• 9 حزيران 2022
  • ثقافيات

 القدس - أخبار البلد- وتستمر شبكة " أخبار البلد" بنشر مقاطع من كتاب " عشاق المدينة" للكاتبة نزهة الرملاوي ، بعد ان نالت المجموعة الاولى من الكتاب  آعجاب قرأ الشبكة .

ذاكرة الروح.. بوح المكان

 

طلعت شمس المدينة، دبّت الحياة في حاراتها، وبدأ الرّجال ينسلون إلى أعمالهم، والبعض أضحى جالسا في مقاهي السّوق لتناول قهوة الصّباح ولعب النّرد والشّطرنج، ومنهم من أسند ظهره سور المدينة ينتظر فرج الله، لعلّ ربّ عمل يلتقطه فيؤمن قوت عياله اليوم، وزرعت بعض الفلّاحات كالورد خلف السّلال المملوءة من خيرات قراهن المجاورة للمدينة، لتبيع أهلها ما يريدون. 

امتلأت الطّرقات بأقدام المشاة وبعض الحناطير والعربات التّي تستفتح باسم الله يومها، يا الله! خرجت الأرغفة محمّرة من أفران مدينتنا، ولكم وقعت تلك الأرغفة عن رأس طفلة، كانت أكبر طفلة، بعد أن أصابت رأسها حرارة (الطّرحة) فلملمتها عن الطّرق أياد غريبة، راحت تتحسّس رأسها ووجهها فيزداد سخونة واحمرارا.

ها هو صوت أبو أحمد يسبح في فضاء المدينة ينادي: (حِلبة حِلبة)، وصوت أبو غازي ينادي: (حلاوة يا فستق حلاوة يا سمسم).

     ويأتي من البعيد صوت لا يشبه أي صوت، يغرّد كالحسّون طارقا باب السّاهرة، ويبدأ بالغناء فيملأ الأزقة والحارات شجنًا وغرامًا، وما أن يسمع صوته، حتّى تتراكض الخطوات الصّغيرة نحوه، وتمتدّ إليه الأسماع والأبصار من خلف ستائر الشّبابيك المقدسيّة، فترتسم البسمة في الشفاه وتعلوها دمعة، إنّه أبو موسى البوظة.

يا الله! أغنيته ما زالت ترنّ في ذاكرة طفلة:

 (أنا عندي يا حبيب.. داندورما بوظة بحليب...

قرب وذوق يا حبيب ... شغل يافا وتل أبيب

وأنا بيّاع الداندورما)

لكِ الله يا أيّام! كم عبثت بمشاعرنا، واستوقفتك ذكريات الأحباب حين رحلوا وما عادوا، تركوا كلّ شيء كما كان في سماء الوجود، لينمو في مساحات الحبّ الشّاسعة في قلوبنا.

 استيقظت الحساسين والغربان فوق أقبية المدينة، واستيقظت نعيمة على صوت صراخ يهزّ أرجاء المكان بالبلدة القديمة، (يا دلّي ...يا دلّي ..يا ويلي ...) أنصتت ...قالت إنّه صوت أم أحمد 

وردّدت: نعم، انّه صوت أم أحمد. وسألت نفسها: لماذا تولول أم أحمد؟؟

هل ماتت أمّها الحجة؟؟

استترت نعيمة، غطّت ضفائرها وخرجت تتّبع الصّوت القادم من سطح المنزل المجاور لمنزلها، هرعت النّسوة إلى أسطح منازلهن، وراحت أبصارهنّ تقاوم شعاع الشّمس المرسل من خلف القباب لتشاهد السنة اللّهب المتصاعد هناك، وأخذن يبكين ويلطمن من هول المصيبة.

يا الله ...لا زال الدّخان الأسود يتصاعد في ذاكرة طفلة، وقفت بجانب أمّها على سطح المنزل كباقي النّسوة، وأخذت تسأل أمّها: لماذا تبكين؟

أجابت بصوت متقطّع: حرقوا الأقصى .. الله يحرقهم، الله يحرقهم.

تسابقت الأقدام والأرواح إلى باحاته، لم تتخلّف الأيادي عن حمل أيّ شيء وتعبئته بالماء من أسبلته المحفورة في عمر الزّمن، وهرعت البيوت الملاصقة لإطفاء الحريق المندلع هناك،

عطّلت الاطفائيّات القادمة من الضّفة، فقد لبّت استغاثات وصرخات أطلقتها روح المكان، وقداسته السّاكنة في قلوب الأمة، استوقفها قطّاع الطّرق ولصوص الأرض قبل الوصول.

في حضرة المدينة، بكى عشّاق المدينة، وهوت افئدة العاشقين من هول المصيبة، فكتبت من جرحه النازف قصصا تعزّز البقاء، وشكّلت خطب العشق التّي لا تنتهي في محراب أقصانا الحبيب. 

      نزلت نعيمة والجارات عن سطح المنزل بعد ساعات طويلة من العذاب والتّرقب، انتظرن ساعات اللّيل، لعلّ الفجر يأتيهم بجحافل النّاصرين وحماة العروبة، وهناك بحرنا يتضوّر جوعا للحم الغرباء. 

نام أهل المدينة بعيون نازفة، وعيونها مستيقظة تعدّ لهم شطائر الصّباح.