• 8 شباط 2022
  • مقابلة خاصة

 

بقلم :  أرشـد هورموزلو   

 

ألا نقول دائما بأننا يجب أن نكون متصالحين مع الناس ومع من هم حوالينا ومع البيئة. هذا صحيح، ولكن هل نحن متصالحون مع ذاتنا وصادقون مع أنفسنا قبل الآخرين؟

هناك مصطلحات نفسية وطبية بعض منها يشير إلى العيش خارج إطار متطلبات العصر، ولعل من أبرز هؤلاء من هو غير صادق مع نفسه وينحدر إلى هوة سحيقة من التخبط خارج متطلبات عصره.

نرى أحيانا من يتحدث مطولا عن الايثار والصدق وتفضيل المصلحة العامة على تلك التي هي شخصية، ولعلكم تفهمون من ذلك أنه يوحي بأنه يمتلك هذه الخصال. ولكن الواقع لا يشير إلى ذلك.

في حين إن من يؤمن بضرورة الجهاد مع النفس أولا ومن يرمي إلى محاربة الشيطان الذي قد يبغي تملك أحاسيسه هو الذي يخرج منتصرا من هذه المعركة ويكون بذلك صادقا مع نفسه ومتصالحا معها.

قال أحد أساتذتنا الكبار يوما في لقاء مفتوح أن أكبر مشكلة تواجه القوميين الأتراك هم القوميون الأتراك أنفسهم. ولعله سيعترينا الأسف كلية إذا ما رأينا يوما أن أهم مشكلة للتركمان هم التركمان أنفسهم. ليجنّبنا الله ذلك.

حسنا، ما هي الطرق المؤدية لأن نكون صادقين مع أنفسنا؟

-  أن نتقن الجهاد مع النفس. أي أن نلتفت إلى الوراء فنرى ماذا اقترفنا من أخطاء، وعما إذا كان ما تنطق به ألسنتنا تتطابق مع احساسنا الداخلي وما تشعر به قلوبنا، فإذا لم يكن الواقع كذلك واعترفنا مع ذاتنا بذلك فستتحرر أنفسنا من الذنب وتصفى القلوب قبل الأجساد.

- أن نتخلص من آفة قبول (الآخر) مخطئا و(أنفسنا) على صواب دائما. فكل نفس قد يعتريها الخطأ احيانا ويتمثّل لها الصواب تارة أخرى، فإذا ما علمنا ذلك فسنتحرر من آفة الغرور ومن اعتبار أنفسنا كاملين لا تشوبنا شائبة.

- أن نتخلص من آفة أخرى، هي الشعور بأننا ونحن فقط من يستحقون المديح، وأن نحاول أن نكتشف وبصدق من هو أحسن وأكفأ منا.

- أن نعلم بأن اختلاف الفكر والمفاهيم حقيقة جوهرية نشأت منذ ما نشأ العالم، وأن هذا ليس مؤامرة موجّهة ضدنا وأن ذلك ليس بالضرورة علامة على الخيانة أو التهجم، سنشعر بعد ذلك بنسيم الانشراح وحب الآخرين.

- أن نتجنب عدم الاستماع إلى من يحدّثنا وقد يكون على درجة كبيرة من الصواب لكي نفتش عن الأسانيد التي يمكن أن تثبت خطأه وصحة ما نشعر به نحن والآخر لم يكمل حديثه بعد، وبذلك قد نفقد درسا بليغا كان من الممكن أن يثري مفاهيمنا.

- أن نكفّ عن تصفح الصفحة الأولى والأخيرة في الكتاب الذي هو بين أيدينا لندعي بعد ذلك بأننا قراء ممتازون ومحلّلون من الدرجة الأولى، عند ذلك سنتملّك فيض المعرفة.

- أن نكفّ عن اعتبار أنفسنا السقف الواقي، ومعرفة ما تقتضيه الضرورة والحقيقة بأننا مجرد حجرة واحدة ضمن البناء، وألا يتملكنا الخجل من ذلك،  بل عكس ذلك أن يتملكنا الفخر به، عند ذلك نتحول إلى (نحن) وليس (أنا).

لذلك، 

 فأن يكون الانسان صادقا مع نفسه ومتصالحا وإياها هو من أجمل الفضائل، بل يؤدي ذلك أيضا إلى معرفة الانسان لذاته بصورة أفضل.

قد تكونون سمعتم بما يلي: يحكى أن عالما دينيا كان يسكن مدينة ما، إلا أنه كان على درجة كبيرة من الغرور وحب الذات، أي إنه لم يكن صادقا مع نفسه، فقد كان يعتبر نفسه هو الأكفأ والأعلم، بينما يستصغر الناس بشكل واضح وجلي.

وفي يوم ما وبينما هو يعقد حلقته الدراسية مع تلاميذه، بادره أحد الشباب بسؤال مفاجئ:

            -  سيدي، كيف نستطيع أن نعقد مقارنة بين علم الانسان وعلم الله عز وجل؟ 

انتفض العالم الشيخ وبدأ يتحدث بتؤدة:

-  يا بني، القياس غير قابل بطبيعة الحال، ولكن لكي أستطيع أن افيدكم وأنتم لم تفقهوا كنه الحياة بعد فدعوني أقول، تصوروا مثلا ورقة بيضاء كبيرة بكبر حجم الأرض والسماء، ثم تصوروا نقطة بقلم رصاص على هذه الورقة. إذن اعتبروا أن هذه الورقة تمثل علم الله عز وجل، والنقطة الصغيرة المتوارية تمثل علم الإنسانية جمعاء.

عند ذاك بادره التلميذ بسؤال آخر: إذن يا سيدي، ما حصتكم أنتم من هذه النقطة؟    

يقال إن الشيخ العالم قد أصبح من يومه ذلك من أكثر الناس تواضعا، متصالحا مع نفسه وعارفا بقدر ذاته؟ 

ترى هل استطعت أن أعبّر عن الموضوع بوضوح؟