• 29 كانون أول 2023
  • مقابلة خاصة

 

  اسطنبول - أخبار البلد - كتب خليل العسلي : 

في اسطنبول كان اللقاء الثاني بعد سنوات من اللقاء الاولى الذي كان في حي اسكودار الاسيوي الهادئ وهذه كانت المرة الاولى التي التقى فيها هذا الاديب  الذي سمعت عنه ولم أكن قد قرات له .

 اما اللقاء الثاني فكان أكثر حميمة ومعرفة فلقد مرت السنين وتوثقت علاقتنا الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية كما يقال لها في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل في قطاع الإعلام المعجوق بكل ما هبّ ودبّ.  هذه المرة اجتمعنا في قاعة الاجتماعات وعلى المنصة، وتجولنا في شوارع اسطنبول غير الرسمية التي لا يعرفها إلا من يطلق عليه نفسه اسطنبولي. وليس الضيف الذي يأتي ويقضي وقتا من الزمن فيها ولا يراها وكل ما يشاهده هو عبر سيارة الضيوف وهي تنقله من المطار إلى الفندق الراقي ومن الفندق الى المطار. 

 اجتمعنا وتحدثنا عن فلسطين وعن الوجع وعن الموت وعن الأمل وعن الثقافة والموروث الذي يعملون على محوه من الذاكرة ومن الوجود. 

 وما بين المحاضرة والمحاضرة كان هناك الكثير من الأحاديث الجانبية بيني وبين الصديق "ابراهيم نصر الله" مع الإنسان الرائع صاحب القلم الذي أذاب قلوب وعقول القراء والقارئات بسلاسة لغته وانسياب حبكته وصدقه، فأخرج لنا روايات حازت على اعجاب الجميع؛ من الصغير قبل الكبير ومن الفلسطيني الى العربي الى الأجنبي،  وطبعت عدة مرات ونالت جوائز لم ينلها أي روائي أو أديب غيره،  وترجمت رواياته الى العديد العديد من لغات العالم فحصل على العالمية التي يحلم بها كل روائي وكاتب عربي ،وهو يستحق ذلك .

وفي اسطنبول تشاركنا بردها القارس لساعات طويلة قبل المحاضرة التي كنت خلال مستمتعا متلهفا لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن هذه الهامة الأدبية الكبيرة، كنت أحاول استغلال كل دقيقة من أجل طرح سؤال هنا وسؤال هناك واستفسار بينهما، على أمل ان أحشر في عقلي كل تلك المعلومات التي لم يبخل بها الصديق "إبراهيم نصر الله" المتواضع الذي كان كريما في المعلومة والنصيحة، فتحدث بإسهاب كبير عن حكايات كتبه الكثيرة وخلفيات كتبتها وطريقة الإعداد لها .

 ولكن أكثر ما لفت انتباهي هو حديثه عن الكتابة باعتبارها مشروعا في غاية الجدية يجب الإعداد له وممارسة أقصى أنواع الانضباط الذاتي، هذا اذا رغب الانسان بتقديم شيء جديد حقا، فهو يلزم نفسه بساعات معينة في النهار من أجل الكتابة، ويبعد عن نفسه أي تشتت في مكتبه الذي يكتب ويقرأ ويبحث ثماني ساعات فيه يوميا مستبعدا كل إزعاج.

وقبل سفره بيوم واحد قررت ان أكون دليل الشاعر الروائي إبراهيم نصر الله  في المدينة التي  أزعم انني أعرف عنها الكثير، ولكن في الحقيقة لا أزال مجرد  طفل يتهجى طرقه في أزقة اسطنبول باحثا مستكشفا.

 المهم أنني قمت بدور العارف بأمور اسطنبول ومن أجل عدم وقوع أخطاء قاتلة فضلت السير في المناطق التي أعرفها أكثر من غيرها وهكذا كانت جولته ثقافية ممتعة مع الصديق العزيز "نصر الله" حيث رغبت جدًا ان نحتسي معا فنجان قهوة في المقهى الذي بدأت فيه كتابي عن المقاهي. كانت الأجواء كما عهدت، هادئة، بعض الطاولات يحتلها البعض المنهمك بالكتابة أو بالهمس، وهناك في هذه الأجواء تفتّحت قريحتنا للحديث الأعمق حول الكتابة والكتب والأدب والأدباء والشعر والشعراء وعن هموم هذا المعشر المعذب من البشر، وأشياء اخرى.

 وكما قال نصر الله هنا (أي في اسطنبول) الكاتب لا يحتاج الذي يريد الكتابة عن المدينة إلى استحضار التاريخ، فكل شيء موجود، وما عليه إلا الحضور والجلوس والكتابة بكل شغف، أما عندنا، عربيا، فإن الكاتب أن يبحث كثيرا وأن يستحضر التاريخ، إذا ما استثنيا بعد المدن العربية العريقة التي لم تزل تحتفظ بعمرانها. 

 .. وأنتهت الساعات القصيرة التي لم تمتد الى أكثر من العصر بتناول وجبة شاورما (دونار) من مكان خاص لا يعرفه السياح ، وقد نال إعجاب نصر الله .

 بعد  أن جمعتني اسطنبول مع الشاعر الروائي "إبراهيم نصر الله"  لعدة ايام  عشقت الكتابة أكثر من أي وقت مضى في حياتي .

 افترقنا على وعد التواصل عبر ما توفره التكنولوجيا الحديثة من وسائل جعلت المسافات لا معنى لها، لقد افترقنا وقد كسبت صديقا مبدعا وكاتبا مهنيا باحثا ومحاربا لكل محاولات المحو، محافظا على إرث الاجداد وعلى بلد لم يعرفها إلا عبر الحكايات، ولكن عشقه لها اعادها الى الحياة أجمل من الواقع .  فالي اللقاء يا صديقي ابراهيم نصر الله.