• 27 آب 2022
  • حكايات مقدسية

 

  اسطنبول - أخبار البلد -  كتب أحمد هيمت : نشر الصديق الكاتب السوري المبدع " محمد  تركي الربيعو" مقالة في صحيفة " القدس العربي" خصصها للحديث عن الخبز، وهو الباحث العاكف الباحث في تاريخ الطعام وعلاقته بتاريخ الشعوب خاصة الشعب السوري .

 ويشرفنا في شبكة " أخبار البلد؛ المقدسية ان تعيد نشر هذه المقالة بالكامل :

 

"على مرّ السنين، ظل الخبز ركنا رئيسيا على موائد الطعام اليومية أو المناسبات. صحيح أن الأذواق الجديدة وبعض النصائح المتعلقة بالوزن والكربوهيدرات، همّشت دوره قليلا، لكن تبقى له مكانة كبيرة في حياتنا، وفي حياة مئات الآلاف من الفقراء في شوارع دمشق والقاهرة وبغداد، وغيرها من المدن العربية المكلومة.

ولا تقتصر أهمية هذا المكون على جانبه المتعلق بالتغذية حسب، بل نرى أن الخبز كان شاهدا على تطورات اجتماعية وثقافية كبيرة. وكان السبب وراء إحداث بعض الثورات الاجتماعية والذوقية، ولذلك يمثل صدور كتاب «تاريخ عالمي للخبز» للباحث وليم روبل، ترجمة نادين العودة عن دار ألكا، فرصة مهمة للاطلاع على سردية غنية حول سيرة الخبز. كما أنه يسد فراغا في هذا الجانب، على الصعيد البحثي بالأخص، فعلى الرغم من أن في يومياتنا مئات وآلاف القصص حول الخبز، لكنها لم تتحول إلى موضوع في أجندات الباحث العربي التاريخي أو السوسيولوجي. في الوقت ذاته، نجح فيه بعض الروائيين وكتّاب الذكريات من تدوين تفاصيل مهمة عن الخبز، وأذكر هنا على سبيل المثال عمل الروائي الليبي محمد النعاس «خبز على طاولة الخال ميلاد» الحاصل على جائزة البوكر العربية. فقد تناول النعاس حياة خباز وتاريخ الخبز في ليبيا منذ الخمسينيات. كما استطاع من خلال روايته أن يخبرنا أن صناعة الخبر لا تقل أهمية عن تأليف الموسيقى أو الكتابة، فهي فن، وعالم مليء بالتفاصيل والحياة.

الخبز… تاريخ هامشي

هذه التواريخ ما تزال هامشية في حياة المكتبات ودور النشر العربية. وفي كتاب ألكا يحاول المؤلف، المتخصص في تاريخ الخبز والطهي، الحفر في هذا التاريخ، بدءا من زمن الإنسان العاقل، الذي مثّل له ظهور الخبز شيئا جديدا في تاريخ الأكل (كما يذهب لذلك الأنثربولوجي جوناثان سيلفرتاون في كتابه «عشاء مع داروين»). لكن الأهم في رأينا، أن الباحث لم يقتصر عمله على هذا الماضي البعيد، بل شمل قراءة كل ما كتب من مخطوطات طعام في أوروبا منذ القرن السادس عشر تقريبا، بالإضافة إلى القيام بجولات ميدانية في عدد كبير من أفران الخبز الأمريكية والمكسيكية والإيطالية، والألمانية، والبريطانية والافريقية، بالتالي، نحن أمام عمل ميداني غني وممتع في آن.

