّى للضربات والصدمات والأوامر القادمة من الآخرين بإنصياع حتى ولو كان مصدر تلك الضربات والأوامر هم ألدّ الأعداء . إن تحول الصراع الإسرائيلي – العربي إلى صراع إسرائيلي – فلسطيني ثم تحوله التدريجي مؤخراً إلى صراع شرق أوسطي ، يعكس حقيقة تطور المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة إنتهاءً بوصولها إلى ما هي عليه الآن . وفي هذا السياق ، فإن دعوة إدارة ترمب الجديدة إلى وقف الحروب هي في واقعها دعوة لتثبيت المكاسب العسكرية الإسرائيلية وتحويلها إلى أمر واقع وهي دعوة تتجاوز في ابعادها إسرائيل وفلسطين والعالم العربي إلى منطقة الشرق الأوسط ومن ثم إلى الساحة الدولية وبشكل يساهم في تعزيز المصالح الإقتصادية والتكنولوجية الأمريكية على المستوى الدولي وفي تغليب تلك المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية أو الوطنية أو العقائدية بشكل عام بإستثناء ما يتعلق منها بإسرائيل .
تعتبر الحرب على إقليم غزة الفلسطيني ومن ثم على لبنان هي الوسيلة الأكثر دموية ووحشية في التاريخ المعاصر والتي طبقتها أمريكا وإسرائيل في سعيهما لتغيير طبيعة الصراع بحسمه فلسطينياً من خلال إلغاء القضية الفلسطينية ومكوناتها عوضاً على حلها كلياً أو جزئياً ، وتفكيك "محور المقاومة" الذي ملأ الفراغ الذي نتج عن الإنسحاب العربي من القضية الفلسطينية . وهكذا ، فإن تغيير طبيعة الصراع من المنظور الأمريكي – الإسرائيلي تتمثل في إلغاء القضية الفلسطينية عوضاً عن حلها وذلك بتدمير مكوناتها والأسس التي تقوم عليها تلك القضية وهي بمضمونها العام :-
أولاً : العمل على إلغاء صفة "الأراضي المحتلة" عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وتحويلها من خلال الضم والإخلاء السكاني والإستيطان إلى "أرض إسرائيلية" .
ثانياً : العمل على إلغاء وتدمير كافة مخيمات اللاجئين أينما وجدت بإعتبار أن وجود اللاجئين الفلسطينيين يعني أن اراضيهم قد تم احتلالها وهو ما يناقض الرؤية الأمريكية –الإسرائيلية .
ثالثاً : العمل على إلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بإعتبارها المؤسسة الوحيدة المعترف بها دولياً والتي تقوم على رعاية اللاجئين الفلسطينيين وابنائهم وتؤشر على حقهم في العودة إلى فلسطين .
رابعاً : العمل على استصدار قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإلغاء القرار الأممي رقم 194 والقاضي بحق العودة أو التعويض للفلسطينيين ، مستذكرين في هذا السياق نجاح أمريكا وبمساعدة عربية ملحوظة في إلغاء القرار الأممي رقم 3379 والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية .
الزحف الطوعي نحو المجهول الأمريكي يعكس قمة الضعف والهوان العربي. فأمريكا قد أعلنت عن نفسها عملياً من خلال الحرب على إقليم غزة الفلسطيني منذ أكثر من عام بأنها الشريك الأهم لإسرائيل والداعم العسكري والسياسي الرئيسي لها مما يعني تحولها إلى كونها العدو الأول والأهم والأكبر للفلسطينيين وقضيتهم وأن إسرائيل هي بالنتيجة أداة تنفيذية "وممسحة زفر" للمصالح والسياسات الأمريكية في المنطقة وهي بالتالي العدو التابع لأمريكا وليس العكس كما يعتقد البعض . ومن هنا فإن إدارة الصراع، حتى تكون بشكل مجدي ، يجب أن تكون مباشرة مع العدو الأكبر وهو أمريكا ، مما يعني عدم حصر العداء بالعدو الأصغر وهو إسرائيل . وأي محاولة أمريكية للتنصل من ذلك الدور تعكس خبثاً أمريكياً مُحمَّلاً بنوايا خطرة جداً على المصالح العربية والفلسطينية خصوصاً وأن عملية فك ارتباط العرب بالقضية الفلسطينية هي انجازاً أمريكياً أكثر منه إسرائيلياً تـَطَلـَّبَ الكثير من التآمر على الأنظمة العربية الملتزمة بالقضية الفلسطينية بإعتبارها قضية العرب الأولى .
