- 23 تشرين الثاني 2025
- ثقافيات
بقلم : تحسين يقين
كانت الثقافة وما زالت من روافع النهوض الحضاري؛ فهكذا كانت في اليونان والرومان، وهكذا كانت في حضارتنا العربية الإسلامية في عصورها الزاهية، بل وهكذا كانت ستكون في النهضة العربية الحديثة، لولا أن جزهاّ الاستعمار وقزّم نموها، وللأسف وجد من يعينه هنا وما زال
لذلك، وفي سيري في هذا الوطن الكبير، فإن ما يستوقفني ليس العمران الحديث، بل ما أجده من أمل فيما أرى وأشاهد من ظواهر ثقافية وتربوية.
ولعلي أزعم أننا أمام فرصة لمأسسة ثقافية عربية معاصرة، تتلو ما كان من النهضة العربية الحديثة، وما تم تأسيسه ثقافيا الخمسينيات والستينيات، ارتباطا بالنمو القومي؛ فالتأمل بالمتغيرات في بلادنا العربية، يجدها تغذي الأمل بالنهوض، تلك المتغيرات في الثقافة والحياة، وفي السعي نحو امتلاك أسباب القوة.
عدت لقراءة كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" حيث كان دكتور طه حسين قد نشره عام 1938، في فترة ازدهار النهضة العربية. وهو أي الكتاب، بالرغم مما يمكن أن يوحي به العنوان، إلا أنه لم يقتصر فقط على مصر، بل على عالمنا العربي، كذلك فإنه هنا، وللحق، انطلق من عروبة مصر، وفي كلتا الحاتين، فإن المضمون هو الثقافة العربية.
لم يعد الكتاب بعد عقود، وليس بعد 87 عاما، يثير الجدل الذي واكب ظهوره، واستمر مع فئات كان لها أرب أيديولوجي أكثر من ثقافيا، فقد نضج الثقافة العربية، وأصبحت قادرة على فهم معاني التطوير والتأثر، والتموضع عالميا وحضاريا، من خلال الاحتفاظ بالخصوصية القومية والروحية. وهي الآن، الثقافة العربية والمثقفون، مدعوة ومدعوون للانطلاق نحو الفعل، وهذا ما بدأت ملامحه بالظهور، خاصة على أيدي الشباب، الذين فهموا الماضي والحاضر وأعينهم نحو المستقبل، منطلقين من كون الثقافة جزءا هاما من المنظومة لا تابعة لها، أو على هامشها. وبالطبع فإن هناك ربطا بالتعليم والعلم والتكنولوجيا والإعلام والفنون.
ثقافتنا عربية بفسيفساء بلادنا، وبخصوصيات الأماكن، هكذا هو قدرنا، أليس هكذا هتف محمود درويش يوما "أنا لغتي"، وثقافتنا سامية مرتبطة بالبعد الروحي، ولنا في هذا نبل والتزام وقوة ومنعة لما تمنحه من خير ووحدة.
ودور الثقافة السامي معروف في تهيئة الأمة، بشعوبها ودولها، في التحرر والقوة، والحفاظ على الممتلكات، والانتماء الواعي لهذا العصر، بضمان قوتنا، لا اندماج المهزوم ولا ذوبانه ولا تابعيته.
من الحكمة في الاتجاهات الجديدة، تجنب فكرة المراكز والأطراف غير المفيدة، وجعل كل مركز عربي كبيرا في ذاته من خلال الهدف الوحدويّ؛ فالخلاص القومي هو خلاص قطري، ولا خلاصا قطريا حقيقيا؛ فليست القضية رواجا إعلاميا، أو ادعاء بالتفوق، فنحن أمة واحدة. كذلك فإننا هنا ونحن نقوي ذاتنا لا نستعدي الآخرين إلا من أعلنوا عداوتهم لنا، ولنا في فعلنا العربي النبيل والإنساني من يكشف الغطاء عن مآرب الأعداد غير الإنسانية وغير القانونية.
