• 25 أيلول 2021
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

من نحن وما نحن غير تلك الكلمات التي سمعناها وقرأناها، فثبتت في النفس، ونمت، حتى صارت جزءا أصيلا من تكويننا. هي لبن جمال الكون الذي رضعناه في مرحلة التكوين الأكثر أهمية!

ما زالت تلك الكلمات في الذهن والفؤاد:

يا ليتني أبدأ من جديدْ

كأنني وليد

يا ليتني أقدر أن أعيد

ترتيب أشيائي كما أريد

كنت فتى أوائل الثمانينيات، حين كنت أصطحب ديوان شعر شوقي بغدادي من سوريا الحبيبة مع أحد كتب المدرسة، مؤثرا القراءة في الديوان؛ لما لامس من مشاعر الفتى الذي كنته، وهكذا منذ تلك الأيام حفرت في الذهنن هذه القصيدة، خصوصا 3 فقرات منها.

كأنني أربعينيا وقتها أو أكثر، وأردد الكلمات متمنيا البدء من جديد، كأنني وليد أرتب أشيائي كما أربد. ترى أية أشياء في ذلك العمر الصغير كنت أود أن أعيد ترتيبها!

فتى ريفي، يدرس للامتحانات في كروم "الجدر"، والجدر هو جذر القرية، أي الكروم قرب نواة القرية الأصلية، تحققت له قاعدة هرم السيد ماسلو، لكنه كان يحب ارتياد السينما وملاعب الأطفال، وكان يكره نزاعات الفتيان والناس، كان يحب الدراجة الهوائية، وركوب السيارات، وزيارة المدينة (القدس). وكان يحب لو يعيش في مكتبة، وكان يحب الجمال والحب.

وقتها تمنيت لو كان الأولاد أقل صراخا، والمعلم أقل تكشيرا، وبدون عصا، والعالم أقل خوفا وتخويفا، والشيخ أكثر قربا، والورد أكثر، والسخول أقل حركة ونحن في المرعى، وقصص الأطفال أكثر..تمنيت "يا ليتني أقدر أن أعيد ترتيب أشيائي كما أريد".

 

سيضحك كثيرا حين سأل والدته رحمها الله عن أولوياته فيما يحب في الحياة، ففاجأها حينما ذكر لها حقيقة ما صار يريده كأربعيني، قائلا لها، رتبي يا أمي باقي الأشياء وسأقبل ترتيبك، وترتيب أي أحد.

الحب هو الإنسان، كانت عنوان الفقرة التالية من شعر الجميل شوقي بغدادي بعنوان كلمات الشعراء:

هزّ الشجرة يسقط منها

الثمر الناضج والملآن

لا ترهب أن تأكل منها

أو تخجل أنك جوعان

ليس الحب نداء الطين

إن الحب هو الإنسان

أما هزّ الشجر لإسقط حبات الثمر، فقد هززنا وما زلنا، خاصة للحبات على الأغصان العالية، من برقوق ومشمش ودراق، وتفاح سكريّ وآجاص بلدي وعناب ورمان وزعرور وتين فرنجي (دفور) وزيتون فيما بعد. وكنا نقبل على قضمها بشغف. وقتها لم أفهم معنى نداء الطين، حتى سمعت محمود درويش يتحدث عن "الملح". ثمة علاقة بين نداء الطين ونداء الملح، وأزن درويش استخدم كلمة نداء، في سياق فيلم وثائقي عنه أنتج في التسعينيات، للمخرجة الفرنسية سيمون بيطون.

كل وطينه، وملحه، وكل بما وهب وما يحب، كل ونداؤه، ولنا تذكر أغنية صوت من بعيد نداني بصوت الفنانة ليلى جمال(اختفت هذه الفنانة ربما نبحث في وقت آخر عن سر اختفائها رغم إبداعها) في فيلم النداهة، عن قصة يوسف إدريس. كلمات الأغنية مرسي جميل عزيز ولحن محمد الموجي.

