• 25 تشرين أول 2018
  • مقابلة خاصة

 

عمان - أخبار البلد- اجرت صحيفة الراي الاردنية مقابلة هي اقرب الى حديث الذكريات مع المقدسي الاردني المعروف حازم نسيبه والذي يعتبر خير شاهد على العصر ، فإضافة الى توليه العديد من المناصب الهامة كتب العديد من الكتب بما في ذلك كتاب ذكريات تحدث فيه وبإسهاب العاشق  عن المدينة التي احبها فاحبته القدس 

 ويسعدني في“أخبار البلد“ انننعيد نشر المقابلة التي اجرتها معه الصحفية ملك يوسف التل ،

 الدكتور نسيبة بدأ حياته العملية عام 1946 ،بمهنة كبير مساعدي البرامج الاخبارية في الإذاعة الفلسطينية، اختاره وصفي التل وزيراً للخارجية عام 1962 ،حينها أمضى أسبوعاً في بيته معتكفاً يعد خطة عمل لدفع القضية الفلسطينية مجدداً في الأمم المتحدة بعد أن تراجعت تحت وطأة الحروب والاضطرابات التي عمت المنطقة

 تشابه الحال آنذاك مع الحال الراهن بخصوص المسألة الفلسطينية والقضايا القومية، لا يراه أبو هيثم من زاوية أن التاريخ يعيد نفسه. جاء وقت، عام 1982 ،أصبح فيه د. نسيبة رئيساً دورياً لمجلس الأمن، ونجح أيامها بأن جعل اللغة العربية واحدة من بين اللغات الرسمية للمجلس. كذلك عندما كان وزيراً للإنشاء والتعمير في الحكومة الأردنية أصرّ على رئاسة «الأونروا» بأن يجري تسجيل أطفال اللاجئين كلاجئين أيضاً، فكانت خطوة قومية كبيرة متقدمة، وها هم يحاولون الآن في إدراة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع اليهود بأن يعكسوها ويقلصوا عدد اللاجئين مستحقي العودة ، من الملايين، إلى مئات الألوف ، نسيبة الذي ينعم وقد تجاوز التسعينات بذاكرة عالية مشحونة برؤية متصلة للتاريخ فيها الكثير مما يستحق السماع والمشاركة.

 قيل الكثير قي موضوع صفقة القرن، ابتداء من وصفها بانها اسم حركي للتمويه على اجراءت يتوالى تنفيذها على أرض الواقع بمحاور القدس واللاجئين، مرورا بحديث قديم متجدد عن الكونفدرالية وانتهاء بموضوع الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية... 

معاليكم تمتلكون من الخبرة والرؤية بما يميز الغث من السمين في هذا الموضوع؟

 ما يسمى بصفقة القرن الطائشة من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب واثنين من مساعديه في العدوان على أقدس مقدساتنا، تجلت في اقتراحه بجعل القدس عاصمة لإسرائيل، وهو مرفوض رفضا تاما، فالقدس ليست ملكا لترمب وإنما هي ملك للأمة العربية والإسلامية، إنها قبلة المسلمين الأولى وقيامة السيد المسيح عليه السلام، وهي خدش للخليفة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد والسلطان صلاح الدين الأيوبي وجمع كبير متواصل من القادة والمصلحين عبر العصور. ولذلك فهي ليست من صلاحيات الرئيس الأميركي أو غيره، إنها تنبع من السيادة القومية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية كما أنها تجلت في القرارات الثابتة المتواصلة للأمم المتحدة التي نصت على جعل القدس دولية ولكن معظمها كان أحياء عربية. 

