• 27 شباط 2021
  • مقابلة خاصة

 

حاورته: فيكتوريا جايرين ـ ترجمة: عبد الله الحيمر

 

بنوع من التمرين المفاهيمي، يقدم لنا الفيلسوف الكندي ألان دونو، إشكاليات نظام التفاهة. كنظام رأسمالي احتكاري استغلالي، أصبحت فيه المهن نوعا من العبودية بالأزمنة الحديثة. شارحا في كتابه «سلطة التفاهة «، كيف استطاع هذا النظام ترميز الأشياء، وكيف عمل على تغيير نسق العلاقة الاجتماعية، والسياسية والاجتماعية. فأرجع أسباب هذا التحول، إلى عاملين اثنين، أولهما في السوسيولوجيا والاقتصاد، وكذلك في السياسة والشأن العام الدولي. وثانيا في السياسة، كحكم التكنوقراط، واستبدال الإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية. لقد تغير الزمن واستولى التافهون والحقراء وأصبحوا يقودون المجتمع في تكتل تافه. فأصبحنا نواجه كمشكلة ونظام سلطة جديدة في عصرنا. ويؤكد الفيلسوف ألان دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، وربحوا الحرب.
وفي هذا الحوار، يقدم لنا إجابات عن هذه الأسئلة المعقدة والعسيرة عن نظام التفاهة. وكيف نخرج من أفق سلطته وصايته كمعيار وكنموذج.
■ ماذا تعني» بالتفاهة»؟ وما هو الفرق مع كلمة «الوسطية»؟
□ كلمة «الوسطية» في الفرنسية تعني موضوعيا ما هو وسط أو متوسط. لا يقال هذا عن «المواطنة» بالضبط. لكن هناك شيئاً ما يميز المصطلحين بوضوح. يشير التافه ​​إلى فكرة مجردة ـ سنتحدث عن متوسط ​​الدخل، وعن متوسط ​​المهارات… بينما انحدر مفهوم العمل إلى «التافه» وصار أشخاصه متوسطين بالمعنى السلبي للكلمة. ومع ذلك، هذا ليس كتاباً عن الوسطية، ولا مقالا أخلاقيا، ولكنه محاولة لفهم اتجاه، ديناميكية اجتماعية تفرض إنتاجا متوسطا. إنه «نظام التفاهة» المرحلة الوسطى التي رفعت إلى مرتبة السلطة. إنه يؤسس نظاما لم يعد فيه التافه ​​مجرد تفصيل مجرّد يسمح بمفهوم تركيبي لحالة الأشياء، بل معيارا غير معقول يتمثل في تجسيده. إذا كنا صادقين، فنحن جميعا في يوم أو آخر جيدون في شيء ما – ولا يمكننا دائما أن نكون على أكمل وجه! المشكلة هي أننا مجبرون على أن نكون كذلك في جميع الأشياء.

«نظام التفاهة»

