• 4 حزيران 2020
  • جبل المشارف

 

بقلم: سعيد الغزالي

 

عزيزة فتاة في الثلاثينات من عمرها، ترتدي الجينز الأزرق والقمصان الملونة ذات الأكمام القصيرة في الصيف، والطويلة في الشتاء. وتتدثر بمعطف ثقيل مصنوع في تركيا، عندما تنخفض درجات الحرارة أو تتساقط الثلوج، وتحرص على ارتداء "جاكيت" نسائي خفيف لونه أحمر متصل بقلنسوة للرأس. وتحب أن ترش على وجهها عطرا خفيفا، وتمشي بخطوات رشيقة وسريعة تعكس ثقة عالية بالنفس.  

عزيزة فتاة قصيرة القامة، وجهها مستدير، عيناها واسعتان ولامعتان، بشرتها بيضاء، شعرها قصير جدا، تهتم بأناقتها دون تكلف، لا تلبس الحلي الذهبية، ولكنها ترتدي قرطا على شكل زهرة من اللؤلؤ الأبيض يتدلى من شحمة اذنيها، ولا تضع على وجهها مكياجا مبالغا فيه، فهي تتمتع بجمال طبيعي، خال من التبرج، الكحل حول عينيها خفيف جدا ولا يمكن ملاحظته، وتهتم بصحتها ونظافة جسمها وثيابها وتتناول الخضار والفاكهة الطازجة يوميا، ولا تكثر من تناول الحلويات، وتشرب الشاي والقهوة بدون سكر وباعتدال وتحافظ على وزنها. ولا تدخن، ولا تعاقر الخمر، وتمارس رياضة المشي والسباحة يوميا وتتدرب كل أسبوع مرتين في نادي للجودو والكراتيه.

تنهض من فراشها في ساعات الصباح الباكر، وتبدأ يومها بشرب كأسين من الماء، وتعد لنفسها كوبا من القهوة تحتسيه على مهل وهي تستمع إلى نشرة اخبار الساعة السابعة، وتتناول فطورها الخفيف وتنطلق إلى العمل في سيارتها القديمة من نوع "فولكسفاجن"، ولا تعود إلا في ساعة متأخرة كل مساء.

لا تحب إهدار المال على المكياج والملابس، ولكنها ليست بخيلة على نفسها أو عائلتها، وتساعد الآخرين. ويستشيرها الجيران في أمور تتعلق بدراسة أبنائهم وبناتهم ويطلبون مساعدتها في تعبئة النماذج والأوراق الحكومية التي تصلهم من مؤسسة التأمين الوطني، وتقرأ لهم فواتير الماء وخطابات المحاكم باللغة العبرية.

شخصية عزيزة متفائلة، ومحبوبة من قبل الكثيرين، والبسمة لا تفارق شفتيها، وتتفاعل بإيجابية مع كل ازمة صغيرة أو كبيرة، وتجد لها الحلول المناسبة. تحرص عزيزة على الحفاظ على علاقات إيجابية مع المحيطين بها من أقارب وأصدقاء وزملاء عمل، ولكنها تبقي على مسافة أمان بينها وبينهم، فهي لا تسمح لأحد أن يتعدى حدوده ويتدخل في شئونها الخاصة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بوضعها الاجتماعي، وترفض أن تستمع إلى أي اقتراح حول زواجها، ولا تهتم كثيرا بتفسير أو تبرير طبيعة علاقتها مع زملاء أو أصدقاء يأتون لزيارتها في البيت، وهي تعلم أنهم يتناقلون الشائعات والتكهنات المغرضة حول ذلك.

تقول عزيزة بأن المرأة ليست لعبة جميلة يُتسلى بها، ثم ترمى، وليست خادمة تعمل ليلا ونهارا في المطبخ، وهي ذات شخصية مستقلة، ومن حقها أن تشق طريقها في الحياة والعمل والتعليم والعلاقات الاجتماعية، وهي ليست سلعة لإبراز مفاتنها، بل هي كيان حيوي متفاعل مع الآخرين، ويكمن جمالها الحقيقي في صفاء روحها، ونقاء قلبها وسعة عقلها، وفي سلوكياتها وأخلاقها، وتصرفاتها المتزنة في المواقف الصعبة.

