- 11 تشرين أول 2025
- مقابلة خاصة
بقلم : سعيد الغزالي
في ليلٍ لا يُقاسُ بالساعات، خرجتُ أنا، زمردة، ساعةُ الزمنِ السرمديّة، من الصفحات الأولى في روايتي "طوفان فلسطين: نار وجراد".
تلك الروايةُ التي تسردُ أحداثَ مئةِ عامٍ من التحوّلات والمقاومة والصمود في تاريخ فلسطين، منذ بداية زحفِ الجرادِ الصهيونيِّ ليلتهمَ الأرضَ وما عليها، حتى ما بعد سلسلةِ الحروب المستمرّة على فلسطين؛روايةٌ تتشابكُ فيها الأزمنةُ، ويتداخلُ فيها الماضي بالحاضر، لتكشفَ كيف وُلدت المأساةُ، وكيف ظلّ الوعيُ يقاومُ بين نارٍ وجرادٍ، بين وعدٍ كُتب في ظلال الاستعمار، وصمودٍ سُطّر على حجارةِ فلسطين.
هبطتُ فوق القدس، فامتزج ضوئي العتيقُ بحجارتها وسورها، بكنيسة القيامة، وبالحرمِ الشريف وقبّةِ الصخرة. ارتفعت الأشعّةُ من القبةِ الذهبية، فغمرت المآذنَ والقبابَ وأسطحةَ المنازل، حتى خُيّلَ لكلّ من يراها أنّ المدينةَ تتنفّسُ روحًا وقداسةً وملحمةً قادمة.
كانت عيناي ترصدان الأفقَ البعيد، والسماءُ تتنفّسُ معها، كأنّ الأرضَ بأسرها تستعدُّ لاستقبالِ حدثٍ ملحميّ. فقلتُ وأنا أرفرفُ بأجنحتي، وعقاربُ الزمنِ فيَّ تدقّ كأجراسِ الكنائسِ ونداءاتِ المآذنِ معًا:
"هنا ملتقى الأديان، هنا قلبُ الروح… ما من أمّةٍ مرّت من هنا إلا وتركت أثرًا فيها.القدسُ لا تُشترى ولا تُباع… القدسُ وعدُ الأبدية."
خرجتُ اليوم برفقةِ ابن خلدون، العارفِ بتاريخ البشر، نتعقّبُ خُطى الأحداث في رحلةٍ استثنائيّةٍ نحو مدينة القدس والمسجد الأقصى، نتجوّلُ في أسواقها وتحت قناطرها المعتمة التي تختزنُ أسرارَ القرون ودموعَ العصور.
أنا زمردة، ساعةُ الزمن السرمديّة، حملتُ حجارةَ القدس بين أناملي، كأنّها أسفارُ حكمةٍ منقوشةٌ على جدرانها. وتلمّستُ بعقاربي كلَّ نقشٍ وسطرٍ يروي صمودَ أجيالٍ مضت، وكلَّ زاويةٍ تُخبّئ ذكرى، وكلَّ حجرٍ يحكي أسرارَ الزمن.
وقفتُ أمام المزولةِ الشمسيّة في قلبِ الحرم — ساعةٌ لا تقيسُ الزمنَ فحسب، بل تقرأُ الروحَ عبر العصور، وتحدّدُ لحظاتَ الصلاةِ بدقّةِ الشمسِ وحركةِ الظلال.
تنفّستُ التاريخَ المتجسّدَ في الأعمدةِ الشامخة، والأقواسِ المزخرفة، والجدرانِ التي تحتفظُ بصدى آلافِ أرواحِ الضحايا الذين ذُبحوا في معاركِ التاريخ.
تتبّعتُ خطى المؤمنين في الساحات، وآثارَهم في القبابِ والمآذنِ التي تعانقُ السماءَ بصمتٍ نبيل، وفي الأسبلةِ التي تروي حكايا الصبرِ والانتظار، وفي الأشجارِ التي ظلّت شاهدةً على ما مرّ من أحداثٍ وخطوبٍ على مرّ العصور والأجيال. كانت الحجارةُ والظلالُ والنسائمُ تنبضُ بتاريخٍ حيٍّ متّصلٍ لا ينقطع.
عندها أطلقتُ صرختي عبر الزمان: "أنقذوا القدس، درّةَ المدن، وخيمةَ التاريخ، وأيقونةَ المقدّسات!"
ارتجف الصمتُ بين الأعمدةِ والقباب، وتحركت الأشجارُ كأنها تهمسُ استجابةً لصرختي، واهتزّت الظلالُ على الجدران. اخترق صوتي الهواءَ، وامتدَّ عبر الساحات، وردّدَ المكانُ ندائي العميق، كأنّه يهمس لي من جوفِ التاريخ: "القدسُ باقية… لكنها تنتظرُ صرختكَ وصمودكَ، أيّها العربيّ، أيّها الإنسانُ في كلّ مكان".