والفيلم-القصة: "يتحدث عن الفتاة الريفية التي ترفض أن تعيش حياتها وفقًا لرغبات الغير حتى لو كان زوجها، حلمت باليوم الذي تعيش فيه بالقاهرة، لكن الأقدار تجعلها تقع في موقف لا ذنب لها فيه، فبدلًا من حمايتها وأن يأتي لها بحقها يختار أن يعاقبها هي لأنها الطرف الأضعف، فتثور وتهرب منه حتى لا تعود لقريتها، وتختار الاعتماد على نفسها، أيًا كانت المهنة التي ستختارها لنفسها "عاملة في مصنع أو ممرضة في مستشفى" المهم أنها أصبحت صاحبة قرارها. أخرج الفيلم المبدع حسين كمال، عام 1975 وهو من بطولة الفنانة ماجدة، وشكري سرحان، لعله من أهم أدوارهما.

كل إذن وملحه وطينه ودوره..

فلتقتل كلمات الشعراء

ولتصبح ألفاظا جوفاء

إن لم تنهض ببناء

وتفجر في الصحراء الماء

صدمتني مقدمة الفقرة، الطلب بقتل كلمات الشعراء! لكن مهلا، ثم تكملة، وشرط. وهناك خفت الصدمة وتلاشت، حيث كان من الفطري بالنسبة لفتى ليس فقط القبول بهذا المنطق، بل والمطالبة به، وجعله مقياسا؛ فإن لم تفعل الكلمة هذا الفعل، وفق هذا التشبيه: البناء والاخضرار، فلا قيمة لها، أكانت تقليدية أو حداثوية.

فهل كان الشاعر الكبير شوقي بغدادي يعرف أنه بكلماته تلك قد ألهم فتى في جبال القدس؛ فراح يحاكي قوله: ظل يردد كلماته حتى حفظها فدخلت قلبه وعقله مختارا لا كالمحفوظات المدرسية، وراح يبشّر بها، حين كتبها على الورق، ووقتها، تدفق بعض الكلام..راح الفتى يحاكي، فكتب أول كلماته: نيسان يا نيسان..يا قصة حبي الذي كان"..وبالطبع لم تكن هناك قصة حب، فقط نظرات بريئة عن بعد. كانت تلك بداية الكلمات، فكتبت الشعر المنثور ولست بشاعر..وتلك قصة أخرى، يمكن أن نفرد لها فصلا في السيرة، عن بدايات الكتابة ومآلاتها.

وهكذا كبر الفتى وراح الفتى يكمل دراسته، وتابع القراءة والكتابة، فصار متأثر بعمق الأدب والفن، يكتب عنهما. وظل في الوعي واللاوعي، بوصلة شوقي بغدادي: "فلتقتل كلمات الشعراء، ولتصبح ألفاظا جوفاء، إن لم تنهض ببناء، وتفجر في الصحراء الماء". ولنا اليوم أن نقيّم حياتنا ونظمنا، بمنتجها: الإعمار والحياة بكل ما تعني الحياة من تجليات.

تلك كلمات الشعراء المضيئة التي زرعت في قلبي الحياة، والوجود بأن يكون لنا دور إيجابي أخضر مزركش جمالي حقيقي مفيد للبشر. يبث الأمل ضد الخراب.

أيها الجميل شوقي بغدادي، هل كنت متنبئا:

القضية الصعبة

آه..ما أصعب في هذه القضية

أن ترى حولك عصر البربرية

وترى نفسك كي تنقظه

راجعا بالناس حتى الأبجدية

ها نحن وصلنا ذلك أو نكااااااااد (يا قشيلنا..)..اليوم حين تسمع ما يقال، تكاد تزهد في الردّ، حيث لا بدّ من أرضية نقف عليها معا، ولكن في ظل صار الجهل سيدا، في منظومة تعيش على جهل الناس وتجهيلهم، صارت كلماتنا صعبة، فنحن ما بين شاتم ومصفق!

