• 20 تموز 2020
  • جبل المشارف

 

بقلم: سعيد الغزالي

 

كانت عزيزة تحب سماع نغمات الساعة المستديرة ذات الإطار الخشبي الأصفر المعلقة على الحائط في صالون البيت، وعلى رأس كل ساعة تمر، يلامس عقرب الساعة صورة طائر أو حيوان فيصدر عنها صوت ذلك الطائر أو الحيوان، كانت تستطيع أن تحدد الوقت عندما تسمع الصوت دون النظر إلى الساعة، في تمام الساعة الثالثة صباحا تسمع صياح الديك، في الرابعة شدو البلبل، في الخامسة زقزقة العصفور، في السادسة هدهدة الهدهد، في السابعة زقاء الطاووس، في الثامنة دوي النحلة، في التاسعة نقيق الضفدع، في العاشرة صهيل الحصان، في الحادية عشرة صفير النسر، في الثانية عشر صواء الفيل، في الواحدة بعد الظهر نباح الكلب، في الحادية عشر ليلا عواء الذئب...

 

كانت ساعة حائط جميلة، وتساعدك فكرتها على إبقاء الإتصال مع الطبيعة، اشترتها عزيزة قبل ٣٤ عاما من إحدى ضواحي مدينة نيويورك، في تلك المدينة، عاشت عزيزة شهرين ونصف الشهر، كانت تستمع إلى محاضرات في الإعلام في جامعة كولومبيا، وتحضر اجتماعات مع مسؤولين في مقر الأمم المتحدة، منذ ذلك الوقت، تعمل الساعة بانتظام، طالما أن أصابع البطارية مشحونة.

 

 فجأة تطاير عقربا الثواني والدقائق واخترقا زجاج الساعة الشفاف، خرجا كموجتين، لكن الزجاج لم يتحطم وبقي على حاله، وتطايرت الأرقام والرموز والطيور والحيوانات في أرجاء الغرفة، وتهاوت النجوم الملتصقة بالسقف، وانفجر القمر كبركان جميل تناثرت حممه، يا لها من لوحة جميلة، هذه الارقام والرموز والرسوم والنجوم تتحرك كأمواج في عدة اتجاهات وتنتشر وتتوسع في الكون الواسع داخل الغرفة، قالت عزيزة في سرها: هذه حالة عجيبة من حالات "الكوانتوم فيزكس".

 

تسللت ضفدعة خضراء من مستنقع صغير واتجهت نحو شلالات نياغارا، كأنها تريد أن تستحم فيها، أو تمتع نظرها بجمالها الأخاذ، لم تستطع الضفدعة أن تقترب من الشلالات لشدة اندفاع المياه الساقطة، أصيبت الضفدعة بالدهشة والخوف، وتسمرت في مكانها، لم تفهم عزيزة ما يجري حولها، حبست أنفاسها، وهي تراقب ساعة الحائط، وضعت يدها على رأسها أحست بمخلب ذئب يضغط على عنقها، تحسست جسمها وذراعيها وفتحت بؤبؤ عينها وأخذت تفكر بأن جسمها لم يتناثر بعد، كان المخلب يضايقها، صاحت: "أنا عزيزة، أنقذوني".

 جالت عيناها في أرجاء الغرفة، باحثة عن صوتها. تساءلت: أين ذهبت الكلمات الثلاث: أنا عزيزة أنقذوني؟ فشاهدت جسمها في ملابس النوم وهي تحاول أن تمسك بالضفدعة التي كانت تتحول إلى قطة سوداء. تقدمت عزيزة باتجاه القطة ومدت ذراعيها لتحملها وتحضنها لكن القطة لم تكن جسدا ملموسا بل كانت صورة وهمية.  

 

 لوقت طويل كانت عزيزة تأوي إلى فراشها كل مساء، وتطفأ النور فورا، وتحاول أن تنام، وتبعد عن رأسها الأفكار السوداوية، بلا جدوى، سمعت نهيق حمار، كان صوته آتيا من بعيد، ثم أخذ الصوت يقترب وباقترابه كان يعلو رويدا، رويدا، أحست أن الحمار قد دخل الحظيرة، أصاخت السمع، سمعت حركات الحوافر وهمهمات أصوات غامضة في الحظيرة، كان الحمار يتحرك، يبحث عن شيء ما، هل كان يبحث عن طعام؟ هل يبحث عن مكان للمبيت فيه؟ من أين جاء؟

 

