• 25 آب 2025
  • مقابلة خاصة

القدس -أخبار البلد ـ  خص الكاتب والصحفي المقدسي المعروف " سعيد الغزالي"  شبكة " أخبار البلد" المقدسية  بنشر جزء من روايته التي تحمل عنوان " ملحمة الطوفان الاعظم".. رواية ترصد الطوفان منذ الانتداب وحتى يومنا هذا.. كتبت بلغة الرمز والشعر والفكر والبركان. رواية ترصد المحطات الكبرى في تراجيديا فلسطينا، اسم فلسطين في الملحمة.

 إننا نشكر الكاتب " سعيد الغزالي " على هذه الثقة ونقدم هذا الإنتاج الأدبي الفريد من نوعه للقارئ : 

 

لم يكتمل الفجر حين هبط العقرب على أسوار المدينة. ارتجّت الحجارة العتيقة تحت جنازيره، وارتفعت في السماء صفاراتها كعواء ذئاب جاءت من البراري. في اللحظة الأولى بدا كل شيء ساكنًا، لكن الرعب كان يسبق الجنود إلى الأزقة.

على السور، شاب عاهد نفسه أن يطلق رصاصة واحدة قبل أن تسقط الراية. صعد، ضغط على الزناد، فأجابته الطائرة بقذيفة. سقط جسده متعلِقًا بالحجارة، سال دمه مع الغبار.

قال صابر الحزين وهو يحدّق بعينيه الدامعتين:

"لم يكن يبحث عن النصر، كان يبحث عن موت يشبه الرجال. هنيئًا له، ما أشرف من موتٍ بكر".

في زقاق معتم خرج شاب آخر. سأل الجنود:

"هل أنتم من العراق؟"

فضحكوا، وأطلقوا رصاصة في فخذه

هزّ صابر رأسه وقال:

."يا بني… سؤالك وحده جريمة عندهم. كنت تظنهم أشقاءك، فإذا هم رصاصك"

في منطقة البريد خارج السور، قاوم الجنود الأردنيون حتى أنهكتهم الطائرات. سقط سبعة، تفرّق الباقون.

قال صابر، صوته كالنحيب: " يسقطون هنا، بينما من ادّعى حمايتهم، يوزع خطبه عن الشجاعة في الإذاعة". 

من المذياع دوّى صوت الملك "حامي القدس"

"قاتلوهم بأظافركم… بأسنانكم"

قهقه صابر قهقهة مرة، ثم قال:

."أرسل إلينا أظافرك أولًا… فقد قُلِعت أظافرنا منذ زمن"

في الزقاق الطويل طرق ثلاثة جنود بيتًا، يرجون ملابس مدنية، ترك الجنود بنادقهم في ساحة البيت، كأنها أحجار ثقيلة لم تعد تصلح إلا لتذكيرهم بالهزيمة. نظر إليها صاحب البيت طويلًا، ثم خلع قميصه البالي وقدمه لهم: " خذوا هذا.. على الأقل يخفيكم عن عيون العقرب".

 

ارتدوا القمصان، وغابوا في الزقاق الطويل، بينما بقيت البنادق ملقاة كعظامٍ بلا لحم. تقدّم صاحب البيت، حملها بيديه المرتجفتين، وجرّها تحت شجرة التوت في فناء صغير. حفر حفرة عميقة بيديْه العاريتين، ووضع البنادق الفارغة فيها، ثم وارى عليها التراب، كأنما يدفن أبناءه.

وقف صابر الحزين غير بعيد، عيناه دامعتان، وقال بصوتٍ ينزف

حتى البنادق الفارغة لم تُسلَّم للعقرب… دفنوها لعلّ الغد يملأها بالرصاص. ما أعجب هذه المدينة، تدفن موتها، وتزرع في قبره بذرة حياة.

هزّ رأسه، ثم أضاف ساخرًا:

"لعلّ شجرة التوت تسقيها بدمها، فتطرح يومًا ثمرًا لا يُؤكل، بل يُطلق من فوهة بندقية".

على الطريق صعد الضباط الجيب العسكري، وصدّوا الجندي البسيط عنهم. لحظةً فقط، ثم سقطت القذيفة.

