• 11 أيلول 2023
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : لبابة صبري

توصل الرواية للقارىء رسالة قويّة في التعبير عن المعاناة، وهنا لابدّ لي من أن أطرح عدة تساؤلات وإنْ كانت تساؤلات تقليدية إلا أنها تتبادر لدى الكثير منّا نساءً ورجالًا، وهي كيف تتحمّل النساء المعاناة والقمع؟ ولماذا لا يملكن خيار امتلاك أجسادهنّ؟ وهذا أضعف الإيمان للإنسانية أن يمتلك الإنسان جسده. ما هو شكل الأمل الذي تصنعه النّساء للمضيّ في حياتهنّ؟ ولماذا كُتب على المرأة العربية على وجه الخصوص أن تعيش هذه المعاناة؟ فإنْ لم تكن المعاناة من السطوة الذكورية فهي ولا بدّ من الظروف المعيشية القهريّة أو النظام السلطوي، وأينما وكيفما ولّت المرأة وجهها صفعتها الويلات والقهر الإذلال.

تخبرنا الرّواية ومنذ صفحاتها الأولى برغبة الشخصيّة عبّاس للتحوّل إلى أنثى باسم هند، تمعن الرواية فيما بعد وعلى امتداد خط السّرد وتوالي صفحاته في نسج دلالات التحوّل الجنسيّ. بالإضافة إلى دلالات رمزيّة للفساد والرّشوة وتدبير الكمائن والاغتصاب، وهذا يتجلّى في استخدام تعبير الخنزير، حيث ذكرت الكاتبة جمانة قصة الأميرة والخنزير، وقد تم استخدام هذا التعبير للإشارة إلى ذات الدلالات في الرواية العراقية المركب للكاتب غائب طعمة فرمان.

إنّ الدلالات التي تنسجها الرّواية تتنوّع مع نموّ السّرد؛ تغتني وتتشعّب، تراوح بين الحقيقة والمجاز، وتزاوج بين النفسي والسياسي، تضمر التاريخي فيما هي ترسم الحاضر المكاني، يختلط فيها ما هو من الذاكرة وما هو من الواقع معاناة عيش وموضوع اختيار.

والرواية في كلّ ذلك تضع القارئ أمام صعوبة النّفاذ إلى المشترك بين خيوطها الدقيقة المتشابكة، وإلى الأساسيّ في محاورها المتعدّدة المتداخلة؛ فالقارئ يودّ إلتقاط التوجّه الضّمنيّ الذي يكوّن حافز السّرد ويحكم منطق بنيته لتكون له إمكانيّة الحوار.

توحي دلالات الرواية على تشعّبها، بمجموعة من الأفكار والمشاعر والمواقف التي تنهض على حدّ العلاقة بين مرحلتيْن:

مرحلة ما قبل إنفجار مرفأ بيروت، وهي مرحلة مضت في الزمن لكنّها بقيت حاضرة في نفوس الشخصيّات، يحملونها في داخلهم معاناةً مع واقعهم، مع حاضرهم. هذه المعاناة تصل بأصحابها إلى العجز والقصور والضياع، فيميلون إلى القتل أو الهروب؛ ميشا تحاول قتل جورج، هند (عبّاس) تحاول اللجوء إلى آيسلندا.

المرحلة الثانية مرحلة ما بعد إنفجار مرفأ بيروت، وهي مرحلة تنسج الحاضر، وتحاول السلطة فيه أن تبني وجودها تحت يافطة الحضارة والتقدّم والثورة التّقنيّة. لكنّ هذا الحاضر في الزمن الروائيّ يبقى عاجزًا عن إخفاء عيوبه المتجلّية في الانتهازيّة والمحسوبيّة والتآمر. ولم تستطع الكاتبة أن تكمل الرواية حسب ما خطّطت لذلك، وإنّما تدخّل الانفجار في مصير بطلة الرّواية هند بأن ماتت، ووُلدت الرواية مبتورة حسب تعبير الكاتبة.