دموع الرجال

إن الرجال وإن بكوا

لا يسقطون مع الدموع

إن الدموع طهارة

وشرارة بين الضلوع

والقلب لولا المدع بيت

في الظلام بلا شموع

وهكذا، عشنا مع الدمع من تفتح أعيننا، لم تكن هزيمة عام 1967 قد مرت عليها بضع أعوام، حتى وجدنا دموع الكبار أيام العيد، غير مدركين السبب، فصرنا نشاركهم الدموع حين أدركنا، وما زلنا بعد رحيلهم نبكي فلسطين. كانت فلسطين تكفي للدموع، ولم نكن بحاجة لفلسطين أخرى، ولكن ابتلينا بمآس من صنع أيدينا في بلادنا العربية الحبيبة، فأنستنا دموعنا عليها ما كنا نبكي عليه من قبل: فلسطين.

 لقد كنا من مواليد ذلك العام يا صديقي، فورثنا الهزيمة إثر الهزيمة، فكان جيلي، الذي راهن الاستعمار عليه أنه سينسى، هو المفجر لانتفاضة الحجر عام 1987، كأروع ما تكون الثورات، والتي ...في فمنا ماء..

تحذير

لا تدخلي أشجار مزرعتي

معروقة الوجنات محترقة

سترين فأسا أهملت صدأ

وحديقة الوجنات محترقة

لا ظل في أرضي ولا ثمر

فوق الغصون ويس من ورقة

وترين أن الموجة انحسرت

واستسلم الإعصار للشفقة

أية نبوءة صادمة بهذا العمق: ثمة إشفاق على إعصار لم يجد ما يبعثره!

ولا كلام نضيفه، ونحن رغم ذلك نسعى نحو البناء والخضرة يا شوقي بغدادي الجميل، لا ليخف حزننا على إعصار لا يجد ما يفرغ طاقته فيه، بل لنبني ونزرع..

لقد أبدع معلمنا في زراعة الأمل، وإن كان له استحقاق وضريبة:

الإله الدامي

أمسكت الإزميل وصممت

لكن الحجر تأبّى

لكن حين شددت عليه

بأظفاري لان ولبّى

جرّحت الكف ولكني

أحسست بها ألما عذبا

باركت بداميتين الخلق

وصرت بلونهما ربّا...!!

نحن إذن صديقي، رغم دموع الرجال والنساء، مسكونون بالأمل، هكذا كان يزرع أمله سعد الله ونوس.

ها انا اليوم، أعثر على كنز قصيدتك..التي بحثت عنها طويلا، مقلبا مكتبتي (فربما استعرت الديوان استعارة طويلة)، ومكتبة أخي د. منصور يقين، خريج مصر، الذي اصصطحب الديوان من القاهرة آخر السبعينيات. وها أنذا اليوم أقرأ كلمات الشعراء، قصيدتك بنوستولوجيا الحنين، وفعل الحاضر والغد.

جميل اليوم، وأنا الفتى من عام الهزيمة الثانية، لن أشيخ، ما دما مسلحين بالوعي والجمال والحب. اليوم أقرأ ما لم أتذكره من القصيدة، فقرات شعرك:القضية الصعبة، دموع الرجال، تحذير، الاله الدامي؛ فأجد أن هناك  علاقة سحرية (كود)، ينظم العناوين، فالقضية الصعبة لم تثر الدمع فقط بل إنها أدمتها بسبب عمق المأساة، لكن ظل الأمل مفتاحا، والبفعل وحده لا الرثاء سنستعيد دورنا:

أحسست بها ألما عذبا

باركت بداميتين الخلق

وصرت بلونهما ربّا...!!

تلك هي كلمات الشعراء..وتلك هي الكلمات..من نور كتبت.

أتمنى الآن وغدا "لو كان الأولاد أقل صراخا، والمعلم أقل تكشيرا، وبدون عصا، والعالم أقل خوفا وتخويفا، والشيخ أكثر قربا، والورد أكثر، والسخول أقل حركة ونحن في المرعى، وقصص الأطفال أكثر.." ما الذي تغيّر؟ فقط اختفت السخول والجديان في حياتي، فاشتقت لحركتها..!

يا ليتني أبدأ من جديدْ كأنني وليد..

يا ليتني أقدر أن أعيد ترتيب أشيائي كما أريد

منحك الله الصحة والعافية ملهمي: شوقي بغدادي..الشاعر العربي السوري. الشاعر والقاص والذي كان للأطفال لهم نصيب من كتاباته.