• 25 تشرين أول 2025
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد - كتب خليل العسلي

 

" لقد مات صعلوك القدس… احبه الجميع وخافوا من شعره "

 بهذه الكلمات المؤثرة بدأ الشاعر والصحفي المعروف نبيل الجولاني حديثه ل " أخبار البلد"  عن صديق عمره ، تلك الصداقة التي امتدت من سبعينات القرن الماضي وحتى آخر أيام الشاعر فوزي البكري ، قال نبيل: أن فوزي  كان لا يخضع  لأي من المعايير التي نعرفها، فهو لا يهادن ولا ينافق  وايضا  هو من المكافحين ويعيش ظروفا اقتصادية صعبة  ولا يجامل ويهاجم  الجميع وكان يكتب الشعر ، ويتحدث باسم والمقهورين وقريب من المساكين كل هذه الأمور مجتمعة جعلته يحظى بلقب صعلوك القدس.

 بينما قال الأديب  والكاتب "اسعد الاسعد " ان فوزي البكري هو النسخة المقدسية من  الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب "  وهو اقرب له من مصطلح صعلوك. فالقصائد التي هجا فيها الكثيرين من كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية والمثقفين الفلسطينيين في ذلك الوقت لم تنشر في كتب  بل قام بتسجيلها صوتيا باسم مستعار" عبد الباقي هون " انتقد فيه كل الشخصيات المنتفعة والمتسلقة

 أما زياد الحموري الذي عمل معه في جريدة الفجر في بداية سبعينات القرن الماضي  فيقول  ل " أخبار البلد" بأن فوزي هو الذي أطلق على نفسه لقب صعلوك ( متأثر بشاعر الصعاليك عروة بن الورد) لأنه كان مثل الصعاليك يعطف على الفقراء والمساكين بل ويعتبر نفسه منه ومثلهم،  فرغم انه يملك شخصية  انسانية رائعة محببة ويرغب الجميع بالتعرف عليها والتقرب منه،  الا ان الجميع يخشى من هجائه ولسانه الحاد ، هذا لم يمنع الجميع من محبته، ولا ننسى  ان  ارتباطه بالقدس كان قويا وخاصة في البلدة القديمة  التي ولد وعاش ومات فيها .

 وعاد نبيل الجولاني لحديث الذكريات عن صديق فقده شخصيا وفقدته القدس  :  

 كانا نلتقى بشكل يومي في مقهى أبو حميد البكري في شارع صلاح الدين ،اليوم تحول ليصبح مطعم فلافل مشهور في المدينة.لأبناء صاحب المقهى القديم الصغير. 

 هناك كانا نتخذ من الطاولة الصغيرة منخفضة ذات الكراسي القش القصيرة على مقهى الصغير اصلا مقرا لنا ، كنا نشرب القهوة ونتحدث في أمور الأدب والسياسة وكان كل مثقفي القدس في تلك الفترة والذين يمرون من شارع صلاح الدين الذي كان عصب الحياة الاجتماعية والصحفية الأديبة كانوا يجلسون معنا لبعض الوقت مشاركين في حديثنا الأدبي والفكري والسياسي، لقد كانت القدس اجمل واكثر حيوية ونشاطا ثقافيا في تلك الفترة ، فجلساتنا في المقهى كانت في ساعات بعد الظهر ، حيث يعج شارع صلاح الدين بالمارة وبعشق الكتب والثقافة حيث  كان على بعد امتار من المقهى وعلى مدخل العمارة القريبة كشك صغير لبيع الصحف والمجلات انه كشك دعنا الذي لا زال حتى يومنا هذا يبيع الصحف . 

 كنا ثلاثي معروف في القدس انا و فوزي البكري والمؤرخ وعاشق الكتب فهمي الأنصاري  رحمها الله كنا نقضي الوقت معا  وكان الناس إذا أرادوا أن يعرفوا شي عن فوزي يحضروا الى في المقهى ولاحقا في مكتبي  في نفس الشارع .

 كان فوزي يعزل نفسه عن المناسبات الثقافية والأدبية لايمانه ان هذه المناسبات هي المظاهر والنفاق  رغم انه كان  عضوا في اتحاد الكتاب إلا أنه ينأى بنفسه عن المشاركات العامة،

 وعن ذلك يقول الجولاني الذي يعتبر موسوعة القدس الصحفية والثقافية : " في بعض الأحيان كنا نجبره على القدوم معنا من اجل المشاركة  في حدث ادبي او لقاء وطني، وكان يقول لنا انا سوف اتي من اجلكم فقط ، أنه كان رحمة الله عليه صعب المراس يهاجم  الجميع حتى انا تعرضت لهجوم شعري منه ورغم ذلك ذهبت له  وأصلحت ذات البين معه . 