تضيف عزيزة إن الفتاة الجميلة تسيء إلى نفسها إن كان عقلها سخيفا وسطحيا، ويتحول جمالها الظاهري إلى قبح، إن لم تحسن التعامل مع الناس باتزان. وتؤكد عزيزة على أهمية أن تكون المرأة مثقفة، لتنقل تجربتها وثقافتها إلى أبنائها وأفراد اسرتها والمجتمع.   

 تتمتع عزيزة بما تسميه جمال الجوهر، أو جمال النفس والروح، أو ما يمكن أن يطلق عليه بالجمال التفاعلي، ويختلف مفهومها للجمال الحقيقي عن المفهوم السطحي المرتبط بالمظهر الخارجي للمرأة، والمكياج وتسريحة الشعر والثياب الأنيقة، رغم أن عزيزة قادرة على ابراز جاذبيتها من خلال الملابس والمكياج والعطور، لكنها تحب أن تتصرف حسب سجيتها، ولا تؤثر عليها كلمات الاطراء لتشعر بإنوثتها.

مارست عزيزة أنواعا عديدة من الرياضة، وأتقنت الجودو والكراتيه، وفي مساء أحد أيام الصيف، خرجت من النادي وهي ترتدي زي الكراتيه الأبيض، ومرت على مجموعة من الشبان وتجاوزتهم، فعلق عليها أحد الشبان بقوله: "يسلم الأبيض وصاحبة الأبيض". سمعت عزيزة هذا التعليق فاستدارت بسرعة وسددت ركلة صاروخية بقدمها إلى صدر الشاب وأطاحت به ارضا، فانفجر الجميع بالضحك، ومضت في طريقها بسرعة. بعد ساعة ظهرت صورتها وهي تسدد الضربة إلى صدر الشاب في صفحات الفيسبوك، ومنذ تلك الحادثة، وصلت الرسالة إلى الكثيرين من الزملاء والاقارب بأن عزيزة فتاة قوية ومهيبة والويل لمن يحاول الاعتداء عليها.

 تتمتع عزيزة بدرجة عالية من الوعي والثقة بالنفس، ولا تراوغ ولا تخادع، ولا تكذب على نفسها ولا على الآخرين، والصدق أهم قيمة في منظومة قيمها، دقيقة في مواعيدها، وهي تسعى دائما إلى اتقان عملها.

حديثها شيق وتمتلك موهبة في قص الحكايات، وفي كل مرة، كانت تروي نفس الحكاية بأسلوب مختلف، وحبكة مغايرة، مستخدمة عبارات جديدة، مشحونة بعواطف جياشة، فتأسر كل من يستمع إليها. وتشارك عزيزة في الندوات الثقافية، وهي نشطة في الكتابة في الفيسبوك، وتنتقي أصدقائها من المثقفين، وتتبادل الأفكار والمعلومات معهم.

تحب عزيزة القراءة وتخصص عدة ساعات كل يوم تقرأ خلالها الكتب السياسية والثقافية والعلمية، وتعشق السفر والرحلات، وتقتنص أي فرصة للقيام بالمغامرة، وتقضي عطلة نهاية الأسبوع في السير في مسارات ترابية في مناطق الريف. وقد انضمت إلى نادي الخيول، وتدربت على ركوبها، وتقتني كلبا من نوع جيرمان شيبرد، تسميه "جيرمي".  

تقول عزيزة إنها ترفض أي عرض زواج مشروط بترك عملها في الصحافة، أو التوقف عن قيامها بالأنشطة الرياضية والاجتماعية والثقافية، أو التخلي عن كلبها، والزواج من وجهة نظرها هي علاقة تشاركية بينها وبين الرجل، وهي لا تعارض أبدا إنجاب الأطفال وتربيتهم، ولكنها تهتم بأن يشارك الزوج أيضا في تربيتهم، وهذا المفهوم التشاركي ليس متوفرا في عقول كثير من الشبان، الذين ينظرون للمرأة كتابع للرجل وليس ندا له، لكنها في حقيقة الأمر لم تحظ بأي عريس شاب، يشاركها هذا الرأي. فالشبان يخشون الارتباط بامرأة مستقلة وقوية، ولكنهم لا يمتنعون عن التحرش بها من أجل علاقة عابرة. وكانت عزيزة تفهم هؤلاء الشبان تماما ولا تسمح لأحد منهم الاقتراب منها، بغرض التحرش. كان جيرمي مستعدا للانقضاض على أي شاب متحرش بمجرد إشارة صغيرة منها.