تردّد الصدى بين مآذنها وكنائسها، بين أسواقها وحاراتها الضيّقة، ليذكّرَ العالمَ بأنّ الخطرَ الاستيطانيَّ يلتهمُ المدينةَ جدارًا بعد جدار، ومعلمًا بعد معلم. قال ابنُ خلدون بصوتٍ هادئٍ كتحليلِ العصور: "المدينةُ صامدةٌ لأنّها تولّدُ نفسها عبر الزمن… كلُّ حجرٍ فيها درسٌ للأجيال القادمة."
وغنّى العصفورُ شمس من فوق قبةٍ قريبة: "كلّ زاويةٍ هنا تتكلّم، وكلّ نسمةٍ تُنشد… المدينةُ تغنّي لمن يعرفُ الإصغاء".
وهمست البومةُ كِندة بحكمةٍ مبحوحةٍ من صدى الوعي: "انظري يا زمردة، كلُّ نقشٍ على الجدار درسٌ للأجيال، لا تتركي شيئًا يفلتُ من ذاكرتك".
وأضاف نزار الجبلي بصوتٍ عميقٍ جازم: "القدسُ صامدة، لأنّ من أحبّها لم يخذلها، ومن عاش فيها حملَ شهادتَها عبر الزمن".
تابعتُ أقول: "ثمّ أطلقنا خطواتِنا عبر أروقةِ الحرم، نقرأُ الرموزَ والنبوءاتِ المنقوشةَ على الجدران، ونشعرُ أنّ المدينةَ تودُّ أن نحملَ رسالتَها إلى العالم."
قال ابن خلدون وهو يخطو على حجارةٍ أكلها الضوء: "المدينةُ علّمتنا أنّ الصمودَ ليس مقاومةً فحسب، بل ذاكرةٌ حيّةٌ تتجدّدُ مع كلّ من يزورها".
وحين خرجنا من الحرم، كنّا نحملُ رسائلَ القدس ونبوءاتِها. كانت المدينةُ صامتةً، لكنها حيّة، وصدى تاريخِها يتبعُنا في كلّ خطوة.
همستُ أنا زمردة: "القدسُ صرختْ من أجل كلّ من سمعها… ونحن أصبحنا الآن جزءًا من قصّتها".
وردّ ابن خلدون قائلاً: "كلُّ من استمع إلينا صار أيضًا جزءًا من صمودِها… فالصوتُ الذي يُنقَل يعيشُ ويُخلّدُ الإرث".
وفجأة، تجلّت أمامنا صورةٌ مجسّمةٌ للهيكل الثالث، تحومُ فوق قبّةِ الصخرة المشرفة، كظلٍّ مرعبٍ يحاكي المستقبلَ إذا لم تُصن المقدّسات. كانت الصورةُ ثلاثيّةَ الأبعاد، دقيقةَ التفاصيل: أعمدةٌ ضخمةٌ مزخرفة، وأبوابٌ حجريةٌ مفتوحةٌ. وارتفعت في السماء كالسيفِ المعلّق فوق المدينة.
تساقطت أشعّةٌ برتقاليّةٌ من المجسّم، ألقت بظلالٍ طويلةٍ على الصخورِ والأزقّة، حتى بدا المشهدُ كأنّ القدسَ كلَّها تحت الحصار. كلُّ حجرٍ في المجسّم كان تذكيرًا بأنّ هذا "الهيكل" ليس خيالًا، بل احتمالٌ واقعيٌّ إن غفا الوعيُ وغاب الحُرّاس.
وفي تلك اللحظة، حلّ عصفورُ الشمس الفلسطينيّ على إحدى القباب، رفرفَ بجناحيه المضيئين بنورٍ كونيّ، وأطلق صرختَه الرنّانة: "الخطرُ عظيم! غُلاةُ المستوطنين يقتحمون المسجدَ الأقصى يوميًّا، وينفخون في البوق، ويسجدون في أرجائه، ويُخطّطون لبناء المعبد الثالث! إن لم تتحرك الأمّةُ وجيوشُها، ستغدو المقدّساتُ تحتَ خطرٍ مباشر. فاحذروا… القدسُ لا تُصان إلا بالوعي، والصمود، والقوّة!"
ساد صمتٌ كونيّ، وتردّدت أصداءُ الصيحةِ بين القبابِ والمآذن، بينما المجسّمُ يقتربُ من القبة كأنّه يريدُ أن يحلَّ محلّها. خرجنا من الحرم نحملُ نورَ القدس ورسائلَها، وقد أُغلق الفصلُ على تحذيرِ العصفور شمس، وعلى ظلِّ الهيكل الثالث، معلنًا أنّ الواجبَ واليقظةَ لا ينتهيان.
ظلّت الظلالُ تهتزّ في المدينة، حتى عدتُ إلى صفحاتِ الرواية، حيث تتشابكُ الأحداثُ وتنبثقُ الرموز، كأنّ القدس نفسها، بصمتِها الأزليّ، قد رافقت أحداثَها العظمى منذ عام 1917، متغلغلةً في كلّ سطرٍ وكلّ فكرة.
* من ملحمة: طوفان فلسطين: نار وجراد (الملحمة الرباعية الكبرى)