■ متى بدأ العمل بنظام التفاهة؟ ومتى استولى التافه على السلطة؟
□ حدث ذلك بشكل تدريجي، ساهم تقسيم العمل وتصنيعه ـ يدويا وفكريا ـ إلى حد كبير في صعود القوة المتواضعة المتوسطة. في القرن التاسع عشر، أصبحت «التجارة» متكونة أساسا من «العمالة». والعمل، الآن أصبح موحدًا، ومختصرًا إلى نشاط تافه ​​بمعايير دقيقة وغير مرنة، لا معنى له. وهكذا، يمكن للمرء أن يقضي عشر ساعات في اليوم، في إعداد وجبات متسلسلة بدون أن يكون قادرا على إعداد الطعام في المنزل، أو تثبيت البراغي على سيارة، بدون معرفة كيفية إصلاح سيارته، أو بيع الكتب والصحف التي «لم تعد تأخذ الوقت الكافي لقراءتها بنفسك» لذلك فإن فخر العمل الذي يتم إنجازه بشكل جيد يميل إلى الاختفاء. يشرح كارل ماركس ذلك جيدا في مقدمته العامة لنقد الاقتصاد السياسي، عندما يحلل أن «اللامبالاة بعمل معين تتوافق مع شكل من أشكال المجتمع ينتقل فيه الأفراد بسهولة. من عمل إلى آخر، والذي فيه نوع العمل مجرد وظيفة يمكن استبدالها بسهولة، ويمكن لأي كان القيام بها. فأجهزة السلطة تعمل، بواسطة استراتيجياتها، من أجل الإبقاء على الفاعلين الاجتماعيين «عاديين». والمزعج في ذلك أنه يفرض كبت إمكانياتهم. فالتفاهة على مستوى السلطة تمنع بروز الأداء المميز والمستقيم. في السابق عند الكاتب جان دي لابرويير، على سبيل المثال، غالبًا ما ظهر « التافه» في شكل خادع، يشق طريقه بين الأشخاص المستحقين والأكفاء. وفي أعقابه، على الرغم من الاختلاف الشديد، يقدم مؤلفون مثل كارل ماركس أو ماكس فيبر، أو هانز ماغنوس إنترنسبيرغر، أو لورانس جاي بيتر، تقارير عن تطور التافه وكيف أصبح ​​مرجعا لمنظومة بأكملها.
■ نظام كهذا يتطلب قبل كل شيء «لعب اللعبة». في رأيك، هل يمكن أن يكون هذا التعبير الشائع شعارا «لنظام التفاهة» ماذا تقصد بذلك؟
□ وهذا التعبير الشائع الآن، في حد ذاته يمثل إلى حد ما المشكلة لأنه فرق لغوي. لدينا الكلمة نفسها مرتين في شكلين مختلفين. لكن تحت ملاعبها، غير المؤذية وطفولتها الخارجية، فإن معناها أكثر خطورة.
أولا ستكون اللعبة، وقبل كل شيء مجموعة من القواعد غير المكتوبة، والإجراءات الروتينية، على الرغم من أنها غير رسمية، والتي يجب على المرء الامتثال لها، إذا كان ينوي تحقيق غاياته. وهذا يتضمن بشكل أساسي طقوسًا معينة ليست إلزامية، ولكنها تشير إلى علاقة الولاء بالجسد، وإلى العلاقة بالشبكة، لكن الجانب الآخر العنيف من هذه الأحداث الاجتماعية هو – الحفلات، ووجبات الغداء، وجولات التسوق. نحن نقتل رمزياً لنعاقب على عدم الولاء للشبكة، في سياقات تترك للأقوى مجالاً واسعاً للتعسف. وفي النهاية، ينتج عن ذلك، بدون سابق اهتمام، المؤسسات والمنظمات الفاسدة بأقوى معانيها، بمعنى أن ممثلي المؤسسات غالبًا ما يغفلون عما تقوم عليه هذه المؤسسات، لصالح قضايا ليس لديها علاقة بمزاياها الاجتماعية والتاريخية. وهكذا نظام التفاهة يكتسب مواقع جديدة.
■ هل في رأيك، الرقم الذي يجسد بشكل أفضل، مستوى نظام التافه ​​هو رقم «الخبير». لكننا نميل غالبا إلى الاعتقاد بأن هذا على وجه التحديد يؤدي إلى سحب المجتمع الى الأعلى. أليست هذه مفارقة؟
□ عالج المفكر إدوارد سعيد هذه المفارقة بشكل مباشر، مميّزًا بوضوح بين مفهوم الخبير والمثقف، غالبًا ما يكون الخبير، في التكوين المعاصر، هو الشخص الذي يعمل بطريقة معدلة، ومن يتستر على المعرفة بخطب المصالح. وهو ممثل السلطات التي تستأجره مرتديًا ملابس العالم النزيه. المثقف، على العكس من ذلك، ينظر إلى القضايا لأنه مهتم بها في حد ذاتها، بدون كفيل محدد، وبدون أي مرجعية موضوعية، للمعرفة. في حين لا يكتفي الخبير بإعطاء معرفته للناس حتى يكون لديهم جميع الأدوات للتداول: إنه يضع موقفاً أيديولوجيا كمرجع موضوعي، على وجه التحديد. الأمثلة لا تنضب عن مساهمة التفاهة في فساد اللغة والأفكار والمثقفين، والوسط الجامعي والاقتصاد، والفن والثقافة والدولة ككل. في الجامعة، هذا سؤال حقيقي يجب على الطلاب الآن طرحه على أنفسهم: هل يريدون أن يصبحوا خبراء أم مثقفين؟ إذا كانت الجامعة، التي يقوم الباحثون بأبحاث ترضي الممولين، ويعمل الجامعيون كزبائن لدى السلطة، لا تزال قادرة على جعل هذا الاختيار ممكنا. وتتكون الخبرة في كثير من الأحيان من بيع الأدمغة لممثلي الشركات الذين يستفيدون منها.
■ ماذا تقصد بذلك؟
□ اليوم، بعيدا عن ذلك، لم يعد الطلاب في الجامعة فقط لاكتساب المعرفة، بقدر ما لها صلة اجتماعية. من الواضح أنهم يمرون للحصول على سلعة بأنفسهم، تخفي المؤسسة شيئًا فشيئًا عن حقيقة أنها تبيع ما تفعله بها للشركات الخاصة والمؤسسات الأخرى التي تمولها. ليست المجموعات الخاصة هي التي تمول الجامعة، بقدر ما هي الدولة التي تمنحهم الجامعة كمركز للبحث والتطوير المدعوم. في خريف عام 2011، أكد جاي بريتون رئيس جامعة مونتريال، أن «العقول يجب أن تتوافق مع احتياجات الشركات» وهذه الشركات نفسها (المصرفية، والصيدلانية، والصناعية، أو الغازية أو الإعلامية) التي تضم مجلس إدارة الجامعة. نجد أنفسنا في مواجهة انعزال عن التفكير النقدي. وهذا هو الجانب الآخر من المشكلة: لم يكن لدينا أبدا حاجة كبيرة لعلماء الاجتماع والفلاسفة والأدباء، لفك شيفرة هذه الظاهرة أو تلك. وبمجرد أن يغلق ممثلو هذه المجالات أنفسهم في عوالم محكمة، فائقة التخصص، نجد أنفسنا محرومين اجتماعيًا مما نحتاجه حقًا: البحث والتفكير المتحرر من قيود إضفاء الطابع المهني.