رفضت عزيزة الاقتران بابن عمها، الذي كان يكبرها بخمسة عشر عاما، عندما كانت فتاة مراهقة عمرها ١٦ عاما فقط. في ذلك الوقت، حاول أبوها أن يرغمها على الزواج منه، لكنها قالت بحزم بأنه لا يستطيع أن يجبرها على الزواج منه، وقالت إنها تهتم بالزواج بعد حصولها على شهادة جامعية، وتأمين مصدر رزق لها، لأنها تريد أن تعتمد على نفسها، وليس على أبيها أو زوجها في كسب معيشتها.

بعد عام، تقدم لخطبتها صديق لوالدها يعمل في تجارة المواد الغذائية ويمتلك عدة محلات تجارية في السوق، وكان الرجل قد تخطى الخمسين عاما، رفضت عزيزة بشدة هذا الزواج، وعندما وصل الرجل بصحبة امه وأبيه وبعض أشقائه لخطبتها، والاتفاق مع ابيها على المهر المعجل والمؤجل، وقيمة أثاث البيت، خرجت من البيت وأقامت في بيت خالتها وأقسمت ألا تعود حتى يقلع أبوها عن محاولته "تدبير عريس" لها.

أخيرا، انتصرت عزيزة، وتراجع والدها، وعندما تخرجت من الثانوية العامة، تابعت تعليمها وحصلت على شهادة جامعية في الصحافة، بعد أربع سنوات. كان والدها حزينا، مكتئبا لأنها لم تتزوج، وخشي أن يفوتها القطار، وتصبح "عانسا". كانت تصده بشده، في كل مرة، كان يقترح عليها الزواج برجل من معارفه الأثرياء، عندما يأس منها، تركها تفعل ما تشاء.

كانت تعلم أن حظها من العرسان الشبان محدود جدا، لأن معظمهم يبحثون عن المرأة الجميلة الجذابة، والمطيعة، ولو كانت مغرورة ومتكبرة، وشديدة الغيرة، وسطحية أو كثيرة الطلبات، فيسقطون في الفخ، ويعيشون حياة غير مستقرة. كان جل اهتمامها منصبا على عملها، وتحقيق ذاتها، وكانت تطمح أن تصبح إعلامية مشهورة، وبدأت تعمل على تطوير ذاتها.

لسانها حاد ولاذع، قلمها شديد الوطأة على الفاسدين، لا تتردد لحظة في قول كلمة الحق، شجاعة ومندفعة، عندما تتكلم يتدفق الكلام من بين شفتيها، وكأنه سيل جارف، وهذه صفة لا تخدمها دائما، خصوصا عندما تكون غاضبة، فأعداؤها يتصيدون أخطائها وينصبون شباكهم ضدها ويستفزونها، ويسخرون منها ومن قصر قامتها، ويتندرون عليها بأنها ستبقى عانسا للأبد، إن لم تقبل الزواج برجل عجوز، لكنهم يخشون مقالاتها النارية.

بعد تخرجها من الجامعة، حصلت على وظيفة مراسلة الشئون المحلية في تلفزيون زيوناز، تلقت تدريبا لمدة قصيرة، وأبدت مهارة نوعية في التغطية الإعلامية، اكتشفت عزيزة بعد مرور عدة شهور، أنها تستخدم قدراتها المهنية وموهبتها في صياغة الاخبار والتقارير لخدمة أهداف سياسية دعائية. أحست أنها خدعت، بالكلام المعسول عن الاعلام الحر، وأن زعم القناة الرسمية بأن مهمتها الرئيسية هي مراقبة عمل الحكومة والوزارات ومؤسسات المجتمع المدني وهم وذر رماد في العيون.