لم تعرف عزيزة إن كانت تراه في الحلم أو اليقظة، خرج الحمار من الحظيرة، وقف أمام الباب الخارجي، وكأنه يهم بدخول المنزل، دون أن يضغط على الجرس، ولكن هل ستفتح له الباب إن قام برن الجرس؟ ولكن ماذا يريد؟ ولماذا يريد أن يدخل المنزل؟ ومن هو هذا الحمار؟ هل هو حمار جارها أبو فهد، لكن أبو فهد لم يقتن أي حمار، تذكرت حمار أبيها، لكنه مات قبل أن يموت أبوها، يا للهول: لماذا تتذكر حمار أبيها، الذي توفي عن عمر، يناهز... يناهز... إنها لا تذكر بالضبط كم كان عمره عندما وافته المنية، كان في آخر أيامه متعبا، لا يقوى على حمل أي شيء وأصبح مريضا، ربما كان حمارا يفكر وكان محبطا، ولم يرض على نفسه أن يبقى في الحظيرة، يأكل ويشرب وينام ويقوم ببعض الأعمال، ويمضي أحيانا بعض الوقت خارج الحظيرة يرعى بعض الحشائش.

 

ربما مات الحمار من القهر، أو توفي بالسكتة القلبية، أو أنه أصيب بمرض عضال، كالسرطان مثلا، هي لا تعرف لماذا كان يمضي وقته يائسا، وقانطا من الحياة، لم تكن تعرف بالضبط ما طبيعة مرضه، بل انها لم تكن تدرك في ذلك الوقت أنه مريض، وبحاجة إلى عناية، وهي لا تذكر أن اباها قد عرضه في يوم من الأيام على طبيب مختص بعلاج أمراض السرطان، وهل يوجد طبيب بيطري مختص بأمراض السرطان لدى الحمير؟ تتذكر عزيزة كل ذلك. لكن الوضع تغير اليوم، فقوانين الرأفة بالحيوان تجبر صاحب كل دابة أن يعرضها على طبيب مختص. كان حمار أبيها ذكيا وحكيما، لكنه مات، مات، مات.

 

تردد صدى كلمة مات في رأسها، فاستيقظت من نومها. نظرت إلى الساعة لتحدد الوقت، الساعة في مكانها معلقة على الحائط وتشير عقاربها إلى الرابعة صباحا، الوقت مبكر جدا، حاولت أن تتذكر ما شاهدته في حلمها، واجتاحتها موجة عارمة من الضحك الهستيري، والاكتئاب المدمر، "ديفاستيتنغ ميلانكولي". يا له من حلم... لماذا تحلم بالساعة وحمار أبيها؟ أين القطة؟ وأين شلالات نياغارا؟ يا له من حلم. عادت إلى النوم، وهي تفكر بأن الحمار هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يكون رفيقا مخلصا لي، اخذت تردد: "بعد أن فشلت كل مشاريعي بأن يكون لي "بوي فرند". "البوي فرند" في هذه الأيام يريد أن ينال حاجته منك يا عزيزة، فتحبلين فيتركك ويتخلى عنك، فكيف تبررين للناس فعلتك أو فعلته، لا فعلتك أنت وحدك وليس فعلته، لا أحد يلوم "البوي فرند" في هذا العصر، المرأة هي المدانة دائما، يحق "للبوي فرند" أن يفعل ما يشاء، فهو ذكر. ولا يحق "للغيرل فرند" أن تصاحب شابا لأنها انثى. الأنثى عورة، محرم أن تلامس اشعة الشمس جسمها، ولا أن تتمتع بالقفز في أحضان موج البحر ولا أن تركض حافية القدمين على الرمال وهي ترتدي ملابس البحر. أحضري الحمار يا عزيزة حالا، سيكون الحمار الأشقر رفيق دربك، وقد تظهرين أمامه دون غطاء للرأس، أو عارية بدون ملابس، فلا يعترض أحد على ذلك، لأنه حمار.

 

بعد نحو ساعة، نهضت من فراشها، وأشعلت النور، وفتحت "لاب توبها". وكتبت في محرك البحث "غوغل" صور حمير. فزودها "غوغل" فورا بعشرات الصور، وأخذت تتأمل كل حمار، وتقول في نفسها: هذا حمار بهي المنظر، لكنه طويل الأذنين، هذا حمار عملاق، كبير ويبدو أنه حمار شرس، لو رفسني رفسة قوية، سيلقيني أرضا ويقتلني، وهذا حمار فتي، لكنه غر، ويبدو أن خبرته في الحياة محدودة، وهذا حمار قصير القامة، وعيناه ماكرتان، وذاك حمار مقطوع الذيل، وهذا حمار أعرج، وأخر لا يرى بوضوح بعينه اليسرى لأنه يرعى الحشائش من الجهة اليمنى فقط.. اما هذا الحمار فهو متكبر متغطرس يرفع رأسه عاليا، وهذا حمار بليد واذناه متدليتان.. أريد حمارا قويا ونشيطا... أين سأجد ضالتي؟

 