قرارات الأمم المتحدة كلها تؤكد بأن القدس كيان دولي ولكن إسرائيل رفضت هذا الحل، وهي تقول بأن القدس الغربية لها والقدس الشرقية ممكن أن تصبح دولية، وجوابنا على ذلك أن القدس بمجموعها إما أن تكون دولية أو أن تكون عربية لأهلها، ولذلك لا أعير الأمر اهتماما لأن الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا العالم، هنالك 190 دولة وغالبيتهم العظمى إن لم يكن جميعهم يحترمون القانون الدولي والقرارات الدولية، وما فعله الرئيس ترمب وزبانيته هو شذوذ لم يسبق له مثيل، ويخالف جميع القرارات والتوجهات حتى للحكومات الأميركية المتعاقبة بدءاً من آيزنهاور وانتهاءً بباراك أوباما. ولذلك، هذا نوع من البالونات ليس أكثر، أما موضوع اللاجئين فهذا حق مكتسب رسمي، يقرر كل عام، ابتداء من 1948-1949 بالقرار 194 الذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين جميعهم بالعودة إلى ديارهم والتعويض على الخسائر التي منيوا بها، وهو الذي أدى إلى قيام الأونروا «وكالة غوث اللاجئين». ولذلك لا تستطيع دولة بمفردها أن تلغي قراراً أجمعت عليه الأمم المتحدة اللاجئون من ستة ملايين لاجئ مسجل ، إلى نصف مليون؟ ا

لأردن كان واعياً لهذا الموضوع، وعندما كنت وزيراً للإنشاء والتعمير، وجاءني مدير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ،وقال: إن الأموال المتاحة لا تبيح للوكالة الاستمرار في إغاثة أطفال اللاجئين، حاولت إقناعهم بأن هذا لا يجوز لأن الأطفال هم الفريق الضعيف في هذا التكوين، ولكن عندما أصر على ذلك قلت له: لا نستطيع أن نرغمكم على أن تقدموا الإغاثة لجميع اللاجئين، ولكنني أصر باسم الحكومة الأردنية على وجوب تسجيل كل طفل يولد للاجئين، وبالتالي أصبح عدد اللاجئين في الأردن الآن يزيد عن مليونين، وفي البلدان العربية المختلفة خمسة ملايين. لذلك فإن اجتهادات ترمب وإدارته بتقليص اللاجئين إلى نصف مليون، هي خرق للقانون الدولي والقرارات الدولية التي تنص على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم.

 لكن ما يحصل على أرض الواقع مختلف بل ونقيض.لكل هذه الثوابت إلى أي درجة يدعوكم هذا للقلق؟

 شخصياً أنا من المتفائلين في المستقبل.. ما أتفاءل به هو تواجد 5.6 مليون عربي فلسطيني في أرض فلسطين الجغرافية من البحر إلى النهر.. ما بين 1948 التي أحتلت عام 1948 والضفة الغربية التي احتلت عام 1967 وقطاع غزة، هؤلاء هم الضمان الأكيد لعودة فلسطين، وإن شاء االله بعد سنوات ستعود عربية كما كانت، وكما عرفناها عبر التاريخ.

 يضاف لذلك أننا الآن نحكم على الأمة العربية، في الفترة الحالية التي تمر بالحروب الأهلية والاقتتال والدماء التي تجري وكل المصائب التي أصبحت لا تطاق، يجب أن لا ننسى أنه خلال 20-30 سنة ستصبح هذه الأمة 700-800 مليون نسمة، لها ثقل مثل ثقل الهند، بالإضافة إلى النوعية، فأرحام المسلمات لا يمكن أن تعجز عن ولادة أشخاص يستطيعون تولي متابعة تحرير هذا الوطن الغالي.

 فلسطين مربط تاريخنا، وهي في وسط العالم العربي وقلبه.. والقدس في قلب فلسطين، فإذا ضاعت معنى ذلك أن الضفة الغربية ستصبح منقسمة بين شمال وجنوب، وتصبح مقزمة، وهذا مستحيل، ولذلك يقوم اليهود بتأجيل المعركة، وأملنا باالله

  مؤكد ان عبق ذكريات الطفولة يراودك لمسقط رأسك في القدس.. ماذا تحمل من ذكريات بعد ستة وتسعين عاما من عمرك المديد؟.

 في حي باب الساهرة في مدينة القدس ولدت يوم 5/6 من عام 1922 .والدي زكي كان من وجهاء المدينة المقدسة، وانتخب عضوا في مجلسها البلدي أواخر العشرينات، ورئيسا لمحكمة البلدية. قدس العرب والمسلمين جريح، هذه القدس الواحدة الموحدة، التي عشنا فيها بمودة وألفة وسلام.. جميع سكانها ، عرب، ويهود، مسلمون ومسيحيون، تعايشوا في مجتمع مقدسي متآلف. 