كنت ابن 14 عاما، أكثر قليلا أو أقل، حين سمعت أخي سعيد في أوائل الثمانينيات، وهو ينشد قصيدة "راية العرب" للشاعر محمود حسن إسماعيل:
في طريق الشمسِ عودي، وأعيدي عزة الشرقِ على وجه الوجودِ
وازحفي بالنور والنار على صرخةٍ للثأر في باقي القيودِ
من قديم الدهر حياك الالهُ وبصوت الوحي نادتكِ سماهُ
واصطفى أرضك من بين الثرى فحبَتْها بالرسالاتِ يداهُ
كان أخي سعيد ينشدها فرحا وفخورا وهو ممتلئ بالأمل، لعل ذلك من تأثيرات معلمنا الراحل "محمد زهران" ذي النزعة العروبية. كم كان سعيد جميلا وهو يتلذذ بترديد الأبيات.
تأثرت بأمرين: الأول أنني فهمت ان الشرق يعني بلادنا العربية، وكأنني فهمت المعنى من خلال الرمز في الشمس والنور والقيود رغم حداثة سني، أما الثاني، فهو تنوع القافية. كان ذلك حيويا وصادما نحو تأمل الشكل الأدبي. ثم رحت أقرأ باختياري طبعا القصيدة. وكم استعجلت الزمان، عاما جديدا، لكي أتعرّف عليها.
سيمضي عمر طويل، لأعرف أن محمود حسن إسماعيل، قد ضمن قصيدته الجميلة الملهمة ديوانه الثامن "التائهون" الذي نُشر عام 1967، عام الهزيمة التي ما زالت تترك آثارها علينا جميعا حتى الآن:
في ظلام الدرب في الماضي الطويلِ كم حضنت العهد جيلا بعد جيلِ
ومحا خطوك في إصرارهِ من طريق الفجرِ ليل المستحيلِ
وضربت السيرَ حتى سطعت شمسُكِ الكبرى على كلِّ سبيلِ
وتلاقى الأهلُ بالأهلِ على صيحةِ الحقِّ لأحلامِ الجدودِ!
الأبيات هي نتيجة فهم عميق للثقافة العربية التي تجلت فيها أحلام أمتنا، حيث يتذكر ما كان من نكسات في تاريخنا، وكيف تم تجاوزها. لقد كان عمر الشاعر إسماعيل وقتها 57 عاما إذن، لكنه كان ممتلئا بمشاعر الشباب:
بصباح الوحدةِ الكبرى الأبيَّهْ عُدتِ من حلم الليالي العربيهْ
فازأري بالنورِ في كل ثرى لم تزل فيه من الليلِ بقيهْ
وعلى كل ترابٍ لم تزلْ فيه للغرب بقايا الهمجيَّه
واستمرِّي حرَّةَ الخطوِ إلى أن تريْ شمسكِ عادت من جديدِ!
ولعل وعي الشاعر، ابن الثقافة العربية الملتزمة والمنتمية لقضاياها، تعرف معنى الوجود في ظل الأخطار، فليس الخطر يخصّ قطرا عربيا واحدا أو اثنين، بل يخصنا جميعا:
فإذا شارفتِ أرضًا زمجرتْ ظمأً للفجرِ من قلبِ الخيامِ
فارشُفيها بشُعاعٍ مؤمنٍ يستردُّ النورَ من أعتى ظلامِ
ويذيب العارَ أنَّى خطرتْ لرُؤاهُ حسرةٌ فوق الرغامِ
وضحى المعراجِ يمحو دمعةً لم تزلْ تصرخُ في القدسِ الشهيدِ
رحم الله شاعرنا الجميل محمود حسن إسماعيل، الذي أشعل داخلنا، وداخل أجيال عربية معنى "راية العرب".
على مدار 4 عقود ونصف، وأنا أردد هذا البيت:
في طريق الشمسِ عودي، وأعيدي عزة الشرقِ على وجه الوجودِ
متذكرا أخي سعيد، ومعلمنا الراحل، وممتلئا بالأمل والتصميم عليه، فخلاصنا واحد، والثقافة منطلق. إنه تأثير الأدب في تكويننا، ودفعنا نحو إثبات الذات الفردية والوطنية والقومية علميا وثقافيا، فلعل وزراء التربية والثقافة والإعلام يبدؤون الفعل العربي المشترك؛ فلدينا ما نبني عليه في عصور ثقافتنا ليس في العصر الحديث والوسيط، بل وفي العصور القديمة قبل آلاف الأعوام.