يتتبع المؤلف تقريرا عن المزارع البريطانية، كتب في أربعينيات القرن السادس عشر، ويحتوي على تفاصيل عن المكونات التي يجب أن تستخدم في صناعة خبز الفلاحين. ويتكون هذا الخبز من ربع مكيال من البازلاء إلى مكيال من الجاودار (الأسمر) ويوصف بالخبز المشبع للعامل أو الفلاح. في المقابل، نرى أن النخب حاولت أن تتمايز عن الفقراء من خلال خبزها الأبيض، الذي يحتاج إلى كميات كبيرة من الدقيق، ما يعني دفع أموال أكثر. كما حاولت هذه النخب التمايز عن الآخرين من خلال القول «إننا نأكل الخبز حتى نتذوقه لا لنعيش عليه» أي نظرت للخبز بوصفه زينة على المائدة. وهذا ما يظهر في بعض لوحات الطبيعة الصامتة الهولندية في القرن السابع عشر، لكن في القرن التاسع عشر كان المشهد يتغير، مع انتقال أعداد كبيرة من الفلاحين الأوروبيين إلى المدن، ما أسس وفقا للمؤلف إلى شيء من دمقرطة الذوق، إذ أصبح الخبز الذي كان على قمة هذا السلم الاجتماعي اعتياديا.

الخبز والأفكار

يرى المؤلف أن هناك حروبا، أو منافسة ثقافية تجري اليوم على مسألة تصدير أفكار حول الخبز ومذاقه. فالفرنسيون يعدون أهم مصدري هذه الأفكار، ولذلك لا يميلون إلى استيراد طرق صناعة الخبز من ثقافات أخرى، وتشمل هذه القطيعة أيضا طرق صناعته التي جاء بها المهاجرون، ويعتمد الخبز الفرنسي على تقديس القمح، فهو تقليد يحتفي بالقشرة أكثر من تقاليد الخبز الأوروبية الأخرى. وعند العبور من فرنسا إلى ألمانيا، نجد أنفسنا أمام ثقافة خبز مختلفة جذريا، وهناك انقسام بين الشمال والجنوب. ويفضل الألماني خبز الفقر الأوروبي (خبز الجاودار) كجزء من التقاليد الفلسفية التي وجدت الإلهام في الحياة الريفية. إذ يشكل موضوع الحياة الريفية مشروعا فكريا ألمانياً طويل الأمد، ولذلك فقد تأثر تقليد الخبز الذي نراه في المخابز الألمانية بما سمي حركة صلاح الحياة، التي احتفت بخبز الحبوب الكاملة كمصدر للصحة، على عكس خبز القمح المكرر في المناطق الحضرية الصناعية. وفي روسيا كان الروس يأكلون الجاودار (الخبز السميك الأسمر) وكان المخبز النموذجي يبيع فعليا نوعا واحدا من الخبز السميك والأسمر، لكن هذا المشهد بات يتغير اليوم، وأخذنا نشهد وجود عشرات الأنواع من الخبز، ما يعكس المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد والخلاف على صورتها.

الخبز العربي: الشاهد المنسي

من الملاحظات التي تسجل على الكتاب، غياب أي تفاصيل عن سيرة الخبز في المدن العربية، ولعل المؤلف آثر ترك المهمة لباحث آخر، خاصة أنه في خاتمة كتابه يرى أن القرن الحادي والعشرين، وخلافا لما سبقه، يشهد حالة من إعادة التنوع في إنتاج الخبز. وكما ذكرنا في بداية المقال، فإن الاهتمام بهذا التاريخ ما يزال مهمشا ومذموما أحيانا من قبل النخبة الفكرية العربية. مع ذلك، نلاحظ محاولة بعض الروائيين وكتاب السير ذكر بعض التفاصيل في هذا الجانب، لتمثل أعمالهم مصدرا بديلا لتكوين صورة أوسع عن الخبز في بعض البلدان العربية. وأذكر هنا على سبيل المثال سوريا، ففي مذكراته المدونة مؤخرا، يخصص الطبيب الدمشقي إبراهيم حقي (مواليد 1920) فصلا غنيا عن الخبز. وقد تعدّ هذه الذكريات أرضية جيدة لإعادة قراءة تاريخه في سوريا في المئة سنة الأخيرة.