عندما ولدت كان والدي متقاعدا وكنت الإبن الثالث من بين سبعة أشقاء وأربع شقيقات، ولولا وفيات الأطفال لكان حجم العائلة أكبر من ذلك، كان أبي رحيما صارما ومحبا في آن واحد، لم يكن يسمح بالتراخي أو التهاون في تعاملاته مع الأقربين قبل البعيدين، حتى الضحك في حضوره كان منضبطا، بحيث لا يترك مجالا لصغائر الأشياء، كنت أقبل يدي والدي كل صباح، وأذكر أن شقيقي حسن وأنور وهما أكبر مني سنا يغادران الغرفة بتواجد والدي فيها عندما يريدان تدخين سيجارة أو حتى شرب القهوة أمامه.. ذلك كان يعتبر ترفا لا يستقيم مع آداب السلوك بوجود الأب.

 أما والدتي فاطمة النشاشيبي فكانت تتفاخر بنسبها الذي يعود إلى مئات السنين. كانت القدس على امتداد تاريخها تضم مجموعة من العائلات المرموقة التي اكتسبت مكانتها عبر القرون من خلال أجيال متعاقبة من أحفاد الصحابة والحكّام والولاة والقضاة والعلماء والأجداد من المحاربين الذين قضوا مجاهدين في فتح القدس وفلسطين وبلاد الشام، أومرابطين مدافعين عنها. والدتي كانت مفعمة بالمحبة لأولادها، مقدمة كل جهد في سبيل تربيتهم واسعادهم، عززت فيهم مشاعر الثقة والمحبة والأمان، في كل الظروف وحتى في حالة الحزن والضياع بعد وفاة أبي الذي ترك لها أحد عشر شقيقا وشقيقة في سنين متفاوتة من الطفولة والصغر.

 تزوجت والدتي بعد تخرجها من مدرسة إيطالية للبنات في القدس ، تربيتها لنا حملت صفات لازمتنا طوال حياتنا، وأعانتنا على مواجهة الحياة بكل تحدياتها وصعوباتها في مجتمع صغير منغلق في القدس ،وما لبث أن أصبح في زمن قياسي مجتمعا منفتحا متطورا، انفتاحه التدريجي على العالم ّالهجرات اليهودية المتلاحقة، والسياحة الأجنبية والتوسع في العلم والتعليم.

 كانت والدتي ترتدي «الملاية» من الحرير الأسود تغطي فيها رأسها إلى القدمين، وهو اللباس المحتشم السائد في مدن فلسطين. كان والدايّ ملتزمين في الشعائر الدينية من صلاة وصوم والذهاب إلى المسجد الأقصى المبارك والمساجد القريبة بين الحين والآخر للصلاة فيها.

 لم يكن سهلا بعد وفاة والدي عام 1938 ،النهوض بواجب اتمام تعليم أبنائه وبناته وايصالهم إلى أعلى مستويات التحصيل. ومع ذلك فقد تم انجاز ذلك وبتضحيات كبيرة في أرقى مدارس العالم وجامعاته. من كلية الروضة إلى الكلية العربية ألى مدرسة المطران في القدس إلى مدرسة بيرس في المملكة المتحدة وكلية فكتوريا في الاسكندرية وجامعات كمبردج وشيفيلد والجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة القاهرة والسوربون في فرنسا وجامعة برنستن ونيوجيرسي. هذه الجامعات التحق بها أشقائي وشقيقاتي في مراحل متلاحقة. 

في السادسة من عمري ذهبت إلى مدرسة روضة المعارف الوطنية في البلدة القديمة مشيا على الأقدام. 

أكثر ما كان يشد انتباهي وأنا أمر بباب العامود، مقهى إلى يسار الشارع يتواجد فيه كل صباح باكر أكثر من عشرين رجلا يجلسون على مقاعد القش يشربون القهوة ويدخنون السيجارة أو «الأرجيلة» وهم يستمعون بلهفة إلى رجل يجلس على منصة مرتفعة يقرأ لهم ما احتوت عليه صحف الصباح.

