• 30 تشرين أول 2025
  • مقدسيات

.

القدس - أخبار البلد - كتب معروف الرفاعي: 

في الفجر المقدسي، حين يوشك الضوء أن يلامس حجارة الأسوار العتيقة، تتصاعد رائحة الكعك بالسمسم من أفران القدس القديمة، فتسبق الأذان و تملأ الأزقة دفئاً يشبه الحنين، هناك، في قلب المدينة، لا يزال الكعك يُخبز على نار الحطب فقط، كما ورثه الأبناء عن الأجداد، وكأن كل قطعة تحمل ذاكرة المدينة وصبرها ودهشتها الأولى.

على درجات باب العامود، وفي زوايا حي المصرارة وامتداد شارع صلاح الدين، يتجمع الباعة منذ ساعات الفجر الأولى، يرصّون الكعك على العربات ذات الثلاثة عجلات المميزة بلونها الأخضر والأحمر والتي اختصت بها القدس وحدها، تفوح منه رائحة السمسم المحمّص والخبز الطازج، يمرّ العابرون، طلاب مدارس وعمّال ومتعبون من ليلٍ طويل، يتوقفون عند تلك العربات كأنهم يسلّمون على القدس نفسها، فالكعك هنا ليس مجرد خبزٍ دائري، بل طقس يوميّ من الحب والانتماء، قطعة من تراب المدينة ورائحتها.

ولأن المذاق لا يكتمل إلا بالتفاصيل، ترافق الكعك المقدسي وجبة الفجر: البيض المشوي في ذات فرن الحطب، حيث يكتسب لوناً ذهبياً ونكهة لا تُنسى، والفلافل المقدسية المحشوة بالبصل والجبنة البيضاء، التي تنفجر نكهتها دفعة واحدة لتقول لك إن هذه المدينة تعرف كيف توازن بين البساطة والكرامة في لقمتها.

الكعك المقدسي لا يُؤكل فقط، بل يُحتضن بالرائحة والذاكرة، فحين ابتعد المقدسيون إلى المنافي — إلى عمّان أو دول الخليج — كانوا يوصون المسافرين القادمين من القدس: “احملوا لنا معكم كعك القدس، لنشمّ منه رائحة البيوت والحارات والأسوار”، كان الكعك يصل ملفوفاً في القماش، وقد فقد بعض هشاشته، لكنه ظل يحمل عبق المدينة كما لو خرج للتوّ من فرن الحطب في البلدة القديمة.

هكذا، بقي كعك القدس بالسمسم أكثر من طعامٍ صباحيّ، إنه رسالة من المدينة إلى أبنائها البعيدين، وجسر بين الحاضر والماضي، بين من بقي ومن رُحّل، بين من يمسح العرق عن جبينه أمام فرن الحطب ومن ينتظر تلك الرائحة في الغربة، كلّ رغيفٍ منه دائرة من حنينٍ لا تنتهي، وخبزٌ يظلّ ساخناً ما دام في القدس من يوقد نار الحبّ في قلب الليل.