قال صابر وهو ينهق بحزن:

."نجومهم لم تلمع إلا حين احترقت. ذلك الجندي المرفوض كان أوفرهم حظًا"

في باب العمود توقفت الحافلات، نادى العقرب:

."الطريق إلى عمان مفتوحة"

تردّد الناس، ثم صعد الخائفون، وبقي آخرون.

قال صابر:

."هكذا خُيّرنا بين موتين: موت بلا تراب، أو موت بلا قبر"

حين أعلن العقرب حظر التجول، احتُشد المئات في ساحة المسجد. وجوههم نحو السور، البنادق خلف ظهورهم. فتشوهم وسلبوا جيوبهم.

جلس صابر بينهم، نظر إلى الوجوه المرهقة، وقال:

."لم يبقَ في الجيوب إلا القلوب، فخذوها إن استطعتم"

ثم جاء الجندي يخبر القائد:

."سقطت أريحا"

صفّق الرجال بأيد مرتجفة، كأن التصفيق قيد جديد.

ضحك صابر بضحكة حزينة مجروحة وقال:

."صفّقوا للخذلان… لعلّ التصفيق يصمّ آذانهم عن سماع سقوطهم هم"

وكانت المدينة قد انكسرت. لم يبقَ سوى دم على السور، وجندي مطرود من جيب، وركام من حافلات، وصوت صابر الحزين، ينهق بالمرارة والدمع، شاهداً على موتٍ لم يكتمل بعد.

في فناء البيت، ظلّت شجرة التوت شامخة بجذعها المتشقق، أوراقها الكبيرة تتدلّى كأكفّ عجائز تبارك الأطفال حين يمرّون. حين دُفنت البنادق الفارغة تحت جذورها، بدا المشهد كأنه طقس خفيّ، مزيج بين جنازة وولادة.

ألقى صاحب البيت آخر حفنة من التراب، ثم جلس متعبًا، ينظر إلى الشجرة كمن يوصيها بسرّ خطير.

قال هامسًا:

."احفظيها… ربما يعود أبنائي غدًا يبحثون عنك"

اقترب صابر الحزين، حفر بحافره الأرض قليلًا كأنه يفتّش:

"دفنتم البنادق فارغة، لكن من يدري؟ ربما حين تستيقظ الجذور، تمتلئ بالرصاص، أحيانًا تصنع الأرض معجزتها، فتُخرج من جوفها ما لا يتوقّعه العقرب.

 

سكت لحظة، ثم أطلق نهيقًا قصيرًا، أشبه بضحكة حزينة، وأضاف:

"لكن حذارِ… قد يسبقكم العقرب إلى الحفر، فيجد البنادق ويضحك هو الآخر. آنذاك لن تثمر شجرة التوت توتًا أحمر، بل ستثمر موتًا آخر".

ومنذ ذلك اليوم، صارت الشجرة حارسةً صامتة لذاكرة المدينة. كلما هبّت ريح على أوراقها، كأنها تتهامس مع البنادق المدفونة:

."اصبروا… يومكم آت"

بعد أعوام طويلة، حين كبُر الأطفال الذين شهدوا سقوط المدينة، عاد أحدهم يسير في الفناء. كانت شجرة التوت قد ازدادت سماكة، جذعها مشقق، أوراقها أكثر اتساعًا، كأنها تحمل في قلبها سرًّا لا تبوح به إلا للّذي يعرف أين يضع يده.

اقترب الشاب، جثا على ركبتيه عند جذورها، وراح يحفر بيديه المرتجفتين. فجأة اصطدمت أصابعه بحديد بارد. أزاح التراب، فإذا بالبنادق القديمة تظهر، صدئة، لكن قائمة كعظام خرجت من قبرها.

أمسك إحداها، رفعها إلى السماء، وقال بصوت مبحوح:

."نامت طويلًا… لكن الرصاصة لا تموت"

من بعيد، دوّى نهيق صابر الحزين، ارتجف له الفناء كله:

.""قلت لكم… شجرة التوت لا تنبت توتًا فقط، بل تنبت موتًا للعقرب