• 1 كانون الثاني 2024
  • ثقافيات

 

بقلم : لبابة صبري

يستخدم الفن التجريدي الحروف في التجربة الفنية كنوع من تحويل الحروف إلى أدوات في الرسم والتعبير الفني، وهذا يعود أصلًا إلى إمكانية أن تكون الحروف موضوعًا للأشكال الفنية، ولهذا نجد أن هناك تنوعًا في الخطوط، خصوصًا الخط العربي، وقد استفاد الفنان العربيّ من هذه الخاصية التي يمتلكها الحرف، أي ألّا يكون فقط تعبيرًا في الكتابة بل وأن يكون أداة تعبير تصويرية.

إن استخدام الحرف في اللوحات التشكيلية يقود إلى حضور الحرف في ذهن المتلقي الذي يتمكن من فهم اللوحة داخل البعد الاجتماعي والسياسي للغة عمومًا والحروف خصوصًا؛ ففي لوحة الفنّان كميل التي تحمل عنوان "لا تقوم الأمم والحضارات إلا على أكتاف المرأة" للكاتب جبران خليل جبران:

نلاحظ أنّ كميل قد استخدم الحروف في صياغة هذه العبارة بصريًا وفنيًا؛ بحيث تصبح هذه الحروف ذات معنىً فنيّ، بالإضافة إلى المعنى الاجتماعي والسياسي؛ نلاحظ أن حرف " الفاء" في هذه اللوحة قد تم توظيفه كغيره من الحروف في صياغة شكل المرأة أولًا، وعبّرت في الوقت نفسه عن الفاعليات الحضارية التي تتضمنها الحضارة من اختراعات ثانيًا.

كما استخدم الفنان كميل حرف "الميم" من كلمة "الأمم" بشكل دائرة، وهذا يشير إلى منتجات الحضارة الرياضية والهندسية. واستخدم حرف "القاف" من كلمة تقوم ليُظهر كيف تكون الحضارة منطوية على صناعة الخبز والذي بدوره يشير إلى دور المرأة في صياغة الحياة. أما حرف "الضاد" فقد استخدمه كميل وهو يكتب بالرسم كلمة حضارة بما فيها من منتجات علمية وثقافية.

لقد استطاع كميل أن يُظهر اهتمام  المرأة في المجالات كافة؛ فالتاء المربوطة رسمها على هيئة سمكة، وهذا أيضًا يعد إشارة إلى مشاركة المرأة في مختلف أنواع النشاطات الاقتصادية الضرورية للحياة ضمن الحضارة الواحدة.

أما طبيعة الألوان بين الأحمر والأخضر والأزرق والرمادي والأسود، فإنّ كل هذا أتى من أجل تأكيد ما تقوم به المرأة في مختلف ألوان الحياة، حيث التزم الفنان بإيصال الرسالة الاجتماعية والسياسية التي يريد أن يقولها والتي تفصح عن دور المرأة الحضاري.

ومن قبيل إمكانية استخدام الحروف في التعبير عن القضايا السياسية، فإن الفنان كميل استطاع أن يعبّر عن أمانيه وتمنياته التي يصبو إليها حول قيمة البلاد والوطن فنجده في لوحة أخرى يفصح عن ذلك "بلادي أعدني إليها، ولو زهرة يا ربيع":

نجد في هذه اللوحة أن كميل يتحدث عن فكرة التمسّك في بلاده وعدم التخلّي عنها؛ حيث يشير إلى كلمة الزهرة والربيع مستخدمًا نمطًا هندسيًا للحروف، كالمستطيل والمربع والدائرة، وذلك ليشير إلى الربيع الذي يتمناه، فقد كتب بالرسم عن بلاده وتحقيق الرّبيع وجعل الاستطالات في الأحرف تنتهي إلى دائرة كبيرة؛ ترمز هذه الدائرة إلى الفكرة السياسية التي يصبو إليها الفنان كميل وهي التمسّك في البلاد. وبهذا يكون قد نقل الحرف من اللغة المباشرة والسياسية إلى اللغة الرمزية والفنية لإيصال الفكرة إلى المتلقي.

كما نلاحظ أن كميل قد استخدم اللون الأسود في كتابة الحروف ولكنه عبّر عن استطالات تلك الحروف بألوان أخرى تشير إلى الزهرة والربيع وتشير أيضًا إلى التنوع وضرورة الحفاظ على هذا التنوع في إطار بلاده، قاصدًا وحدة بلاده بعيدًا عن التفتت والانقسام.

وبالتالي يكون الفنان كميل قد وظّف الحروف توظيفًا سياسيًا تمكّن من خلاله من أن يقدّم فكرة الزهرة ضمن إطار علاقة الحرف بالفن وبالسياسة معًا، مما يعني أن إمكانية تقديم خطاب سياسي في اللوحة الواحدة هو ما استفاد منه كميل من خلال الألوان التي تشير إلى التعدد بين الأخضر والأزرق والأسود والأبيض والبني، وأن تكون كلها تحت شعار الوحدة السياسية للبلاد والحنين إلى الأرض.

