• 24 كانون الثاني 2022
  • ثقافيات

 

 

 

بقلم:  القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية الشهير "زريق السافوطي"

 

تعددت الأسماء والموقع واحد، فأُطلق قديما على هذا الباب عدة أسماء منها: باب يافا، باب بيت لحم، باب المحراب، ورغم شواهد بعض الآثار للحضارات الماضية القديمة منذ العهد الروماني وما تلاها، لا سيما ما كشفت عنه عوامل الجغرافيا، التي لم تنفي مرور حضارات عديدة على القدس، لكن الحضارة الشامخة الحالية خير شاهد على صدق الانتماء وقمة العطاء، بما أنبأت عنه الصورة التي تحاكي واقع الحضارة العثمانية، على مرِّ أربعة قرون، وما زالت آثار العمارة العريقة للفترتين المملوكية والعثمانية في باب الخليل سيدتي الموقف.

حكايات وقصص لا يناساها من عاصر وعاش في منطقة باب الخليل، وما زالت الحكاية تروى للأجيال القادمة، تلك المنطقة ازدهرت بأهلها، إذ لم تكن المنطقة محل ازدهار لولا أن أهلها عمروا حارتيها( حارة بني حارث وحارة الريشة) واجتهدوا في فن العمارة فيهما، وزينوا طرقاتها بنفس الطهارة والولاء لمكان رُبط وحُكم عقدته ما بين مكة وسبيل المعراج، فآثر أهلها على أن يجودوا بما يملكوا في حبس عقاراتهم بإنشاء أوقاف خيرية وذُرية، لتكون تلك الأوقاف بعقاراتها شاهدة على تاريخ الحضارة العربية والاسلامية، ولتكون سدا منيعا في منع تهويد المدينة المقدسة.

إن الصورة التي آثرت إظهارها في هذا المقال، تحاكي واقع وعظمة المكان، بل تعتبر شاهدة على الحضارة المدنية والتقدم العصري لدولة نُعتت زورا وبهتانا بلقب "الرجل المريض"، مما ساقها بعض المؤرخين من العرب والعجم في كتبهم ورواياتهم ودُرست في المدارس، وصُدقت الرواية على مدار قرن من الزمان، إلا أن تلك الرواية بدأت تتلاشى رويدا رويدا، بحيث يستدعي الاشارة إليه في هذا المقام، أن ذلك لا يعني البتة أن الإدارة العثمانية للقدس وأكنافها لم تكن تعاني من بعض الفساد، مما انعكس ذلك على بعض الولاة في مختلف الاقطار بما في ذلك القدس الشريف، لكن الحياد والموضوعية كما المهنية تقتضي، من كل باحث أن يكون مسؤولا وأمينا في نقل المعلومة، ولا يتأتى ذلك إلا بالتحري والبحث والتثبت من صحة ودقة ما يكتب ويروي، ولا يمكن أن تكون الرواية دامغة بالحق والصدق، إلا بتتبع ومراجعة الوثائق الرسمية لكل حضارة ما أمكن ذلك سبيلا، إذ يقتضي أن نقف على حجم الدعاوى المقامة على الحكام والولاة والمسؤولين وهو ما يطلق عليه اليوم بالدعوى الإدارية، التي يكون المواطن خصما فيها للإدارة، كما ويستدعي دراسة عددها ومضمونها، للتحقق فيما إذا كان العدل منتشرا بين الرعايا أم أن الظلم مستشري.

من هذا المنطلق، تقاس الحضارات لأن العدل أساس الملك، وبنشر العدل تزدهر التجارة وتقوم العمارة وتصمد الحضارة، فلا يتصور صمود حضارة مئات السنين ومن ثم تنعت بالرجل المريض، فالصورة أفصح بلاغا وأصدق إنباء من أساطير كان هدفها طمس الحقيقة، شرعت في بثها دولة الاحتلال البريطاني في ظل انتدابها لفلسطين منذ عام 1917-1948،  ولا يمكن تصديق روايتها بعد أن قامت بنقل تلك الساعة التي بُنيت وشُيدت في أواخر عهد الدولة العثمانية وسُرقت من مكانها، لتنصب في عاصمة الضباب "لندن" وأصبحت معلما للزوار إذ تعرف اليوم بساعة "بيج بن".

لم يكن من السهل دمج التاريخ والحضارة، للولوج إلى عنوان هذا المقال، فمنذ أن وطأت اقدام الاحتلال البريطاني لمنطقة القدس، وعلى وجه التحديد منطقة باب الخليل حاولت تلك الادارة في تغيير معالم حضارة باب الخليل، فصدمت بواقع لم يكن يخطر على بال أي سلطة محتلة، بأن عقاراتها غير متاح بيعها ونقل ملكيتها، فالعقارات الممتدة بين حارتي بني حارث ( منطقة ميدان عمر بن الخطاب) وحارة الريشة، مُحكمة السيطرة عليها بين الأوقاف الذُرية للعائلات المقدسية والأوقاف الخيرية المسيحية.

