• 4 حزيران 2022
  • من اسطنبول

 

 اسطنبول - أخبار البلد -  كتب أحمد هيمت:

  

أن تجلس على هذه الشرفة تتناول فنجان قهوة تركية  حيث  ينبسط أمامك البسفور ، وأن تصبح عليك مآذن جامع السلطان احمد وتشاركها هذه التحية الصباحية مآذن آيا صوفيا  وبجانبهما قصر طوب كابي ، فانت بالتاكيد محظوظ للغاية .

 فهذا المشهد الذي اعتاد عليه الاسطنبوليون، بل أصبح بالنسبة لهم مشهدا لا يعنى الكثير لهم ،  هو بالنسبة لنا عشاق اسطنبول مشهد يحلم به الكثيرون ، خاصة وان كان  من شقة خاصة وليس في فندق حيث صخب الضيوف وحراكهم الذي لا ينم عن أي احترام لهذه المدينة .

المشهد لم يكتمل بدون ان اكمل الحكاية .

 المشهد هو من احد اجمل الأحياء هدوءا وسكينة في اسطنبول انه حي اسكودار الذي كان ذات يوم كيانا مستقلا بذاته بثقافته وبكل مكوناته ، حتى انه لا يزال يحافظ بقدر الامكان على هذا التفرد .

 أمامي مباشرة هناك فسحة صغيرة مكونة من قطعة  أرض محاطة بسور عثماني  لا زال الجزء الأكبر منه صامدا باقيا يحتضن هذا البستان او تلك الفسحة  شجرة اسكي دينا  وقد غطتها الثمار البرتقالية وشجرة تين ورمان  اضافة الى اشجار ليمون وزيتون .

 لا زالت ازقة اسكودار ضيقة  وشديدة الارتفاع او الانحدار ، بعض سكانها يعيشون فيها اجيالا عبر أجيال ، فالجميع يعرفون بعضهم بعضا، وكنت عندما أسير مع صديقي العزيز الدكتور محمد التميمي في الحي تجده اما يلقى السلام على احد او ان اصحاب الحوانيت من الخضرجي والبقال والفران حتى سمسار العقارات يلقون السلام عليه ويعرضون عليه الشاي وتبادل أطراف الحديث ، فهو منهم حيث يقطن الحي منذ ثمانينات القرن الماضي ويتحدث التركية بطلاقة التركي الاسطنبولي .

 الأخضر هو اللون الذي لا زال يغطي مساحات واسعة بين المنازل وفي الازقة وفي المنازل ايضا ، على عكس أحياء كثيرة من اسطنبول  التي بات اللون الرمادي يسيطر على الحيز العام بسبب كثرة البناء على حساب المساحات الخضراء التي كانت تمتاز بها اسطنبول على مر عقود من الزمن . 

 أما الاستيقاظ باكرا  وبالتحديد فجرا  لمشاهدة البسفور خاليا هادئا من حركة السفن والعبارات والبواخر  فهذه متعة بحد ذاتها ، حيث لا يسيطر على سماء اسطنبول في تلك الساعات سوى النقاش الحاد بين نوارس اسطنبول المشهورة وعصافيرها الناعمة ، وكأنهم في اجتماعهم الصباحي اليومي ، كلهم نشاط وحركة يتنقلون برشاقة من سطح منزل قرميدي احمر الى اخر يلاحقون بعضهم البعض ، قبل أن يتسابقوا احتلال مدخنة منزل هنا وشرفة منزل هناك، باحثين عن اعلى نقطة ليستريحوا فيها معلنين انهم ملوك اسطنبول  في السماء ، وتشاركهم هذا النشاط الصباحي وبهمة عالية الغربان الذين لا يخشون من سيطرة بني البشر فتجدها تغزوا الشرفات والورد بحثا عن رزق صغير او قطعة خبز منسية .

 وما هي الا دقائق وتبدأ شمس الصباح ترسل أشعتها الصباحية الأولى بنعومة إيذانا  بيوم صيفي حار ،  هذه الاشعة المفعمة بالحنان  يرافقها صياح الديك معلنا بداية يوم جديد، شاكرا ربه على نعمة النوم ونعمة الاستيقاظ صباحا ، هذه الأصوات جميعا تشكل  سيمفونية اسطنبولية غاية في العذوبة، لدرجة انك لا ترغب حتى باعداد فنجان قهوة اسطنبولي تقليدي ، خشية أن تفقد جزءا بسيطا من هذه المتعة التي بالتأكيد سوف تشتاق إليها في القدس ، وسوف تتذكرها في كل مرة تحن فيها الى اسطنبول ، وهذا يعني أن تتذكرها كل يوم .

 اتوقف عن الكتابة للحظة من أجل ارتشاف القليل من فنجان القهوة وقد بدأت البرودة تتسرب إليها ، اه لقد نسيتك أيتها القهوة العزيزة لأنني منهمك بتسجيل كل لحظة  وكل مكون من مكونات المشهد الصباحي الرباني الرائع في اسطنبول . 

فأنت تريد أن تختزل أكبر قدر ممكن  من المشهد الخرافي الصباحي الاسطنبولي، فتجد نفسك تحرك رأسك المتعب الثقيل في كل اتجاه وكأنها محاولة طباعة هذا المكان في مخيلتك ، حتى لو اخذت عشرات الصور والفيديوهات في موبيلك الاحدث ، فانك ستفشل في تسجيل المشهد حتى لو كانت الكاميرا في الموبيل ذات دقة عالية ،  فالصور لا تنقل المشاعر والأحاسيس، وهذا لن يحدث إلا  من خلال  معايشة المشهد الصباحي  بأحاسيسك ، وأن تتنفس هواء اسطنبول الندي في ساعات الفجر وإن تاخذ الشهيق عميقا ناقلا به كل مركبات هواء تلك اللحظة المباركة الى كل ذرة دم تسير في أنحاء جسدك تنقيه وتعالجه بالهواء النقي الصباحي الاسطنبولي عبر الشرايين قبل أن تخرجه عبر زفير عميق.

 ها قد أشرقت الشمس بكامل أشعتها وحرارتها وها قد ازدحم البوسفور بالسفن والقوارب والبواخر  وارتفع معها صوت محركاتها وهو بمثابة إعلان عن انتهاء لحظة الفجر  الاسطنبولي الاوسكوداري   ليبدأ يوم جديد في اسطنبول ،  بدأت الحياة تدب في ازقة  ذلك الحي وصوت بائع السميت ذلك الكعك اللذيذ قادم من ذلك الشارع الخلفي يعلن ان السميت الطازج قد وصل …