• 19 تموز 2022
  • ثقافيات

 

بقلم : ناديا حرحش 

لا اعرف من اين ابدأ ولقد انتهيت من هذه الرواية العظيمة. ربما عظيمة بحجمها هو اول ما يخطر ببالي ولقد تضخمت الصفحات التي اقتربت من الثمانمائة بعد تغلغل ماء بركة السباحة على أطرافها خلال الأيام الأخيرة.

خلال أسبوع من القراءة الورقية التي ابتعد عنها مؤخرا آثرت القراءة المسموعة للحفاظ على ما تبقى من نظر، واستغلال وقت المشي في طرب الإذن بقراءة ما يمتع العقل ويستفز التفكير، رافقتني شخصيات الرواية بزينب وضيفة وهند، بينما كنت لا أزال اقرأ في كتب المتصوفين السابقين، والذي كان آخرهم ابن حيان التوحيدي ووقوفي الأخير عن ابن طفيل ورسالة حي بن يقظان. 

بين شخصيات ريم بسيوني النسائية وبين شخصياتها من الرجال بدا التبحر في الصوفية متعة تعلو امواجه تارة وتنهزم في هدوء تارة، ويعود ادراجه نحو التفكر فيما كان لنا من حياة شعوب وحكام في هذه البلدان. هزائم وانتصارات. حروب وسلم. تقهقر وغزوات. عمارة وانهيار بنيان. نساء ورجال تغلبوا على أنفسهم وعلى ظروفهم بين تحرر وعبودية، تفوق وانكسار، انتصار واستسلام. وحياة يملأها الظلم و يسودها الفساد والطغيان يخترقها العدل للحظات. 

ربما قيل الكثير في هذه الرواية، ولا اعرف ان كان ما سأكتبها يزيد من أهميتها او لا. فبعد جهد القراءة الطويل شعرت باستسلام الصوفي لعزلته وانتصاره لها. فلا كثرة الصفحات ولا امتلاء العقل بالمعلومات والشخصيات ولا الأحداث التاريخية ولا ربطها او فكها او محاولة فهمها يهم…. تنزوي في إحدى زوايا مسجد السلطان حسن مساحاته الشاسعة وتنظر في تأمل لجمال الصنيع وتستمع للأذان بصوت شاب شذى وتترك مخيلتك تخوض التجربة التي عشتها على مدار عشرة عقود من الزمن في ثلاث فترات متقطعة حينا وممتدة حين لتلتقي به جوزفين” ربما او بريم او بنفسك بينما تتأمل خبايا ما تركه المماليك من انبهار للعمارة تشد إليها الناظرين. 

“ما أسهل فناء البشر بعد الوباء شعرت بضآلة الإنسان وتفاهته، تعرف، لابد أنك تعرف أن الحروب تذهب هباء لو لم نسجلها ونخلدها بالعمائر، لا وباء يقتل العمائر ولا غدر يغتالها.”

في الجزء الأول من الرواية، كدت اتركها فور الانتهاء بها للمرة الثانية، فتجربتي مع الرواية لم تكن الأولى، فلقد بدأت قراءتها قبل عام وتركتها لانشغالات ولربما لأني شعرت التكرار في قصص ذكرتني بطريقة جرجي زيدان في الرايات التاريخية. ولكن اعترف انني ظلمت الرواية وتركت ما وقع على مسامعي من نقد ليؤثر علي. وكدت أقع في نفس الشرك في قراءتي الثانية، ولكن الانبهار الحقيقي بدأ عندما بدأت بالجزء الثاني من الرواية. 

تقع الرواية في ثلاثة أجزاء لثلاثة حكايات عن الفترة المملوكية، في إطار تاريخي عكس الوضع الاجتماعي والسياسي لمصر وأهلها في الوقت الذي سيطر فيها المماليك على مصر بعد انتهاء حكم الدولة الأيوبية. 

 الحكاية الأولى لعصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون. الحكاية الثانية  في عصر السلطان برقوق، والحكاية الثالثة – وهي فترة هزيمة المماليك على يد القوات العثمانية بقيادة سليم الأول ، وقتلهم وتعليقهم على أبواب القاهرة، من تعليق السلطان طومان باي على باب زويلة الى تعليق رؤوس المماليك على مداخل البيوت.

مدار الرواية هو مسجد السلطان حسن وبنائه. الظروف التي أدت إلى بناءه وما كان وما صار من مساجد وعمائر في ذلك الوقت. وكأن الرداء الصوفي يلتف على الرواية فيصيب القارئ بالصبر والتحمل على طول الأحداث وكثرتها وتكرارها أحيانا كثيرة، ومشاهدة مملوكية مصبوغة بأولاد الناس او العكس تحمل الرواية أفكارا أكثر من تلك الأدبية والصوفية فتجعلنا نتفكر في أمر السياسة والحكام والشعوب. 

كأن في الرواية انصاف للمماليك من جهة، ولفت الانتباه الى أولاد الناس الذين كانوا من المصريين الذين تزوجت نساؤهم المماليك وكان الأبناء من أبناء الناس لا من المماليك. 

النظرة إلى المملوك وكأنه مهما علا وصار أميرا يبقى مملوكا- أصله عبد، حتى لو تربى في قصور السلاطين. والمصري يفضل بساطته و فقره وعوزه على أن يختلط دمه بدم المماليك مجهولي الانساب والأصول.