قرأت عزيزة مؤخرا مقالا تنصح فيه فلورانس دان، طبيبة الألعاب الرياضية في جامعة باريس المواطنين بممارسة رياضة المشي بصحبة حيوان، لما لها من فوائد عديدة على الصحة، فاجتاحتها رغبة باقتناء حمار، فقالت عزيزة في نفسها، بعد قراءتها للمقال المنشور في صحف خليجية ومصرية عام ٢٠١٧: "لماذا لا أصطحب حمارا اثناء ممارستي للمشي في الحديقة، فالمشي بحد ذاته يلهمني استحضار الصور والمعلومات والاحداث المخزنة في منطقة اللاوعي في دماغي، فتتفاعل مع تجاربي في الحاضر، فتتناسل الأفكار من ذهني، فأكتبها على الورق وأحولها إلى حكايات غنية بالحكمة والتجربة والأمل".

 

أحست عزيزة، بعد قرارها بأن تصاحب حمارا، أن روحها عادت إليها، ففرحت وانتعشت، معتقدة أن صحبتها للحمار سيخفف عنها عزلتها وانطوائها على نفسها، وستجد رفيقا تبث له احزانها، بعد أن أصبح الكلام مع البشر غير مجد بل مضر لأتهم يستخدمون كلامك سلاحا ناريا يوجهون رصاصه إلى رأسك وصدرك.

 

مما لا شك فيه، كما تثبت الأبحاث العلمية، أن الحيوانات جميعا تحس وتتألم، وتفرح وتحزن، والصوت العالي يزعجها، وتغضب عندما يُعنفها أو يضربها صاحبها أو أي شخص آخر، وهي مستعدة أن تتآلف مع من يلاطفها ويعتني بها ويقدم لها الطعام. ولا عجب من ذلك، فجوهر جميع الكائنات الحية واحد، وهي مترابطة إلى حد عجيب، ولكن معظمنا لا يستطيع أن يتصورها. نحن متفوقون على الحيوانات بقدرتنا على التواصل من خلال اللغة، ولكن الحيوانات تتواصل مع بعضها من خلال العين والشم والصوت. الحيوانات كائنات تحب التواصل مع الانسان.

 

 لم تكن عزيزة بحاجة لسماع ما قالته الطبيبة الفرنسية دان عن فوائد مصاحبة الحمار، ولكنها رأت أنه من المفيد أن تُذكر القراء، بأن الحمار رفيق ذكي وهادئ يُخلص صاحبه من الإحساس بألم الوحدة والاكتئاب، خصوصا أن عزيزة كانت في طفولتها تحب ملاطفة حمار أبيها، ولمس رأسه وعنقه وظهره، وكثيرا ما كانت تطعمه، وتحزن عليه إن أصيب بحجر يدمي رأسه أو جسمه، فكانت تسرع إلى والدها وتخبره بأن أولاد الحارة قاموا بشج رأسه وتطلب منه أن يسارع في علاجه.

 

لكن من أين ستأتي بحمار ذكي واجتماعي كحمار أبيها الذي مات منذ سنوات طويلة. مات حمار العائلة وترك فراغا كبيرا، فقد كان صديقا للأطفال، ولم يحتج عندما كانوا يركبونه، فيخرج بهم إلى السهل، ويمشي جيئة وذهابا حتى تغرب الشمس ويعود إلى الحظيرة، فيتناول طعامه وينام.

 

في عطلة نهاية الأسبوع، أي يوم الجمعة، توجهت عزيزة إلى احدى القرى المجاورة لشراء حمار، قيل لها أن تتوجه إلى معصرة الزيتون في القرية، وهناك يمكنها شراء حمار.  يُحمل الزيتون على ظهور الدواب، بعد طلوع الشمس، بقليل، وتنقل الأحمال إلى المعصرة، وهي عبارة عن غرفة واسعة من أربعة جدران مبنية من الطين أو الطوب، ومسقوفة بألواح الزينكو المغلفة بالقماش، وفيها حوض دائري، في وسطه حجر الرحى المربوط بحبل إلى دابة تدور حول الحوض طوال الوقت حيث يتدحرج الحجر الثقيل على الزيتون فيكسر حباته ويطحنها. 

 

عندما يتعب الحمار أو البغل، أثناء عملية الطحن يقوم رجل يمشي خلفه "بدفعه ونكزه". وعندما يتم الانتهاء من طحن الكمية، تتوقف الدواب عن الدوران حول الحوض وتتناول بعض التبن والشعير، ويرتاح الرجل، في أثناء ذلك، يقوم شخص آخر بإضافة كميات أخرى من الزيتون إلى الحوض وتستأنف الدواب عملها الروتيني.

 

راقبت عزيزة الدواب في معصرة الزيتون، ووقعت عيناها على حمار أشقر صغير الحجم، كان يتحرك ببطء شديد، وهو يشد حجر الرحى الثقيل، وكان صاحبه يمسك سوطا طويلا ويلسعه بضربات مؤذية على مؤخرته، أحست عزيزة وكأن الضربات تصيبها وتوجعها وأشفقت على الحمار المسكين.