من السخف اللامتناهي إستمرار بعض العرب في إعتبار أمريكا حليفاً استراتيجيـاً، منتظرين بسذاجة واضحة أن تأتي تلك الأوهام والآمال في النجدة من إدارة عملت في السابق على وَهْبِ مدينة القدس العربية لدولة الإحتلال مجاناً ، وعلى الإعتراف بسيادة الإحتلال الإسرائيلي على الجولان العربي السوري المحتل عام 1967 . إن التعلق بحبال الهواء وانتظار أن تأتي النجدة من هذه الإدارة الأمريكية أو تلك هي أوهام يجب على العرب التوقف عن تعاطيها لأنها لن توصلهم إلاَّ إلى الكوارث كما أثبتت العقود الماضية . علاقة أمريكا بإسرائيل هي علاقة استراتيجية في حين أن علاقتها بالعرب هي علاقة مصلحية متذبذه ، وهذا ما يجب على العرب أن يفهموه ويستوعبوه .
إن انتظار الصدقات من يد عدو لئيم هي من أقصى درجات الخنوع والإنحلال الوطني وفقدان الكرامة ، علماً أن إدارة ترمب الجديدة تنتظر إتمام إسرائيل لأهدافها السياسية عسكرياً حتى تدعو إلى وَقـْفٍ لإطلاق النار ومطالبة العرب بدفع ثمن ذلك الوقف وإن كان ذلك من خلال جعل التنازلات العربية تبدو وكأنها انتصار كونها قد أدت إلى فـرض وقـف إطلاق النار على إسـرائيـل .
إن سياسة اللعب بالكلمات التي تمارسها إدارة ترمب الجديدة هي سياسة مكشوفة وواضحة نتيجة للوعي الشعبي الفلسطيني والعربي والدولي المتزايد لخطورة المخططات الإسرائيلية ولهول جرائم القتل والابادة والتدمير الإسرائيلي التي دعمتها أمريكا من أجل تنفيذ ذلك المخططـات . فتصريح الرئيس الأمريكي المنتخب ترمب والمتعلق بالوعد بإنهاء الحروب هو تصريح غامص لا يُفْهَمْ منه كيفية التعامل مع ذيول تلك الحروب خصوصاً في غزة ولبنان. وربما يوضح تصريح ترمب يوم السبت الموافق 9/11/2024 بالطلب من نتنياهو "بإنهاء المهمة في غزة" قبل استلام ادارته للحكم ، دون المطالبة الواضحة بوقف إطلاق النار، ودون أي إيضاح لطبيعة وأبعاد المهمة التي يطالب ترمب من نتنياهو إنهاءها قبل استلام إدارته للحكم ، وكذلك دون أي إشارة إلى مطلب الإنسحاب من إقليم غزة سواء كلياً أو جزئياً مما يؤشر إلى غموض وبالتالي ضعف الإلتزام الذي قدمه ترمب أمام الجالية الأمريكية العربية وكذلك المسلمة عشية الانتخابات الأخيرة .
إن أقصى ما تسعى الأنظمة العربية إلى الحصول عليه الآن ضمن الإمكانات والظروف المتاحة والتطورات الأخيرة هو الحصاد السياسي في غياب الإنجاز العسكري أو القدرة عليه . الحصاد السياسي في الحالة العربية سوف يكون سلبياً ولكن بمظهر ايجابي . فالمكاسب السياسية العربية سوف تكون شكلية ، في حين أنها تحمل في مضمونها الحقيقي تنازلات مؤلمة في الجوهر . ومثال على ذلك عنوان حل الدولتين بإعتباره المدخل إلى تصفية القضية الفلسطينية. "حل الدولتين" قد يدخل في مفهوم "الخدعة الكبرى" التي تهدف إلى إقناع العرب بأن الأعطيات المرافقة لحل الدولتين هي المكسب متناسين ما سوف يتم التنازل عنه مقابل ذلك . التنازلات سوف تأتي من الطرف الفلسطيني والعربي ولن تأتي من الطرف الإسرائيلي . وأمريكا تسير ضمن هذه الرؤية. وبالنسبة لأمريكا فإن غزة والضفة الفلسطينية (الغربية) هي قضايا يتم التعامل معها بإعتبارها قضايا إسرائيلية داخلية وبالتالي يجب أن يتم التعامل معها على هذا الأساس، وليس بإعتبارها جزأً من القضية الفلسطينية والمصالح العربية .
إن إستيعاب العرب لأهمية إبتعادهم عن أوهام صداقة أمريكا والغرب وعن أهمية تحالفهم معها يصبح أمراً في غاية الأهمية خصوصاً وأن عليهم أن يتذكروا دائماً بأن وجود الكيان الإسرائيلي مرتبط بشكل كامل ببقاء النظام الدولي السائد برئاسة الولايات المتحدة ، تماماً كما كان إنشاء دولة إسرائيل مرتبطاً بنشوء النظام الدولي نفسه عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية . فبداية سقوط الدولة الإسرائيلية مرتبط عضوياً ببداية سقوط النظام الحالي واستبداله بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب ومتوازن وأكثر عدلاً من النظام أحادي القطب السائد حالياً .