يروي لنا حقي أنه خلال الثلاثينيات كان الأهالي يصنعون العجين في المنزل، ليأخذه أحد الأبناء لاحقا إلى الفرن. وكان الخبز يصنع من القمح المطحون مع قشره، ولذلك سمي بـ»راسو بعبو». ونادرا ما كان يأكل الناس الخبز المصنوع من الدقيق المزال قشره (الخبز الزيرو) وكان هناك خبز التنور في سوق العتيق، وأيضا فرانين أرمن يبيعون خبز الطوبخانة (وهي كلمة تركية مؤلفة من جزئين طوب ومعناها مدفع، وخانة أو هانة معناها مكان، وتدل على الخبز الكبير الذي يقدم للجنود، وهو بشكل قوالب مستطيلة يزن الواحد منها نحو الكيلو). وفي الأربعينيات، وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، أصبح الدقيق يمزج بالشعير وبمواد أخرى ليصبح لونه أسود تقريبا. لكن لا نعرف من خلال ذكريات حقي، تفاصيل أكثر عن دور الفرنسيين مثلا في تغيير مذاق الخبز في سوريا، إلا أن حقي يعتقد أن هذا النوع من الخبز استمر حتى منتصف الأربعينيات. وهي معلومة نظن أنها أيضا بحاجة إلى إعادة نظر، خاصة في ظل بعض الدراسات والكتب الجديدة التي أظهرت كيف أن البريطانيين أعادوا السيطرة في عام 1942 على المخابز في سوريا. فخلال الحرب العالمية الثانية، فرض على دول التحالف سؤال حول كيفية تأمين الطعام في البلاد التي اشتعلت فيها الحرب، بما فيها دول المشرق، خوفا من أن يؤدي فقدانه إلى قلاقل واحتجاجات، ولذلك قام البريطانيون والأمريكيون في نيسان/إبريل عام 1941 بإنشاء هيئة للتموين والإمداد باسم «مركز التموين للشرق الأوسط» وقد لعبت في البداية دور الاستشاري. وعرف القائمون على نشاطات هذا المركز بقناعاتهم بأن الدولة تشكل عموما عاملا مهما في تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن عليها توفير الأمن الاجتماعي للبشر الذين يخضعون لها، ما يخدم في نهاية الأمر مجهودهم الحربي. وانطلاقاً من هذه الخلفية، سيتدخل مركز التموين في سوريا، في ظل تراجع النفوذ الفرنسي بعد غزو ألمانيا لباريس، بداية من خلال إنتاج وتوزيع المحاصيل الزراعية، وأيضا عبر ضبط أثمانها. وهكذا كان المركز حسبما ذهب لذلك محمد علي الصالح في كتابه المهم «إدارة الاقتصاد السوري زمن الانتداب الفرنسي» يعمل كعامل بديل لإرساء ونشر العدالة، وحل التناقضات الاجتماعية، دون الحاجة للمرور أولا عبر النخب البورجوازية، كما في نظام اقتصاد السوق الحر، الذي اعتمدته السلطات الانتدابية الفرنسية، ولذلك قام عام 1942 بتأسيس «مكتب الحبوب الصالحة للخبز» بإدارة فرنسية وبريطانية مشتركة، ما شكّل وفقا للصالح، جذور الدولة (السلطوية) في سوريا، وفي إيجاد آليات أخرى لضبط علاقة الدولة بالمجتمع والاقتصاد، لكن أيضا ما يغيب عن رواية الصالح المهمة، ما أحدثه هذا التدخل من تغير في طعم الخبز السوري. وتبقى الإجابة هنا معلقة في ظل غياب أوراق ومراجع إضافية عن طرق إعداد الخبز آنذاك.

في الخمسينيات والستينيات، يبدو أن الخبز شهد تغيرات على صعيد الذوق، وتمثل مع ميل السوريين شيئا فشيئا نحو الخبز الأبيض. وهذا أمر مرتبط أيضا بتطور المكننة، كما بقيت هناك مساحة للأفران لتعبر عن تنوع الخبز. وهذا تطور لم يقتصر على سوريا، بل أيضا شمل إقليم البحر الأبيض المتوسط (كما تلاحظ ذلك الأنثروبولوجية كارول كونيهان). فقد شهد تحديثا دون تنمية، أي ركود في الإنتاج المحلي وتزايد في محاكاة أنماط الاستهلاك، وما يصاحبه من تغير في العلاقات الاجتماعية، وخلافا لصنع الخبز في المنزل، كان ظهور الأفران الآلية وانتشارها، يؤسس لعلاقات اجتماعية جديدة، فبعد أن كان إعداد الخبز يجري في المنزل مرة أو مرتين في الأسبوع، أصبح يمكن توفيره كل يوم.