أما في اللوحة التي كُتبتْ فيها عبارة: "هجرة الزيتون طالت، هجرة الزيتون غروب إلى زوال، صبرًا قليلًا وستطلع الشمس، ويعود الرجال" للشاعر رشدي الماضي:

فقد استخدم كميل الحروف والألوان ليرسم مشاعره وخواطره؛ حيث يظهر لون الزيتون وشكله في كل حرف يكتبه الفنان رسمًا، يتحدث عن التفاؤل السياسي معبّرًا عن ذلك بأنّ هجرة الزيتون لابدّ أن تنتهي، ويُلاحظ هنا طغيان لون الزيتون على النقاط، فكل حرف إنما يتحدد من خلال شكل الزيتون ولونه، وبمعنى ما فإنّ الفنان كميل يريد أن يقدم رسالة سياسية تفاؤلية مفادها نهاية الهجرة.

لقد وضع الفنّان النقاط المرسومة بحبّات الزيتون فوق كل كلمة من الجملة "هجرة الزيتون طالت، وستطلع الشمس، ويعود الرجال"، وقد رسم حبات الزيتون بمختلف أشكالها وألوانها المتدرّجة من الأخضر إلى الأسود ويكون الفنان بهذه الطريقة قد جمع بين الحرف واللون لإيصال فكرته السياسية بصريًا وحرفيًا.

استطاع الفنّان نقل الحروف في الكلمات من المعنى الرمزي إلى البصري، وهذه هي أهمية كتابة الشعر بالحرف، إذ يتمكن كميل هنا من إضافة البعد البصري الفني للنص الشعري، أي يجعل المتلقي يعيش الحالة بصريًا وفنيًا، وليس فقط شعريًا؛ وهكذا تصبح الكلمات ذات دلالة رمزية وفنية.

يتحدث كميل عن الولادة الجديدة من خلال الشمس المشرقة التي يستخدمها ومدلولها المعنوي، بالإضافة إلى ما تحمله كلمة الرجال من المروءة والشجاعة والكرم. وبنفس الوقت ينقل همومه وقضايا مجتمعه كالهجرة وغياب الرجال بأسلوب فني وذلك من خلال استخدامه لحبات الزيتون بكثافة في هذه اللوحة.

أما في اللوحة التي كُتبتْ فيها عبارة "لن أسميك امرأة سأسميك كل شيء" للشاعر محمود درويش:

نلاحظ أن الفنان كميل هنا قد استخدم الحروف والكلمات من أجل صياغة فكرة النص الشعرية، وقد جمع بين الشعر والألوان والأحرف وشكل المرأة. كما استخدم تعدّدًا لونيًا دلاليًا له رموزه وإشاراته المعنوية والرمزية. حيث أنّ اللوحة تتحدث عن المرأة في وضعها الاجتماعي والسياسي والجمالي والرمزي، وقد تمكن الفنان من صياغة العبارة صياغة فنية لونية، عندما طابق بين المرأة ومدلولاتها كما وردت في العبارة، إذ أن تعدد الألوان هنا في الكلمة الواحدة يعطي المعنى المجازي لمفهوم المرأة باعتباره كل شيء، وفعلًا فإنّ اللوحة تجمع بين جميع الألوان تقريبًا بكل درجات اللون؛ حيث نجد أن الأحمر بكل درجاته حاضرًا في الحروف، وكذلك الأزرق والرمادي والبرتقالي، ويكون كميل بهذا الشكل قد استخدم الحروف والألوان موضحًا فكرة النص الذي يريد أن يقول بأن المرأة هي كل شيء.

لعلّ التنوع اللوني في كل حرف من الحروف قد جاء تعبيرًا مجازيًا عن هذا الحضور النصي اللغوي ذي البعد الاجتماعي والسياسي والفني والشعري؛ بحيث تكون المرأة هي الصورة الحاضرة من خلال الحروف، ويكون المعنى الشمولي للمرأة هو كل ما يتعلق بالأشياء والأحرف ذات الدلالة الاجتماعية والسياسية لوضع المرأة في هذا النص الشعري. وقد استطاع كميل أن يعبّر عن هذا الوضع تعبيرًا واضحًا من خلال تضافر الحروف المرسومة والملونة لإظهار قيمة النص اجتماعيًا وسياسيًا ورمزيًا وفنيًا.

وختامًا، لقد تمكّن الفنان كميل من استخدام الحروف استخدامًا فنيًا فنقل وظيفة الحرف من التعبير المباشر داخل النصوص اللغوية إلى التعبير الفني والرمزي داخل اللوحات الفنية، وقد لاحظنا أن النماذج التي ناقشنا فيها قدرة الفنان كميل على صياغة القضايا الاجتماعية والسياسية في تغيير وظيفة الحرف تساعد أكثر على نشر الرسائل التي يريد الفنان إيصالها من خلال الرسم بالحروف، خصوصًا عندما تمكّن من دمج الألوان مع الحروف بطريقة فنية بحيث جاءت هذه الألوان متناغمة مع ما يريد الفنان أن يقوله في هذه التقاليد اللونية والحرفية.