بعد فترة قصيرة، وجدت نفسها في وضع اشتباك مستمر مع محرر الاخبار المحلية، أبو أحمد الذي كان يرغمها على تغطية الأخبار والنشاطات الدعائية للحكومة، ويرفض نشر أي خبر أو تعليق ينتقد الحكومة وأدائها وسياساتها.

عادت عزيزة إلى بيتها، بعد قيامها بتغطية لقاءات الرئيس مع وفود دبلوماسية أجنبية، وسجلت كلمته كاملة، وجرى بثها، فورا، رغم أنه لم يصرح بأي شيء جديد، وكانت تنقل نفس التصريحات المتكررة، وتحس بأن العمل في تلفزيون زيوناز حولها إلى أداة دعائية، ولم تشعر يوما بأن هذا النوع من التغطية الإعلامية مفيد للبلد.

كانت عزيزة تفكر كل يوم بترك العمل في المحطة الرسمية، وكانت تبحث عن محطة خاصة لتعمل بها، وأخذت توسع من دائرة علاقتها بالصحافة العربية والأجنبية، وأصبحت مصدرا اخباريا موثوقا لكثير من وكالات الانباء العالمية، لاطلاعهم عما يجري خلف الكواليس في دولة زيوناز. بعد عودتها للبيت، انهمكت عزيزة في قراءة رواية "البؤساء" للكاتب العالمي فيكتور هيجو وكتاب "الحديث مع الغرباء" لـ مالكوم غلادويل.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشر وخمسين دقيقة، قبل منتصف الليل، تثاءبت عزيزة بعد أن دهمها النعاس، فنهضت بسرعة عن الكنبة في غرفة الصالون واتجهت إلى غرفة النوم واستلقت على سريرها، وكادت أن تغرق في نوم عميق، في تلك اللحظة، رن جرس الهاتف، تساءلت عزيزة: من هذا الذي يتصل بها في هذه الساعة المتأخرة؟ من يكون، نعم إنه هو ، أبو احمد، الذي لا يحلو له إلا أن يتصل بها، كل يوم تقريبا في هذه الساعة، بحجة الطلب منها تنفيذ مهمات إعلامية، وهي تعرف ماذا يريد منها، إنه يسعى لإقامة علاقة معها، ويعرض عليها الخروج معه لتناول طعام العشاء، ويغريها بالترقية وزيادة الراتب، لكنها كانت ترفض باستمرار هذه الدعوات، وهي لا تريد أن تتورط في علاقة مع رجل متزوج، وله أولاد وبنات في نفس عمرها، ولم تشعر عزيزة نحوه بأي شعور، بل كانت تشمئز منه، وتكره تعليقاته الثقيلة الدم وتلميحاته الوقحة، وكان الجميع يعلم ويراقب تصرفاته الشائنة مع السكرتيرات، فيعاكسهن، ويستغل منصبه للتقرب منهن، ومغازلتهن وكان للأسف ينجح مع بعضهن، خصوصا تلك الفتيات اللواتي يرغبن في زيادة رواتبهن، والحصول على معاملة خاصة ومميزة، لكن لماذا يريد أن يتقرب منها بالذات؟

كان أبو احمد يراسل صحفا وقنوات تلفزيونية خليجية، ويستغل التقارير والصور الواردة لغرفة الاخبار ويعيد صياغتها ويضع عليها اسماء مستعارة، وينشرها في الصحف والقنوات، ليحصل على رواتب إضافية، وهكذا تمكن من شراء عدة قطع أراضي وشقق سكنية في عدة مناطق، وانتشرت شائعات تؤكد أن لديه استثمارات في مشاريع اقتصادية في بلدان مجاورة، وحسابات سرية في بنوك أجنبية.