 كان معظم رواد المقهى أميين لكنهم يفهمون اللغة العربية الفصحى وهي لغة الكتابة في الصحف ولغة المذياع وهذا ليس غريبا عن أهل فلسطين فهم عرب أقحاح وتلاوتهم للقرآن الكريم مكنتهم من معرفة اللغة والتعمق فيها.

 في عام 1935 انطلقت من القدس للمرة الأولى دار الإذاعة الفلسطينية وشعارها: ( هنا القدس). حيث لعبت دورا هاما في نشر الثقافة العربية والوعي القومي رغم ظروف الإنتداب البريطاني وهجمة العدو المتفاقمة على فلسطين.

 منذ طفولتي المبكرة كان يمتلكني حب وشغف عميق للمدن. سحر القدس كان مشتركا بدرجات متفاوتة مع كل من اتيحت له زيارتها من حجاج أو سائحين أو قاطنين أو مجاهدين أو تجارأو رجال في طفولتي كانت القدس القديمة المسوّرة مركز الثقل والحياة إلى حد بعيد، تاريخ بعض صروحها يعود إلى اكثر من الف سنة، عمر كنيسة القيامة 1700 سنة، وقبة الصخرة المشرفة والأقصى المبارك 1350 سنة ونيف، 

لقد اتقن البناؤون الفلسطينيون صناعة دق الحجر وتطويعه وحفره بأشكال وأحجام مختلفة.. البناؤون الفلسطينيون كانوا في أعلى مستويات التأهيل والخبرة التي ورثوها أبا عن جد، وما زالوا. 

كنت في طفولتي أصحو باكرا قبل بزوغ الشمس على صوت المؤذن وهو يدعو المؤمنين إلى النهوض لأداء صلاة الفجر، تصاحب ذلك أصوات الأجراس التي تنبعث من كنائس وأديرة القدس العديدة وخاصة بالبلدة القديمة. 

كنت أسمع صوت البوق ينطق عند غروب أيام الجمعة إيذانا ببدء السبت الذي يحرّم فيه لدى اليهود أشياء عديدة من بينها إطفاء أو إشعال الإنارة، واستخدام السيارات وغيرها من قيود يتبعها المتدينون المتشددون ويتجاهلها أو حتى يتحداها العلمانيون وهو الأمر الذي يعرضهم لالقاء الحجارة وسد الطرق.

 عشت طفولة ولا أروع عندما كنت أفيق فجرا على أغاني القرويين والقرويات العذبة بوجوه ممتلئة بالنشاط والحيوية وهن يحملن الجرار والسلال على رؤوسهن ممتلئة بأشهى الفاكهة التي تنتجها أراضي فلسطين الخصبة، من عنب بلوري وتين موازي ودافور وتفاح وأجاص من قرى رام االله وغيرها من أراضي فلسطين، كانوا يقطعون عشرات الأميال مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا لجلب نتاجهم الزراعي وبيعه في أسواق القدس، وشراء حاجاتهم من ملابس وغير ذلك مما يتوفر في أسواق المدينة.

 كانت الحمير وسيلة نقلهم في حمل منتجاتهم ويركبونها كلما ألمّ التعب بهم، وعندما دخلت الباصات في أوائل الثلاثينات دخلت على استحياء، واقتصرت خدمتها بداية على أحياء القدس فقط.

 لم استوعب في سني طفولتي سحر القدس التي تتمتع به أو المكانة الفريدة التي حظيت بها أو الصراعات والمطامع التي تحاك حولها، ولا المصير المفجع الذي كان ينتظرها.. عرفت فقط ان عائلتي تنتمي إلى المدينة المقدسة منذ 1400 سنة من الوجود المتواصل، منذ جاءت مشاركة في الفتوحات العربية الإسلامية بقيادة عمر بن الخطاب وصحابة ومجاهدين في مقدمتهم ّ العاص وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس اللذين دفنا في القدس في مقبرة الرحمة بجوار المسجد الأقصى المبارك وما زال قبراهما ظاهرين حتى يومنا هذا، أما غيرهم ممن قضى مجاهدا أو سقط بطاعون  عمواس فقد دفنوا في اغوار الاردن