- 25 آب 2025
- نبض إيلياء
عندما غضب صديقي الكاتب والصحفي السوري المعروف "محمد تركي الربيعو" المتخصص بهويات المدن من قرار جهات رسمية في سوريا باقتطاع جزء من حديقة عامة صغيرة في أحد أحياء دمشق القديمة لصالح مشروع سياحي استثماري في إطار التغيير الذي تشهد العاصمة السورية ، تذكرت حال القدس وكيف يجب أن يغضب اكثر بكثير على السلطات الاسرائيلية التي لم تطلب الإذن بالتغيير بل انها غير وبالقوة وجه القدس بشكل كامل وخاصة حول البلدة القديمة بهدف محو الذاكرة الجمعية للقدس .
ما كتبه الصديق "محمد تركي الربيعو" ينطبق بصورة كبيرة على التحولات التي تشهدها مدينة القدس بقوة المحتل والذي لا يقبل حتى القيم الاخلاقية للحفاظ على ارث المدينة الضارب في الجذور
فعلى سبيل المثال لا الحصر المنطقة الممتدة ما بين باب العامود وباب الساهرة شكلت متنفسا طبيعيا لأهل المدينة فهي حيز عام مجاني وبسيط يمنح السكان مكانا للراحة واللقاء ، كما هو حال المسجد الأقصى الذي كان ( قبل ان تخنقه وحصاره الشرطة الإسرائيلية) المتنفس الوحيد لسكان البلدة القديمة فلم يكن الاقصى مجرد مسجد بل كان هو مركز الحياة بكل معانيها.هذه المنطقة كانت ساحة خضراء بها الأشجار والمقاعد والمدرجات ، ولكن إسرائيل ولأسباب امنية ( كالعادة) قامت بقطع هذه الأشجار ومسحت الارض كاملة ، وبهذا حولت السلطات الاسرائيلية ميدان المدينة الى مكان يصعب الوصول إليه لعدم توفر المواقف العامة ولكثرة كاميرات مراقبة السير التي تمنع أي توقف ولهذا فإن الترسيم الجديد لتلك المنطقة الواقع من باب العامود الى باب الساهرة هو ترسيم أمني يعزز الرقابة الأمنية ولهذا قامت بنصب ابراج مراقبة عسكرية غاية في القبح على مدخل باب العامود وذلك على حساب الأشجار التي كانت هناك ، كما انها تعمل طيلة الوقت على يحيد باب العامود كبوابة تربط مركز المدينة بالبلدة القديمة ، في إطار عزل المدينة عن إحيائها للاستحواذ عليها . وما مشروع مركز المدينة الذي تعمل البلدية والجهات الرسمية الاخرى على تطبيقه لخير دليل على عزل باب العامود عن محيطه وعزل البلدة القديمة كليا .
الان السلطات الإسرائيلية تعمل كل ما باستطاعتها لإلغاء هذا الحيز العام وجعله حيزا معزولا كليا عن المحيط فقامت بتضيق الشارع العام الذي كان شريان الحياة في القدس لتهميش باب العامود وتحوله لمنطقة عسكرية ليصبح شارعا فرعيا بمسار واحد بكل اتجاه وقامت بتوسيع مساحة الأرصفة لتصبح أوسع من الشارع ، وبالتاكيد فان هذه الاجراءات ليست لرفاهية السكان بل من اجل ابعاد المقدسي عن محيط البلدة القديمة ، هذا التغيير المقصود واللئيم هو بمثابة اعتداء على ذاكرة المدينة وعلى ابسط حقوق الناس في الوصول براحة الى البلد والتمتع بالفضاءات العامة.
ما علينا ،
المهم أن القضية هنا ليست ان الطرف الآخر لا يعترف أصلا بوجود العرب في القدس فحسب ، بل القضية أعمق، إنها دفاع عن ذاكرة القدس وعن أسلوب تعامل إسرائيل بمؤسساتها المدمرة للقدس مع المدينة وكأنها بلا تاريخ، بلا ذاكرة حضرية، وكأن كل ما فيها قابل للمسح أو الاستبدال.
وتناسى المحتل عن قصد أن مدينة القدس حساسة وتاريخية، وأي تغيير صغير فيها يمكن اعتباره مساس بالقيمة التاريخية والحضارية والإنسانية .
المنطقة الواقعة ما بين باب العامود وباب الساهرة ليست متنزها تغيره إسرائيل كيفما تريد ووقتما تريد وبالتصميم الذي تريد، بل هي جزء من المدينة لا يحق لها التلاعب فيها ، رغم أن القدس أكثر مدن العالم مراقبة بمئات الكاميرات التي تعد على المواطن أنفاسه ، وكل هذه الإجراءات تقول للمقدسي لا تقرب البلدة القديمة لأنها ليست لك، وان اقتربت فإنك ستعاقب بالكاميرات والحواجز العسكرية ومخالفات الشرطة التي لا تفسير لها ناهيك عن انعدام أماكن للوقوف
من قال اننا نريد ارصفة اوسع من الشوارع السريعة أمام حوانيت فارغة من الزبائن؟ تلك الحوانيت التي كان من الصعب مشاهدة مداخلها من كثرة الزبائن التي هجروا بفضل التضييق الاسرائيلي.
في القدس تم تقليص المساحات الخضراء بدلا من حمايتها في العقود الماضية. والعكس صحيح في القدس الغربية التي هي مدينة مختلفة لا تربطها بالقدس الشرقية اي رابط ولا اية علاقة ولا حتى أي تواصل لا يكاد يخلو حي فيها من مساحة خضراء لخدمة سكانها .
المحزن والمؤلم هو أن إسرائيل تتعامل مع القدس وكأنها مدينة بلا ذاكرة. قد يقول قائل إن هذا ربما نابع من عدم معرفة أو عدم اكتراث. ولكن الحقيقة ان هذا نابع من معرفة تامة بذاكرة المدينة التي يريد الجانب الآخر أن يمحو ها بكل الوسائل حتى من خلال الأرصفة السخيفة الواسعة، او من خلال أشجار النخيل وكأننا في شوارع ميامي .
نقول لهم نريد القدس التي في خاطرنا بسيطة غير معقدة، أهلها يعيشون باحترام يحصلون على حقوقهم
نقول لهم ابتعدوا عن أسواقها ومقاهيها العتيقة ومخابزها المميزة وبيوتها وذاكرتها فهي مدينة ستبقى حية حتى بعد التغيير الذي يأمل الجانب الاخرى انجازه لتصبح القدس مدينة بلا هوية بلا ذاكرة، مدينة مسخ قبيحة بأبراج سكنية عالية وقحة، تلك ابراج التي تشرف على القدس الشرقية من المدينة الغريبة والغريبة كقيمة عقارية في نفس الوقت التي تعمل الجهات الرسمية على تفريغها من أصحابها ومن حياتها اليومية وجعلها مدينة اطلال ترضي غرور سكان الأبراج العالية الحالمين بالهيمنة على المدينة وهويتها المستحدثة لمنع حياة طبيعية لمدينة حيوية وحية.
خليل احمد العسلي