وعندما أجرت عزيزة لقاءات مع مجموعات شبابية ينتقدون فيها فشل الحكومة في رأب الصدع بين الفصائل المتنازعة في دولة زيوناز، وإنهاء الانقسام المستمر منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما. رفض أبو احمد نشر التقرير، واستبدله بلقاء مع وزير الشئون المدنية الذي شن هجوما شرسا على المعارضة وأتهمها بأنها مسؤولة عن استمرار الانقسام. لم يكتف أبو أحمد بذلك، فقام بسرقة التقرير ونشره في صحيفة خليجية تحت اسم مستعار. جن جنون عزيزة عندما علمت بفعلته، ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئا ضده، فالرجل مدعوم من الجهات العليا، ولن يصدقها أحد. كان أبو أحمد يستخدم أسلوبا خبيثا مع الإعلاميين والاعلاميات، العاملين في تلفزيون زيوناز، فيدفعهم لإعداد تقارير جادة، ثم يسرقها منهم وينشرها ويكسب المال. لم يكن أبو أحمد هو الموظف الحكومي الوحيد الذي يهتم فقط بمصالحه الخاصة، هناك الكثيرون من أشباهه الذين يعملون كمدراء عامين في العديد من المؤسسات الحكومية. بعضهم يحصل على رواتب من عدة مؤسسات مدنية وإحدى المنظمات الأمنية لأن اسمائهم موجودة على قوائم الموظفين. قبل سنوات، شن رئيس وزراء سابق حملة لتطهير المؤسسات من الفاسدين، وتعرض لانتقادات شديدة، وأخيرا، تم الاستغناء عن خدماته. تشكلت مؤسسة لمحاربة الفساد، لكن عملها كان انتقائيا وسياسيا ضد أشخاص محددين أو معارضين. ولا يمكن اجتثاث الفساد من المجتمع، دون أن تترسخ سيادة حقيقية للقانون. لا يمكن للفساد أن يزول، طالما أن الجهاز القضائي يعمل وفق مرسوم رئاسي. ولا تبنى الدول والمجتمعات في ظل تداخل السلطات وتدخل السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية في شئون البلاد والعباد.

كانت هذه الأفكار تدور في رأس عزيزة.

لم يتوقف رنين الهاتف، لم ترد عليه، بعد أقل من دقيقة، رن الجرس مرة ثانية، ترددت عزيزة، لكنها قررت أن ترد.

-هالو، هالو، عزيزة، قال أبو أحمد بصوته الأجش.

-هالو مين؟ ردت عزيزة بصوت غلبه النعاس.

-أنا أبو أحمد، شو مش عارفة صوتي؟ أنت بتعرفي اديش أنا بحترمك. تقاريرك ممتازة. بكرة عندك مهمة كبيرة، بعديها أنا عازمك عا العشا في مطعم دنيا.

-شو المناسبة؟

-المناسبة انت، يعني ضروري يكون في مناسبة، اعتبري الدعوة عشاء عمل- بزنس.

- عشاء عمل، اسمع يا أبا احمد، انا تعبانة ونعسانة ما بدي أسمع هادا الحكي، ممكن تأجل الكلام لبكرا

-مش ممكن، الأمر مهم، يا عزيزة، مهم جدا جدا، لا يمكن تأجيله لبكرا.

- شو صار، شو هادا الأمر المهم جدا جدا، كل يوم بتحكي نفس الكلام.

-المرة الوضع خطير..

- الله يستر، شو صار، مات الرئيس؟ آه، طبعا، مات الرئيس وفي شغل ومصاري كتير. تقرير باسم محمود أبو سنة لجريدة البيان، وتقرير باسم حسن الحامد في تلفزيون الجزيرة، وتقرير باسم عثمان زهري في تلفزيون.... وانت بتعرف مين بكتب هادي التقارير.  

-اسمعي يا عزيزة، أولا هادي اتهامات باطلة ومرفوضة، وثانيا الرئيس لسة عايش. الرئيس قوي وفي كامل الصحة والعافية، لا تشطحي بأفكارك كتير وتروحي بعيد.

-مرفوضة. والله ريحتك طلعت يا أبو احمد. وبطنك أجرب، ومش شبعان، ولا عمرك راح تشبع. أنا متأكده، إنك تتمنى أن يموت الرئيس وراح ترقص من الفرح.

- الرئيس في صحة جيدة. أصيب بوعكة صحية بسيطة، نقل على إثرها إلى المستشفى، أجريت له فحوصات طبية، وتبين أن كل شيء على ما يرام، وخرج من المستشفى بعد ساعتين وعاد لمزاولة عمله كالمعتاد.