في نفس الوقت كان هناك مراجعة دائمة للأحداث وطريقة تاريخها من وجهات نظر مختلفة: المماليك محتلين لا يمثلون أكثر من مجموعة من العبيد تم جلبهم عندما كانوا أطفالا ليصيروا جنود تابعين للسلاطين والأمراء الذين تسلطوا على المصريين. ومن جهة، انتصارات المصريين على التتار والصليبيين وحمايتهم لمصر من الغزاة على مدار قرون. ومن جهة أخيرة، اثرهم المعماري والخيري والتعليمي في بناء المساجد والعمائر والأسواق والخانقات وغيرها.  وعليه يتم طرح التساؤلات: 

هل قدر الشعب المصري كان العيش وسط من يحكمه من اغراب صار ملوك البلاد؟ هل كانت فترة المماليك بهذه الأهمية، فكانوا غزاة مستوطنون مستملكون لمصر، حموها من الغزاة الآخرين؟ هل كان العصر المملوكي أهم وأصلح من العصر العثماني؟ هل. الفرق بين الحكمي أن للمملوكي لم يكن وطنا غير مصر، بينما للعثماني بقيت الاستانة هي وجهته الأهم؟ 

توقفت لبرهة بالتفكير في هذا الشأن، وتذكرت المؤرخ المصري خالد فهمي وكتابه كل رجال الباشا، الذي كتب عن فترة محمد علي التي يمكن ان تكون هي فترة اعتلاء العثمانيين الأكثر هيمنة على مصر والحكم الفعلي فيها منذ بداية حكمهم او غزوهم في أواسط القرن السادس عشر منذ الخليفة سليم الأول. 

مسألتان استوقفتني وبحزم: الأولى متعلقة بالبعد السياسي، كان ذلك جليا في الجزء الأول: هل العسكري واجب الولاء والطاعة لأنه الحامي للبلاد وعليه كل ما يقوم به يمكن غفرانه ويجب قبوله وتمجيده؟ 

والثانية هي المرأة في الرواية. 

بين المرأة والرجل في الرواية نرى قوة ومكانة قرارا هاما في سير الأمور في الأجزاء الثلاثة. فكل أمير مملوكي او شيخ جليل او مقاتل جسور تقف وراءه زوجة مصرية تغير طبائعه وتروض غروره وتجعل منه خادما أمينا للمصريين… ينتهي العمل الصالح بتجسده في فكرة جامع السلطان حسن. 

وهنا مأخذي الأساسي، لم تعجبني النساء في الرواية، على الرغم من هيمنتهن وسط ضعف مغلف لقوة تنقض عنوة بعد عشق كبير. ولكن هناك متلازمة للشخصيات النسائية وللرجال على حد سواء، فتخيلت نفسي اقرأ “خمسون لونا من الرمادي”، متلازمة ستوكهولم رافقت الشخصيات. على الرغم من التعاطف والإعجاب الذي قد يرافق القارئ لوهلة خصوصا بمشاهد القوة المنبثقة عنوة من تلك الشخصيات المغلفة بمسحة “رومية” من العشق تذكرنا بشمس الدين التبريزي والرومي. ربما لو كانت هذه الصيغة بشخصية واحدة فقط لكان أسهل تقبلها على القارئ، ولكن توالي هذا التلازم في بناء الشخصيات النسائية لبطلات الرواية كان هو الأضعف برأيي. ولكن دقة الوصف وبراعته وسلاسة اللغة والعشق السرمدي الصوفي جعل من القراءة مقبولة ومستمرة، إلا أنه كان يمكن الاستغناء عنها خصوصا مع كثرة الصفحات. 

ككاتبة، اعرف ان أصعب ما يمكن أن يوجهه قارئ لكاتب هو هذه الكلمات: “الكتاب كثير طويل”. واعرف معنى الكلمات وقيمتها للكاتب، فالاختصار كعملية القتل الجماعي قاتل للكاتب قبل قتله للفقرات والصفحات والتخلص منها. إلا أنه هنا كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الصفحات التي استطال فيها الوصف والإعادة والتكرار الذي كان ممكن الاستغناء عنه، خصوصا ان بالرواية الكثير من الأحداث التي تطلبت التفكر والاندماج والانصهار بها. 

ولكن مرة أخرى، أخذنا للخلجات الصوفية من تأملات جميلة الوصف والمعاني جعل من هذا العبء مقبولا. 

ربما تكون شخصية ضيفة هي الأقرب الى قلبي، فلم يكن هناك اغتصاب أو أخذ عنوة من قبل الأمير او الجندي المملوكي، ولكنها تعرضت للتنكيل من الاب، ولكن مرة أخرى خرجنا من متلازمة ستوكهولم ووقعنا في متلازمة النايت نجيل او متلازمة لوليتا. 

تقسيم الجزء الثالث إلى شهادات من شخصيات ثلاث (سيدار-هند-الترجمان مصطفى باشا العثماني) كانت برأي ذكية جدا وبها إجابات ربما لما أصاب القارئ من حيرة في الأجزاء السابقة في كيفية تركيب الروايات التاريخية. كيف ينظر الإنسان منا الى الرواية من وجهة نظر كاتبها او محدثها. وهنا وضعتنا الكاتبة أمام ثلاث روايات على لسان الابطال الثلاث: المرأة المصرية- الأمير المملوكي- الغازي العثماني. كيف يروي كل القصة ذاتها من خلاله هو. كيف يمكن لنفس الحدث ان يروى بثلاث طرق وثلاث حكايات مختلفة. كل قصة هي قصة حقيقية من وجهة نظر راويها.