- 28 حزيران 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : نافذ عسيلة
تتسارع هجمات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية على خلفية توسع استيطاني مستمر تحميه الدولة وتُدعمه سياسياً وأمنياً. لم تعد هذه الهجمات مجرد أحداث منفردة، بل باتت تعكس سياسة ممنهجة تُستخدم لإعادة تشكيل الجغرافيا والواقع الديمغرافي الفلسطيني. هذا العنف يوظف ضمن بنية سلطوية تستغل أدوات القانون والقوة والعقيدة لتكريس السيطرة المكانية، بينما يُقدم في الإعلام والسياسة بوصفه ردًا على تهديدات أمنية مزعومة.
لكن ما يزيد من تعقيد الصورة في المنطقة هو التغير العميق في البيئة الإقليمية خلال السنوات الأخيرة. فقد أعادت العديد من الدول العربية ترتيب أولوياتها السياسية والأمنية، في ظل تطورات متسارعة أدت إلى تسارع وتيرة التطبيع مع إسرائيل. هذا التحول أضعف بدرجة كبيرة المساندة السياسية والدبلوماسية للقضية الفلسطينية وخلق فراغاً استغلته إسرائيل لتوسيع مشاريعها الاستيطانية، خاصة مع تصاعد الحرب على غزة ومع إيران، ما وفر غطاءً دولياً غير مباشر وحالة من اللامبالاة الإقليمية.
وفي الوقت نفسه، ساهم انشغال عدد من الدول العربية بأزماتها الداخلية، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، في تقليص الاهتمام الرسمي والشعبي بالقضية الفلسطينية، لتتحول من أولوية قومية إلى ملف هامشي في السياسات العامة. هذا التراجع أتاح لإسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض، من دون أن تواجه ضغوطاً جادة أو رداً دولياً حاسماً، ما يعزز من شعور المستوطنين بالحصانة ويدفع باتجاه مزيد من التصعيد والتوسع.
الهجمات تحدث في ظل نظام احتلالي يقوم على تفوق عسكري وقانوني لصالح المستوطنين، حيث تحظى هذه الجماعات بحماية مباشرة من الجيش، وقوانين تتيح مصادرة الأراضي وتوسيع البؤر الاستيطانية. في المقابل، يعيش الفلسطينيون في فراغ قانوني وسياسي، محرومين من الحماية ومن القدرة على اللجوء الفعال إلى القضاء، ما يجعلهم فريسة سهلة لعنف يومي يتراوح بين الحرق والاعتداء الجسدي وقطع الطرق وتدمير الممتلكات.
غالبًا ما تُقام المستوطنات على أراض فلسطينية تم الاستيلاء عليها، مما يخلق صراعًا متصاعدًا على الموارد الحيوية مثل المياه والأراضي الزراعية وشبكات الطرق، وفي كثير من الحالات، يُستخدم العنف كوسيلة لترهيب السكان ودفعهم إلى مغادرة أراضيهم، مما يُسهم في تنفيذ تهويد تدريجي للضفة الغربية، يهدف إلى خلق وقائع دائمة على الأرض.
وتبرز داخل هذا المشهد جماعات استيطانية ذات طابع ديني متطرف، مثل فتيان التلال التي تعتبر أن السيطرة على الأرض الفلسطينية واجب ديني يتجاوز القوانين الدولية. تُشرعن هذه الجماعات العنف وتُغذيه بمقولات توراتية تُصور الفلسطينيين كدُخلاء وتدفع أجيالًا جديدة من المستوطنين إلى تبني خطاب إقصائي متشدد. هذا التوجه يجد أحياناً صدى في السياسات الرسمية الإسرائيلية، ما يمنحه غطاءً سياسياً غير مباشر.
في الخطاب الإسرائيلي الرسمي، يُصور المستوطنون غالباً كضحايا يتعرضون لهجمات، بينما يُقدم الفلسطينيون كخطر أمني دائم، وهو سرد يُستخدم لتبرير استمرار القمع وشرعنة الاحتلال. أما من وجهة النظر الفلسطينية، فالهجمات تُرى ضمن مشروع استعماري طويل الأمد يهدف إلى اقتلاعهم من أرضهم تدريجياً، بما يشبه التطهير العرقي البطيء.
في ظل هذا الواقع، يبتكر الفلسطينيون استراتيجيات متعددة لمقاومة هذا العنف، تتراوح بين التمسك بالأرض والزراعة في المناطق المهددة وتوثيق الانتهاكات عبر الإعلام الرقمي، وصولاً إلى بناء شبكات تضامن محلية ودولية. كما تنشط مبادرات مجتمعية تهدف إلى تعزيز الهوية والصمود من خلال التعليم والمقاومة الاقتصادية ولجان الحراسة وإحياء الذاكرة الجماعية.
تُظهر هذه الممارسات اليومية أن الفلسطينيين لا يواجهون فقط مشروعًا استيطانيًا ماديًا، بل نظامًا متكاملًا يُعيد إنتاج العنف بوصفه أداة للحكم. لفهم هذه الديناميات، لا بد من قراءة الهجمات باعتبارها جزءًا من شبكة أوسع من العلاقات الاستعمارية، تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، وتُغذى إقليميًا ودوليًا بصمت أو تواطؤ ضمني، في ظل نظام عالمي لا يُوفر الحماية لمن هم خارج موازين القوة.