كما أن تحضيره كان يتطلب أحيانا مشاركة الجارات وباقي نساء العائلة، اللواتي يقدمن مساعداتهن كهبة (وفق تعبير مارسيل موس) مقابل حصولهن عليها لاحقا، ما كان يعني أن حلقة تحضير الخبز بمثابة اجتماع لبعض النسوة لتبادل الأخبار والنميمة حول المكان، وبعض التفاصيل عن الماضي، وبالتالي كان إعداد الخبز يمثل قنوات للتواصل الاجتماعي. لكن ظهور المخابز الآلية، وتمدد سيطرة الدولة على إنتاج القمح (بوصفها المشترية له) وغلاء الطحين لاحقاً، أدى إلى اعتماد المدن وحتى الريف (تأخر الأمر للتسعينيات مثلا في قرى الجزيرة السورية) على خبز الأفران، ما خلق حالة من الفردانية (شراؤه بدلا من صنعه بالتعاون مع الآخرين) كما أنه أراح النساء من عناء الاستيقاظ مبكرا لإعداده، وحوّله من فن نسائي إلى فن ذكوري.

ومع قدوم البعث، كنا أمام تسريع لهذا التحول، وبالأخص مع قرارات تأميم المخابز. وستكون لذلك نتائج على مذاق الخبز نفسه، فمع قرار التأميم كانت الدولة تعمل على توحيد نمط الخبز المأكول. وسيتعمق هذا المشهد أكثر في الثمانينيات في ظل الحصار على سوريا، ومن خلال تردي إنتاج الخبز، الذي أخذ يسمى «الخبز العسكري». بينما تسجل ذاكرة حقي في المقابل وجود بعض الأفران الصغيرة في دمشق مثلا، التي تقدم الصمون، في حين كان هذا الخبز لا يتوفر إلا ما ندر في مدن أخرى. ومع نهاية التسعينيات، كان المشهد يتغير مرة أخرى، مع ظهور الأفران الخاصة، التي أخذت تبيع «الخبز السياحي» الذي بدا للسوريين في البداية حلو المذاق (لاستخدام السكر في تكوينه) مقارنة بالخبز السابق. وترافق ظهوره مع شيء من انفتاح البلاد على العالم، كما خلق ظهور الخبز السياحي حالة من الانقسام الاجتماعي/الخبز بين السوريين، وأخذت بعض العائلات تتفاخر بتناولها الخبز السياحي بدلا عن الخبز الحكومي. لكن سرعان ما غاب هذا التقسيم مع ازدياد عدد الأفران الخاصة، وتجديد الأفران الحكومية، وتحسن طعم الخبز السوري. وحملت الألفية الجديدة تغيرات على صعيد الخبز، تمثلت بازدياد الإقبال على خبز البرغر، وأيضا العودة إلى الخبز الأسمر (القمح) مع ارتفاع الإصابة بأمراض السكري، وظهور موضة الدايت. وكان هذا المشهد الجديد يظهر من خلال أحد أفران حي الشعلان في دمشق، وهو الحي الذي عبر عن صورة جديدة لسوريا، حيث التقليد يندمج مع الحداثة (الخبز التقليدي /مطاعم السناكات).

ومع قدوم عام 2011، ستمر أشهر قليلة، لتبدأ فصول غياب الخبز وانقطاعه، قبل أن يقذف المشهد بالخبز السوري إلى فصول سوداء من حياة السوريين، إذ أصبحت للخبز بطاقة، ويوميات مريرة، وطوابير تنتظر منذ الفجر للحصول عليه، كما تحولت بعض المخابز إلى ساحات للمعارك والقصف، وبذلك يكون الخبز مرة أخرى شاهدا على كارثة البلاد، التي يبدو أن اختمار عجينة السلام فيها تحتاج لسنوات طوال…