منذ بداية الرّواية وحتى النهاية تتحرّك الشّخصيّات النسائيّة الأربعة؛ الشخصيّتان الرئيسيّتان: ميشا عاملة الجنس، هند (عبّاس) العابرة. والشخصيّتان الثانويّتان: ريهام اللّاجئة السّورية، وتيغست العاملة المنزلية الأثيوبيّة في فضاء مأزوم؛ شخصيّات محبطة خائفة من قول كلمة "لا"، اجتمعن في مظاهرات 17 تشرين 2019 لقول كلمة "لا"، جمعتهنّ المعاناة، وكانوا ممزّقات ينفيهم الماضي الذي ينفونه، ومرصودات للسقوط في الموت.

كانت الشخصيّات هند وميشا تتحدّث مع بعضها، أو  بالأحرى مع ذواتهنّ منكسرات وعاجزات وحالمات وواهمات، حتّى لكأنّ رؤيتهنّ تطفو على سطح المرحلة الأولى ما قبل انفجار المرفأ، أو كأنّ رؤيتهنّ لتراخيها تغرق في سواد الضياع وتصمت على إيقاع حشرجة الأمل.

تقوم الكاتبة بسرد السيرة الذاتيّة للشحصيّة هند التي نبذها أهلها والمجتمع؛ فهي التي رفضت الذكورة التي سيطرت على جسدها وأعلنت أنوثتها. والكاتبة لا تترك هند عند قراراها وحسب، وإنّما تتابع سيرتها لتكشف عن حقيقة شعورها ومكنونات نفسيّتها وتعاطفها مع المرأة المظلومة في المجتمع (تعاطفها مع المرأة السورية اللاجئة والأثيوبية العاملة المنزليّة).

كما تقوم الكاتبة بسرد السيرة الذاتيّة للشخصية ميشا التي نبذها أهلها والمجتمع؛ فهي التي مورس عليها العهر، بدءًا من أبيها وتباعًا من زوجها وزبائنه. وأيضًا الكاتبة لم تترك هذه الشخصية عند حدود العهر الذي مورس عليها، وإنّما كشفت عنن تعاطفها وتضامنها مع المرأة المقهورة في المجتمع. وتختتم الكاتبة حكايتها عن هند وميشا بكشف قوّتهما أمام المجتمع الظالم وذلك بمشاركتهما في مظاهرات 17 تشرين 2019 والثورة ضد الظلم، هذه الثورة التي عرّفت الشخصيّتان الرئيسيّتان ببعضهما البعض.

إنّ الذات في السيرة الذاتية للشخصيّتان هي ذات متباينة متناقضة ومتصارعة؛ والصراع في رواية السيرة هو بين الذات وذاتها، وداخل ال "نحن" من جهة، ومع آخر يتواطأ مع هذه ال "نحن" وضدّها من جهة أخرى. وإنّ حدّ الصّراع هو بين الظلم والعدالة، بين العلم والجهل، بين الحريّة والعبودية؛ وهنا يمارس المجتمع المحليّ الظلم للمرأة من خلال التسلّط الذكوريّ. ويمكن إعتبار رواية الكاتبة جمانة هي سيرة ذاتية في رواية تكشف عن أكثر من عنصر مشترك في معاناة المرأة اللبنانية على وجه الخصوص، والمرأة العربية بشكل عام. وبالمثل فقد تميّزت روايات كل الكاتب الجزائريّ محمد ديب والكاتب المصري محمّد شكري في سرد السيرة الذاتية في رواياتهما لكشف معاناة الإنسان العربيّ. 

لقد كشفت الروائية جمانة عن رؤية عميقة لحياة المرأة اللبنانية والعربية، ورؤية متكاملة للواقع المعاش، عبر سرد الحقائق الفردية للحياة اليومية للشخصيات، وعبّرت عن موقفها الإنسانيّ العادل والمناصر للمرأة ضد الظلم والإذلال. كما دعت إلى ضرورة حصول المرأة على حقّها في العيش بكرامة أولًا، وفي التعبير عن إحتياجاتها ثانيًا. إنّ جمانة كانت مؤمنة بقدرة المرأة في تغيير مصيرها وتحقيق أحلامها.

 

 

 

 

المراجع

العيد، يمنى (1998). فنّ الرّواية العربيّة: بين خصوصيّة الحكاية وتميّز الخطاب. بيروت: دار الآداب. ص 144.

فرمان، غائب طعمة (1989). المركب. بيروت: دار الآداب. ص 62.