 حتى أن بعض الشخصيات المقدسية  البارزة في ذات الوقت ( اليوم هي تعيش في أوروبا ) قام فوزي بهجائه بشكل عنيف  رغم انه صديقه ، هذه الشخصية  تعاملت مع الموضوع بطريقة مختلفة حيث  أخذت قصيدة الهجاء ووزعتها على الجميع  وكأنها مدح !!! قائلة انظروا ما يقول فوزي عني..!!

 وعندما طلبت من الشاعر الصحفي  نبيل الجولاني أن يصف لنا رفيق دربه الأدبي والشعري والصحفي والاجتماعي  ، أعاد على مسامعي ما نشره في صحيفة الأيام مع  مزيد من الاضافات:  

" أن فوزي البكري جعل قلبه قنديلا يطوف فوق اسوار القدس  يقرع الاجراس تارة وتارة يؤذن، ويأتي حبه للقدس  كالحب الأخير بعد حنينه الى البيت الأول .

 الشاعر البكري يتميز بالنضج الأدبي ، بناء ولغة وموضوعا ورمزا وموقفا شجاعا.

 انه شاعر حاد لا يهادن التكتيك ولا يصالح الأيديولوجيا ولا  يتعامل مع خير الامور اوسطها.

 انه الحاضر في زمن الغياب والذي يخفيه الرجوع وقت الاياب، دفع الكثير من أجل موقفه المبدئي ليدفع الكثيرين كي يتمسكوا بالثوابت و يحرسونها،  ويحرسوا الفكرة والحلم والوطن من الضياع .

 انه الشاعر الضمير الذي يستشرف المرحلة والقادم ليضعك في المواجهة… مواجهة العصر والراهن  والأسئلة التي  تحتاج الى اجوبة، ولكن ليس  على الهواء أو على الورق ..!!

 بينما قال الكاتب زياد خداش في كلمة له نشرت في الأيام الفلسطينية وفي شبكة أخبار البلد المقدسية: 

" … مات آخر الشعراء الفدائيين، الذين أحبوا القدس، وحموها بالنصوص والأغاني والحب والمواقف الشجاعة، آخر مرة مررت عن بيته في عقبة المفتي بالقدس العتيقة، كانت قبل شهرين، كنت قبل مرضه الأخير أزوره في البيت رفقة أصدقاء يحبونه، بعد المرض الذي أقعده واتعبه، صارت زيارته مستحيلة، فاستبدلت الزيارة بمرور بطىء عن بوابة بيته، ألقي التحية الصامتة، وأقف قليلا، أمام  الباب، وأسأل كل من أجده جالسا في الشارع المبلط من التجار او الجيران: هل هذا بيت فوزي البكري؟"

 ويكمل : "  إن رحيل صعلوك القدس يفتح بابا واسعا لتدفق ذاكرة القدس الثقافية التي كان فوزي أحد فرسانها في ثمانينيات القرن الماضي، يوم كان الحلم الفلسطيني ناصعا ومكتملا كالبدر، في ديوانه الأول ( صعلوك من القدس القديمة) دشّن الراحل الكبير صياغة شعرية لغوية خاصة جديدة على الشعرية الفلسطينية، اللغة بسيطة لكنها ممتلئة بالبروق اللغوية والجرأة والعفوية الذكية وهو أول شاعر فلسطيني يصور هموم بسطاء الناس، ويحتضن في قلب قصائده، بحق الفقير والمهمش " .

 في البلدة القديمة عم الحزن على وفاة  الشاعر فوزي البكري الذي كان معروفا لدى الجميع فهو كما وصفه أحد سكان حي  الواد بأنه بمثابة الناطق باسم البلدة القديمة فهو بقصائده القليلة يعبر عما يدور في خاطرنا ويعبر عن معاناة المقدسيين المسحوقين في البلدة القديمة بشكل خاص اوصل صوتنا الضعيف الى الخارج واقصد خارج أسوار المدينة .  

 وهذا ما ايده وبشدة الناشط الاجتماعي نافذ عسيلة والذي يكتب سلسلة من المقالات  في " أخبار البلد" المقدسية عن حالة البلدة القديمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تلك الأحوال التي يعيشها  أهل  البلد ولا يعرفها  من يسكن خارج المدينة:

" نعم، تعتبر البلدة القديمة كيانًا مميزًا بحد ذاته من حيث الجغرافيا والتاريخ والدين لكنها ليست كيانًا إداريًا مستقلاً مثل مدينة قائمة بذاتها بل هي جزء من مدينة القدس إلا أنها تتمتع بمكانة خاصة واستثنائية.

ويمكن القول إن سكانها يواجهون حالة من القهر المستمر نتيجة الاحتلال والسياسات التمييزية إلى جانب الضغوط المستمرة التي تهدف إلى تقليص وجودهم داخل المدينة.