صعود الحوكمة

■ في أصل نظام التافه​​، تتحدث عن صعود الحوكمة. بماذا يتعلق الأمر؟
□ هذا هو الجانب السياسي لسيطرة التافهين على الحكم، في الثمانينيات، تولى تكنوقراط في عهد رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت ثاتشر إدارة هيئة «الحوكمة» التي تم تطويرها أولاً في نظرية المشاريع الخاصة، لإخضاع الدولة لثقافة القطاع الخاص. تحت ستار الإدارة الأفضل للمؤسسات العامة، كان الأمر يتعلق بتطبيق الدولة على أساليب إدارة الشركات الخاصة، التي كان من المفترض أن تكون أكثر كفاءة. في نظام الحكم، حلت الإدارة محل الفكر السياسي، يتم عكس كل المفردات التقليدية، نقول الحوكمة للسياسة، والمقبولية الاجتماعية للإرادة الشعبية، والمواطن بمفردة «الشريك» والشأن العام بتقنية «إدارة» لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. تحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة. التفاهة تخدرنا بلغة خبرائها الفارغة والاستشارات العامة والملخصات المكتوبة مسبقا، التي لا تفيد سوى تأييد خيارات السلطة. نحن الآن نقوم بحل المشاكل من خلال البحث عن حل فوري وتقني للرد على مشكلة فورية. هذا الإقصاء من السياسة يستبعد أي تفكير قائم على المبادئ، أي رؤية واسعة تتمحور حول الشؤون العامة. هذا هو تقدم الصحراء الإدارية: عينت وزارة في مقاطعة كيبيك في كندا، مؤخرا «مهندسًا وزاريا لإدارة الشركات» كان عليه «إتقان نهج العميل» ويعرف أنه «مالك العملية». أشك في أننا نفهم بعضنا بعضا حقًا في هذه الدوائر. ومن المثير للدهشة أنه من خلال حرمان أنفسنا من تراثنا المعجمي السياسي، فإننا نحذف تدريجياً الأفكار والمبادئ الأساسية التي سمحت لنا بتوجيه أنفسنا علنًا. وبهذا المعنى، فإن مصطلح «الحكم» يمثل حقبة تفضل المفاهيم التي لا معنى لها، والتي كلها مدعومة بأدلة من المشاركين الحاليين: «الهجرة» «البقاء» «النضال»..
■ إذا كانت مرتبطة، كما قلت، باقتصاد السوق، فكيف يمكننا مقاومة «نظام التفاهة»؟
□ لن أقوم بحل المشاكل: لا توجد هناك استجابة إدارية وعملية لذلك، لكن على الرغم من كل شيء، هناك العديد من الطرق لمحاربة هذه الحالة المحيطة، التي لا تدفعنا إلى الأعلى. لازم نقاوم بمعنى مقاومة طبق الطعام، كمجموع المزايا الصغيرة التي تجعلك مثير للشفقة. العودة إلى المفاهيم القوية للتفكير في الأمور، وعدم ترك لغة الإدارة الرديئة تقع علينا، وتمسك بطبيعتها الذاتية، وأن تعود هذه اللغة الفاسدة كموضوع للفكر.

ترجمة بتصرف عن المجلة الفرنسية LE POINT
ألان دونو حاصل على دكتوراه في الفلسفة ومحاضر في العلوم السياسية في جامعة مونتريال.

القدس العربي