لكن استطاعت سلطة الاحتلال البريطاني من تغيير بعض المعالم في عام 1922، خارج سور القدس بهدم بعض العقارات القريبة منه في المنطقة الواقعة غربي وشمالي باب الخليل، إلا أن العقارات داخل السور لم تمس، ورغم الاحداث الدامية منذ سنة 1948 وحتى سنة النكسة 1967، وصولا إلى تسعينيات القرن الماضي بدأ ت سلطات الاحتلال الاسرائيلي بشق شارع جديد قرب باب الخليل، في محاولة منها لتغيير المعالم بتهويده، مما اصدمت بآثار بيزانطية وأيوبية ومملوكية وعثمانية، الأمر الذي منعها في استمرار تغيير المعالم واكتفت بتغيير مسار المركبات ضمن نطاق ضيق يشي بعجز سلطة الاحتلال عن إجراء أي تغيير مستقبلي.

في هذا المسار وبعد شرح مستفيض، نقف اليوم أمام مفرق طرق بين خطوتين لا ثالث لهما، إما بإحكام الخطوة الأولى الاحترازية لتليها خطوة طوق النجاة، أو التسليم بالأمرالواقع وتسليم باب الخليل للطامعين فيه ونشر بؤرة استيطانية يستحيل اخلاؤها، مما سيتم تنظيم تهجير قسري لكل من ينتفع بعقار في تلك المنطقة، بأدوات مختلفة تارة ضمن مسميات قانونية بفرض ضرائب وغرامات بأشكال وألوان مختلفة، وتارة أخرى بإغلاق المحلات التجارية ضمن مسارات التعليمات التلمودية.

إذ تلك الخطوتين تدوران في فلك الاستمرار في التمثيل القانوني امام المحاكم المختصة بما أضفي للعائلتين من حماية قانونية، وتوفير سثبل الدعم المادي في تثبيت الحماية القانونية بصفتهما مستأجرين محميين، وألا يتنازل أي منهما عن حق الحماية لأي سبب كان، فشرف حماية العقارات بالوقوف امام المحاكم المختصة في زمن الرويبضة لا يناله إلا كل مخلص وأمين، ونحتسب العائلتين من زمرة المخلصين والأمينين على القدس وعقاراتها.

 وبين الخطوتين المذكورتين، هناك أطماع كثيرة ورِشى كثيرة ونفوس ضعيفة، فإن سقط العقارين محل النزاع بين المنتفعين فيهما وبين القيم العام على تلك العقارات الموقوفة وقفا خيريا لجهة الروم الارثوذكس العرب، المعروفين بفندقي بترا  والامبريال، نتيجة صفقة عقارية دنيئة دبرت بليل من أولي بعض المسؤولين في بطركية دير الروم في باديات هذا القرن، والتي لم تكشف احجيتها حتى اليوم ولم يعلن عن أبطالها الرسميين، فإن العويل والنياح لن يجدي أي منهما نفعا.

هذان العقاران اليوم بمواجهة مريرة، يقف صاحبي حقوق المنفعة فيهما وهما من عائلتي قرش والدجاني موقف الابطال في الدفاع عن أشرس معركة قانونية في تاريخ القضاء الإسرائيلي، مما يستدعي من كل غيور وحريص على القدس أن يقدم الدعم والاسناد بشتى الطرق القانونية.

 لذلك، إن كتابة هذا المقال اليوم لم يكن وليد صدفة، ليخط قلمي هذه الكلمات من داخل البلدة القديمة، ومن بيت عائلتي الواقع في حارة الريشة بالقرب من العقارين، لأقدم أبسط وسائل الدعم والصمود بالكلمة لهاتين العائلتين الكريمتين، يقينا مني ومن الخيرين من أهل القدس بأن التواصل مع القيادة الفلسطينية العليا، لن يخيب لنا رجاء وأمل بأن دعم صمود العائلتين في مواجهة الجمعيات الاستيطانية والقيم القانوني عليها - الذي يعمل الاخير ليلا ونهارا وبشتى الوسائل للسيطرة على باب الخليل وسلوان - ومن باب اليقين والجزم أن هذا المقال سيكون محطة اهتمام ورعاية خاصة منهم، في منع سقوط هذين العقارين، باعتبارهما درع الحماية للقدس والشيخ جراح وسلوان، منوها في هذا المقام أنه يجب تعرية كل من تستر على تلك الجريمة النكراء وفضح صفقة العار في التصرف في الوقف الخيري المسيحي العربي الارثوذكسي دون وجه حق، وفضح وتعرية كل من يتعامل مع القيم العام ويتخذه وكيلا له في النزاعات العائلية في القدس.  

  واخيرا أقتبس مقولة لأحد العارفين في تاريخ القدس، بأن لقب المقدسي ليس محصورا فيمن يسكنها، وإنما المقدسي لقب يناله كل من تسكن القدس في قلبه ووجدانه.