وقد حاول العديد من الأفراد والمؤسسات والحركات أن يكونوا صوتًا للبلدة القديمة، وما زالوا، في مواجهة الاحتلال والتمييز ومحاولات التهويد ويأخذ هذا الصوت أشكالًا متعددة تشمل الجوانب السياسية والإعلامية والحقوقية والاديبة مثل الشاعر فوزي البكري رحمة الله عليه"

فوزي البكري  الذي ولد عام في اربعينات القرن الماضي  باسم "محمد رزق" ولكن والدته كانت تحب أن تناديه دائما باسم " فوزي"  في عائلة مثقفة فوالده صاحب أشهر صورة في تاريخ القدس حيث يظهر و العمامة على رأسه يشير الجنود الأردنيين على اسوار القدس اين توجد قوات الجيش الاسرائيلي  الذي شارف على اقتحام البلدة القديمة عام سبعة وستين ، كان شيخا معروفا واماما ومدرس وخطيب في الأقصى ، وبعد النكسة توجه إلى توعية وتدريس في المناطق المحتلة فزار معظم قرى فلسطين ومدنها وحقق شهرة كبيرة هناك سواء في الشمال او الجولان أو النقب لا زالوا حتى الآن  يذكرون الشيخ ياسين البكري. 

 أما فوزي فلقد عمل مدرسا ثم محررا في صحيفة الفجر في بدايتها في سبعينات القرن الماضي في مقرها القديم قرب مدرسة دار الاولاد في حي واد الجوز، وبعد ذلك كان من مؤسسي جمعية الدراسات العربية مع فيصل الحسيني حيث عمل مدققا  المخطوطات والكتب وبقى موظفا في الجمعية حتى يوم وفاته .

 في اخر ظهور له أثناء زيارة قامت بها مجموعة من المثقفين وشخصيات مقدسية تكريما له في منزله بعد أن أقعده المرض قبل أكثر من عام قال الشاعر فوزي البكري : 

 " إن القدس هي مسقط الرأس وملعب الصبا والشباب وهي الجغرافيا الوحيدة التي عاشها أمام ناظريه وليس مثل بقية الجغرافيات الاخرى التي لم نعرفها الا عبر الخرائط .  فالقدس تسكن في قلوبنا ودواخلنا وهي جزء من كينونتنا".

وأشار الى تأثره في قرض الشعر بوالده الشيخ الازهري المرحوم ياسين البكري الذي سعى الى تشجيعه على حفظ الشعر علما بأن والده لم يكتب الشعر الا بعد سن الستين ، وغلب على شعره الطابع الوطني والسياسي. 

ووصلت درجة اهتمام الأب بالابن انه كان يمنحه بعض القروش مقابل مجموعة ابيات شعرية يحفظها مما شجعه وحوله الى عاشق كبير للغة العربية وتكونت لديه حصيلة شعرية و مخزونا لغويا وقدرة وتمكنا من آداب وعلوم اللغة ونحوها وصرفها الأمر الذي ساعد الأب على المزيد من الاهتمام بولده الموهوب . 

وأوضح البكري أن الشعر عنده هو حالة ولحظة توتر واهتزازات وهو عادة ما يكتب شعره ليلا ويجهد نفسه  لكتابة القصيدة على مستوى واحد من الانفعال لذلك يقتنص لحظات التوتر ويفرغ من الكتابة فور انتهاء لحظة التوتر. 

في عام 2018، أصدر مركز يبوس الثقافيّ في القدس، كتابًا تكريميًا للشاعر حمل عُنوان «فوزي البكري.. قيثارة تحت نافذة القدس».
ضمّ الكتاب مقالات وكلمات في الشّاعر وشعره وتضمن  أشعار الشاعر الصعلوك فوزي البكري شاعر الرفض يغَنّي وحيدًا في العتمة، بعيدًا عن الأضواء، ويعتبر من الأصوات الشعرية الفلسطينية المميّزة في ثمانينيات القرن العشرين، حين كان الشعر فاعلًا ومُشاركًا، في التوعية السياسية وصقل الهوية. شيّد قصيدتَه في خريطة الشعر الفلسطينيّ على فوّهة بُركان، فسكنها الرفض والغضبُ والقلق والشتم، كما حمل فيها وبازدهاء القدس الفاضلة (اليوتوبيا) بأطفالها وحاراتها وأسماء بواباتها، كما يقول في قصيدة، من ديوانه «قناديل على السور الحزين»1997، مُخْتزلا الوطن بإضمامة نعناعة، وطفلة تلمّع المرايا، في باب السرايا في القدس العتيقة: «لَوْ تعلمون/ أنّ «ضُمّة « من النَعناعْ / تُداسُ في بوّابة العمود، لا تُباع / هي الوطنْ/ لو تعلمون/ أنّ طفلةً جائعةً في عقبة السّرايا، تُلمّعُ المرايا، لزفّةِ الشّبابِ والصبايا، هي الوطنْ» هذه الصور اليومية المنثورة في بوابات القدس، المُنتصرة للْمُهَمّشين، تشكّل هوية لشعر الصعلوك المقدسيّ المُلتزم بالهمّ الجماعيّ.