- 6 آب 2025
- مقابلة خاصة
القدس - أخبار البلد - كتب خليل احمد العسلي :
وقف الحاج مسعود عبد الرحمن على شرفة منزله في حي واد الجوز وهو ينظر إلى المعركة حامية الوطيس الدائرة في الشارع أمام في حي واد الجوز بين مجموعة كبيرة من الشباب الذين أخذوا يضربون بعضهم بعضا ، بعضهم يحمل العصا وبعضهم يحمل السكاكين وبعضهم يلقون الحجارة على الآخرين، وبعضهم يشهر مسدسات في مشهد بات يوميا في الاوانه الاخيرة بالمدينة المقدسة
وعندما سأله ابنه عما يحدث قال إن هناك معركة بين مجموعة من احدى العائلات الخليلية ومجموعة من شباب السواحرة وجبل المكبر في اشارة واضحة الى عمق القبلية والعشائرية واختفاء الهوية المقدسية .
" هدا الوضع في القدس لم يعد محتملا فمنذ الحصار الذي فرضته إسرائيل على المدينة والمتمثل في جدار الفصل العنصري تشتت الهوية بين سكان القدس وبات المدينة لا تجمع اهلها بل اصبحت العشيرة والقبيلة هي العنوان فهذا خليلي وهذا ساحوري وهذا طوري وذاك سلواني ، وهذا مسيحي والآخر مسلم ، يا لها من خسارة على المدينة التي فقدت أهلها الذين ضيعوا الطريق واضاعوا البوصلة وغرقت المدينة في الشتت والتفتت.
وتسال الحاج مسعود( وهو من إحدى العائلات المقدسية الصغيرة التي لا تزال تحافظ على ارثها القديم على امل ان يبقى كذلك للأجيال القادمة ) :
أين الهوية العربية المقدسية التي تجمع جميع الاعراق فيها ، التي يجب أن تنصهر في المدينة وتصبح جزءا منها ؟ هذه الهوية كانت موجودة في زمن الأردن حيث انصهر الجميع في هوية واحدة واضحة بغض النظر عن اصله، من أين جاء فكلنا كنا عربا ، بل اذكر ان اجدادنا كانوا يطلقون على أنفسهم في زمن الدولة العثمانية مصطلح انا عثماني وليس عربي أو فلسطيني ، لأن هذه كانت الهوية الجامعة، والان انظر ماذا يحدث لنا ، حتى كلمة عرب لم نعد جزءا من اسمنا ، فلم نعد نقول سكان القدس العرب ، بل اصحبنا فلسطينين بدون العرب … لقد ضعنا وضاعت هويتنا.
وعن هذا يقول الدكتور "وليد سالم" من جامعة القدس والذي تعمق في البحث عن الهوية المقدسية :
أعتقد أن الهوية المقدسية منشطرة بين كونها فلسطينية، وبين كونها متمقدسة . واقصد بالتمقدس نشوء هوية مقدسية خاصة منفصلة بدرجة ما عن فلسطينيتها لدي بعض من المقدسيين . وكان ذلك جراء عوامل عديدة أهمها تأجيل أوسلو لقضية القدس والذي لا زال مستمرا حتى اليوم ، واختلاف واقع المقدسيين الخاضعين للسيطرة الاحتلالية المباشرة عن أولئك الخاضعين للسلطة الوطنية الفلسطينية….
إلى جانب المقدسيين الذين يعرفون هويتهم على أنها فلسطينية، والآخرين الذين يعرفون هويتهم كمقدسية . هناك فئتين أخرتين : واحدة منهما تعرف هويتها كمزيج بين الفلسطينية والمقدسية ، وأخرى تأسرلت من خلال التجنس بالجنسية الاسرائيلية، وهذه الفة الاخيرة لا يزيدون عن ٥ بالمئة من فلسطينيي القدس الشرقية كما أشارت إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية الاسرائيلية نشرها الصحفي نير حسون في شباط عام ٢٠٢٢.
رغم تجنس هذه الفئة القليلة إلا أن التأسرل يبقى خيارا موهوما ، لأنه من الوهم أن يحصل العربي على امتيازات المواطنة التي يحملها اليهودي إذا تجنس. وفي المقابل تبقى الهوية الوطنية الفلسطينية للمقدسيين محجورة وأمامها عشرات العقبات التي تمنع تجليها".
وكان الدكتور وليد سالم قد عالج هذا الموضوع بشكل مفصل في دراسة له نشرت في مجلة " المقدسية ".
ويذكر أنه في فترة الحكم الأردني للقدس والتي امتدت من عام ١٩٤٨ حتى ١٩٦٧ فإن المجتمع المقدسي بكل اطيافه والوانه كان منصهرا في إعادة بناء المدينة ولم يكن منشغلا في تفسير الهوية المقدسية ، لان المدينة كانت تعنى كل من سكنها واحبها وعمل فيها واتخذها مقرا له ففي تلك الفترة كثرة الجنسيات العربية الوافدة من الكويت والسعودية ومصر والمغرب وسوريا ولبنان و الأتراك والقبارصة ولهذا فلقد كان التحدي الاكبر بالنسبة لكل هؤلاء اعادة القدس الى ما كانت عليه جامعة لكل الشعوب.
وهذا ما كان واضحا في دراسة كانت قد نشرها موقع " أخبار البلد" للدكتور نظمي الجعبة في ايلول عام ٢٠١٤:
" أن 19 عاما من الحكم الأردني للقدس برغم قصرها، والتي سبقها الانتداب البريطاني للمدينة و نكبة العام 1948، وتبعها الاحتلال الاسرائيلي، تحمل الاردنيين أعباء الفترتين، على الرغم من نشاط المدينة السكاني والعمراني على الصعيدين الرسمي والشعبي. الأول تم من خلال بناء منشآت حكومية كالمحافظة والبريد والمسلخ البلدي والاطفائية والمستشفى الحكومي وشركة الكهرباء ومساواتها بالعاصمة عمان لاحقا وإشغال المقدسيين وزارات في الحكومات الاردنية، كل ذلك في ظروف كانت الأردن دولة ناشئة حديثة العهد وتم اغتيال ملكها خلالها.
