• 25 آب 2022
  • مقابلة خاصة

 

 

بقلم : ارشـد هورموزلو

 

العنوان الرئيسي للمقال ليس مني، وإنما يعود إلى عالم الاجتماع العراقي المشهور الدكتور علي الوردي (1915-1995). لعل الكثيرون منكم قد قرأوا هذا المؤلف الشهير، فقد وضعنا الوردي فيه أمام مواجهة ذاتية فيها الكثير من المعاني الخفية على بعض المجموعات.

نقتبس من كتابه أولا ما ذكره في جزء سمّاه  ّالقوقعة البشرية ّ يقول فيه:

 ّ المجتمع البشري هو في تطور مستمر، والانسان حين يخدم مجتمعه يدري أنه يخدمه وهو يريد من وراء ذلك جزاء. إن غريزته لا تدفعه الى الخدمة الاجتماعية، إنما هو مدفوع الى الخدمة بدافع حب المكانة والظهور من جهة ومن اجل الحصول على القوت من الجهة الأخرى.

ومشكلته انه دائم التذمر والتشكي. يرى نفسه أكثر خدمة من غيره او أعلى همة وأصح فكرا. هو يطالب إذن بجزائه الأوفى. ّ

يعزو الوردي ذلك إلى طبيعة المجتمع ذاته إذ يقول:

 ّ حين ننظر الى مجتمع النحل مثلا نجد كل نحلة فيه تسعى نحو القيام بوظيفتها الاجتماعية من غير تذمّر او احتجاج، فملكة النحل مطمئنة على عرشها المصون لا يخطر ببالها أن يأتي أحد رعاياها يوما فيعترض عليها قائلا: لماذا هذا الترف والراحة، وأنا كادح أسعى لجمع العسل طول عمري؟ ّ

يبين الوردي أن سبب ذلك أن النحل يتحرك في أعماله بحركة غريزية تشبه من بعض الوجوه حركة الآلة التي لا تشعر بذاتها. ولهذا نجد مجتمع النحل باقيا على حاله ملايين السنين لا يتطور ولا ينمو. 

في حين أن الانسان إذا رأى أن المجتمع لا يقدّره على خدمته تقديرا مرضيا لجأ الى الشكوى والصراخ وقال: ّ  هكذا يصعد الأدنياء ويهبط الشرفاء ّ. 

يبين الوردي أن من مزايا هذا العصر الذي نعيش فيه هو أن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها، وأخذ يحل محلها سلطان الحقيقة النسبية. فما هو حق في نظرك قد يكون باطلا في نظر غيرك، وما كان جميلا في نظرك أمس قد ينقلب قبيحا عندك اليوم. كل ذلك يجري في عقلك وأنت ساه عنه كأن الأمر لا يعنيك.

إن من المؤكد أن جانبا كبيرا من الحقيقة يكمن في آراء هذا العالم الجليل، ولكننا يجب أن نتساءل عما إذا كانت بعض العقائد قد انتبهت إلى ذلك وعمدت إلى قلب الواقع للخلاص من التناقضات التي تستولي على الشعور الإنساني. 

نعتقد بدرجة وافية من الدقة أن هذا الأمر ممكن، وأن الخلاص من الفطرة الذاتية المكنونة في الانسان قابل للتغيير ولكن السؤال الأهم يكمن في مدى استفادة الانسان السوي من ذلك.

 

لأجل ذلك يجب على مجتمعنا أن يسعى إلى نبذ التشرذم والاجتماع على الحقيقة المطلقة لا الحقيقة النسبية علاوة على التخلص من درن بعض الأخطاء والعادات الكامنة في النفوس. من هذا كانت الدعوة إلى جهاد النفس أولا، إذ يجب الاجماع على أن المعيار في العمل الجمعي هو معيار وحيد، فلا يمكن في العمل القومي ولم يحدث في أدبيات الجهاد إطلاقا أن تكون هناك معايير مختلفة أو مزدوجة.

ربما يسعى الانسان ويجّد ويشقى للوصول إلى مرتبة ما، ولكنه يجب أن يعي أن من ورائه من يسعى ويجّد ويشقى ويمكن له أن يحتل مكانته التي هو فيها في يوم من الأيام. وغني عن القول بأن هذا الثاني يجب أن يشعر هو الآخر بأن شخصا ثالثا يمكنه أن يعتلي الموقع أيضا في يوم ما إذا اتيحت له الفرصة.

نفهم من ذلك أن القضية، أية قضية لا يمتلكها شخص واحد ولا مجموعة منفردة فهي ملك من يجتمعون على فكرة واحدة وستبقى كذلك. فخادم القضية يجب أن يواصل خدمتها بعزم وثبات. بعكس ذلك فسيخلق لنفسه معيارا مختلفا، وحينئذ يبدأ بالقول إن الأدنياء قد صعدوا بينما الشرفاء قد هبطوا. أليس كذلك؟

والأمر الثاني أن من يطلب خدمة القضية ويصرف سنين حياته من أجلها يجب أن يدرك أن من يهتم بأمر يجب أن يكون ملمّا بها وبخفاياها، إذ لا يمكن أن يكون الشخص يمتلك فكرا وهو لم يرتشف العلم والمعرفة. من ذلك أن من يود أن يجري في هذا المسار يجب أن يثقفوا نفسه قبل أن يحاول تثقيف غيره. بعكس ذلك فمن يتكئ على الشعارات الحماسية فقط سينتهي إلى ما رأيناه مرارا في هذا الأمر.

إذا استطاع خادم للقضية أن يفكر مليا بأن هناك ليس واحدا بل ربما مئات الأشخاص من هم أكفأ منه وأغزر علما وأكثر نجاحا فسيغمره ألأمل في مستقبل القضية. أما إذا شعر كل واحد منا أنه الأكفأ وحده وأنه لا يمتلك أحقية تركها لغيره فسنسلك طريقا نهايته الخسران.

ولنتساءل، كيف سيكون الأمر إذا كان المرء، أي مرء، يفكّر بهذه الطريقة ويسلك هذا المسلك؟ والجواب أنه لا بد أن ينضوي تحت الفئة التي ذكرها الوردي لا محالة.  

 

آخر الكلام: إذا حدث واستاء أحدهم من هذا المقال فليسأل نفسه أولا، لماذا لم يفكر بأن المخاطب هو غيره واعتقد أنه هو المعني بذلك؟

 

.