سألت الرجل: أذكر حمارك أم انثى؟

-ذكر، لماذا تسألين؟ قال الرجل مستغربا من السؤال

- سأشتريه منك. كم ثمنه؟

تهللت أسارير الرجل، ولمعت عيناه طمعا، وقال: ثمنه خمسون دينارا.

لم يتوقع الرجل الأربعيني أن توافق عزيزة فورا على الثمن، دون مساومة.

أخرجت محفظتها، وأعطته خمسين دينارا.

خرجت عزيزة من المعصرة بصحبة الحمار الأشقر. أحست بالنشوة وهي تمشي إلى جانبه، وقالت لها: اطمئن يا أشقر، لن تحمل أكياس الزيتون بعد اليوم ولن تجر حجر الرحى الثقيل. ستكون صاحبي. سأخصص لك مكانا جافا لتنام فيه، وأوفر لك الطعام الغني بالألياف واعتني بك وألاطفك وأضمن لك حياة مديدة وسعيدة واجعلك أنيسي. لن أقم بامتطائك، فلا زلت صغيرا، وقد لا تقوى على حمل وزني، ولكني سأحمل عليك بعض متاعي الشخصي الخفيف الوزن، هل تعارض؟ لا أظنك تفعل.  وأخذت تربت على جسده، وداعبت ساقه اليمنى ورفعتها إلى أعلى، فلم يعترض الحمار الأشقر.

 

فخاطبته وهمست في أذنه: يبدو أنك مهذب ولطيف رغم أن صاحبك لم يكن لطيفا ومهذبا معك. أعلم أنك تشعر بالتعاسة إن بقيت لوحدك، سأشتري لك رفيقة أو رفيقا. وستمضيان الوقت معا، عندما أكون مشغولة بشئون أخرى. سنذهب معا كل أسبوع او أسبوعين لزيارة نادي الخيول في مدينة أريحا. أعلم أنك لست عنيدا، وستتعلم بسرعة. وأنا أحب الحديث معك بصوت منخفض ولن أرفع صوتي عليك ولن أجبرك على فعل أي شيء لا ترغب بفعله، اطمئن. هناك ساحة واسعة خلف الحظيرة التي ستنام فيها، ويمكنك أن تتريض وحدك، وقد أكون في معظم الوقت معك، نتجول معا، ونتبادل الحديث في شئون الدنيا. فإن هطلت الامطار في فصل الشتاء، يمكنك أن تخرج أو لا تخرج، فلن أجبرك على الخروج إن لم ترغب بذلك.

 

لا تخش من وباء الكورونا، سأحرص على نظافتك كل يوم. وسيأتي طبيب يفحصك ويعالجك إن اصبت بأي التهاب أو مرض. سأحرص على توفير قش الشعير لك، لتلوكه لساعات طويلة، ولن تكتسب وزنا زائدا.

 

سأعطيك وقتا كافيا للرعي من الحشائش. وعندما لا تتوفر الحشائش في فصل الشتاء، سأحضر لك التبن النظيف. وإن رغبت سأحضر لك بين الحين والآخر التفاح والجزر والموز والتمر وأوراق النعناع الطازجة والمجففة. وسأوفر لك المياه النظيفة. ستنام في حظيرة نظيفة لا وحل فيه، وخالية من الفضلات، وسأقوم بغسل الدلاء وتعقيم ارض الحظيرة وجدرانها. سأحميك من الحيوانات المفترسة ببناء جدران عالية حول الحظيرة. سأستعمل الفرشاة في تمشيطك وتنظيف حوافرك. وسأطلب من طبيب الاسنان المتخصص أن يزورك مرة كل ستة أشهر. وسأقوم باستشارة الطبيب البيطري لتطعيمك باللقاحات المختلفة ضد الأمراض. استيقظت عزيزة وأعدت لنفسها كوبا من القهوة، وأخذت تردد في سرها: يا له من حلم.

 

قررت عزيزة التي تنظر للناس على أنهم متساوون، أن تنظر إلى العنصر المشترك بين الانسان والحيوان، الانسان كائن حي، والحيوان كائن حي، هذا هو الشيء المشترك بينهما، ودفع هذا الشيء المشترك عزيزة أن تعامل الحمار الأشقر باحترام وتقدير. أليس الأحرى بالناس أن يعاملوا بعضهم بعضا بالحوار الحسن والتقدير والصدق والمحبة؟ لو فعلوا ذلك، ستتغير الدنيا، ولن تندلع الحروب، وسيحل السلام، وسيتفرغ الناس للعمل الايجابي والإنتاج وتحقيق التقدم.