كما أن المشاريع التي قام بها المجتمع المحلي لم تكن المتواضعة في حينه، كمستشفى القديس يوحنا والفرنساوي والمقاصد، والعديد من الفنادق التي تشكل الأساس للفنادق الموجودة في هذه الايام، بالاضافة لشركات الفنادق العربية والقدس العقارية وسينما القدس ونشاط الغرفة التجارية وكيفية إعادة تزويد القدس بالمياه والكهرباء بعد الحرب"
وقال رجل الأعمال الذي يعتبر احد أهم من تعاطى السياحة في القدس جابرييل عبد الله الذي عاش طفولته في حارة النصارى قبل ان ينقل الى حي بيت حنينا فإن الهوية المقدسية يجب ان تكون :
" أنا تذكر القدس، يعني أن تعود للوراء آلاف السنين، حيث يستبد بك الحنين، إنها مهوى الأفئدة، ومحطّ الأنظار والقلوب، القدس تسكنني وأنا أسكنها، فأنا أسكن حيث يسكن التّاريخ، كيف لي أن أختزل قصّة حبّ لا يمكن نسيانها، في القدس ألوان من الطيف مجتمعة من كلّ الأجناس، في كلّ حي من أحيائها بصمة إنسان، وقصّة زمان، مدارسها العتيقة، كنيستها الأنيقة، مسجدها العامر، أهلها طيّبون، على الخير مجتمعون، أزقتها حاراتها تحكي قصَّة الزّمان، عن أناس رحلوا وتركوا وراءهم رموز الحضارة والعمران. أن لك الفخار تكون مقدسيّا، إنها رمز وهويّة، فسيفساء من التعدديّة، حيث تشارك القلوب، وتتلاقى الثقافات والشعوب، وتختلط العادات والتقاليد، و تجتمع القلوب على محبتها، وعشقتها، والتمسك بترابها، إنها القدس اسم لم يكتب بالحبر الجاف حتى يطمس، ولا بالحبر السائل حتى يذاب، ولا بالحبر السرّي حتى يختفي، إنها الماضي والحاضر والمستقبل"
أما الروائي الكبير " محمود شقير" ابن القدس فلقد عبر عن رأيه بالهواية المقدسية الجامعة قائلا في تصريح خاص ل " أخبار البلد" :
" للقدس هوية وطنية وثقافية بوصفها مدينة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين المنفتحة على الثقافات الإنسانية من دون تزمت أو تعصب أو إقصاء.
غير أن هذه الهوية مهددة بخطر التهويد والأسرلة هذه الأيام بسبب إجراءات المحتلين الإسرائيليين الهادفة إلى إضعاف الشعور الوطني للأجيال الجديدة في المدينة عبر تهويد المناهج التدريسية، علاوة على إجراءات أخرى تهدف إلى التضييق على المواطنين المقدسيين ومنها هدم البيوت وفرض الضرائب الباهظة وعدم منح المواطنين تراخيص للبناء.
وللأسف؛ فإن القدس في المخيال الجمعي لشعوب أوروبا وأميركا الشمالية يجري التعاطي معها بصفتها مدينة يهودية، وذلك بتأثير نصوص التوراة وبسبب الدعاية الصهيونية التي تسندها كتابات أدبية وقصص وروايات غير قليلة.
عبرت عن ذلك اللبس الشاعرة فدوى طوقان، أمّ الشعر الفلسطيني على رأي محمود درويش، في قصيدة كتبتها قبل هزيمة حزيران 1967 وصفت فيها حوارًا دار بينها وبين مواطن بريطاني فيما كانت تتمشى على ضفاف نهر التايمز في لندن، قال لها:
-طقس كئيب وسماؤها أبدًا ضبابية
من أين؟ إسبانية؟
- أنا من روابي القدس
وطنِ السنا والشمس.
-يا، يا.. عرفت؛ إذًا يهودية.
-يا طعنة أهوت على كبدي صمَّاءَ وحشية.
بعد ذلك بسنوات؛ التقى الروائي العراقي علي بدر في أحد المؤتمرات الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، الذي تباهى بأن الأدباء الإسرائيليين كتبوا مئة رواية عن القدس، فكم عدد الروايات التي كتبها الأدباء الفلسطينيون والعرب عنها؟
استفزَّ هذا السؤال علي بدر فراح يجمع معلومات خاصة بالقدس قبل أن يزورها، وكتب روايته: "مصابيح أورشليم". وكتب عرب آخرون روايات عن القدس، مثلما كتب روائيون فلسطينيون وروائيات عددًا غير قليل من الروايات عن المدينة.
مع ذلك وبرغم الإجراءات الإسرائيلية المجحفة بحق المواطنين المقدسيين فإن تشبثهم بالبقاء في مدينتهم وحضورهم البشري الكثيف في المدينة يقف حجر عثرة في وجه الأسرلة والتهويد، ويحافظ إلى حد كبير على هوية المدينة دون أن يعني ذلك تجاهل المخاطر التي تتهددها صبح مساء.
ولا زال البحث جاريا عن الهوية المقدسية الجامعة لمواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية والمصيرية الكبيرة التي يواجهها سكان المدينة المقدسية .
ملاخظة : اللوحة في المقالة هي من رسم الفنان طالب الدويك