-طيب ليش عم تتصل معي؟

- تحضيرات.

-تحضيرات؟ شو بتقصد؟

-الاعلام الأجنبي ذكر أسماء عدة اشخاص مرشحين للرئاسة. ويا ريت نهتم بهذا الموضوع..

-شو يعني نهتم بهذا الموضوع.

-يعني نكتب تقارير ونجهزها للنشر

-تقارير عن شو؟

-عن المرشحين للرئاسة.

-يعني بتقول إنك بدك تنشر تقرير عن هؤلاء المرشحين في التلفزيون الرسمي.

-لا، طبعا، مش ممكن، مستحيل.

-تحضيرات لشو؟

-تحضيرات للفترة القادمة. يعني انت بتعرفي، لما يموت الرئيس، يأتي الرئيس الجديد ويعمل تغييرات في الحكومة وفي الاذاعة والتلفزيون والمؤسسات، ويغير رؤساء الأقسام ويستبدلهم برؤساء آخرين لهم ولاء واضح للرئيس الجديد، وأنا بصراحة بدي أضمن بقائي في الشغل. وكمان انت لازم تضمني حالك.

-شو تضمن حالك وحالي، أنا مش فاهمة أي اشي؟

-اسمعي لازم تعملي تقرير عن كل مرشح للرئاسة على حدة. تقرير عن إنجازات كل واحد ونضالاته، وأي واحد بفوز، بصير الرئيس الجديد، وفي اليوم اللي بيصير فيه رئيس، بكون التقرير جاهز، ونقوم بنشره، وهيك نضمن نضل بالوظيفة. يعني نستبدل ولاءنا القديم بولاء جديد للرئيس الجديد، واضح الكلام، شو رأيك؟

لاذت عزيزة بالصمت، وهي تفكر بالمستوى المتدني الذي وصل إليه أبو أحمد، لم يمت الرئيس، ولكن أبو احمد يريد أن يلعب على كافة الحبال، وهو لن يتورع عن اصدار البيان الأول في مدح الرئيس القادم، ولعن الرئيس الحالي. وتذكرت عزيزة خطابات التزلف والمديح التي أعدها أبو احمد في يرامجه التلفزيونية في مدح الرئيس، وتعظيمه وتقديس أعماله وانجازاته، وتذكرت تقريره الأخير الذي وصف فيه الرئيس بأنه المجاهد الشجاع الذي يعارض ضم المناطق الاستراتيجية في دولة زيوناز، ويتحدى "النتن ياهو" بقطع العلاقات معه، وإلغاء الاتفاقيات، ويقوم بالاتصالات مع زعماء الدول، محولا كل الساحات إلى ميادين كفاح وجهاد، حسب تعبيره.    

ها هو يستعد أن يطعنه في الظهر قبل أن يموت. رغم أن عزيزة لم تكن متعاطفة مع الرئيس، وهي تعارض أن يبقى رئيسا لأكثر من خمسة عشر عاما، وهي تؤيد اجراء الانتخابات فورا، وتؤمن بأن الشعب هو صاحب القرار في انتخاب رئيس جديد، وليس مراكز القوى الخارجية والداخلية. وطالبت الرئيس بأن يعين نائبا له من الشباب، وأكدت في كتاباتها المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي، أن الرئيس قد تخطى الثمانين، ولم يعد قادرا على إدارة شئون الدولة، محذرة المسؤولين ورجال الدولة، بأنهم يتصرفون كما تصرف المسؤولون في الجزائر، عندما كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مريضا، وغير قادر على الاستمرار في الحكم وإدارة شئون الدولة، وتذكر عزيزة كيف أن المخابرات قد استدعتها، وهددتها بالطرد من عملها وسجنها، إذا كتبت مرة أخرى في منصات التواصل الاجتماعي.

-هالو، هالو عزيزة. وين سرحت؟ ما قلتي شو رأيك. لازم نحضر للمرحلة القادمة.

-أي مرحلة؟ رددت عزيزة بصورة آلية.

-اسمعي لازم نخاف على شغلنا ومناصبنا.

-آه مناصبنا، خاف على منصبك متل ما بدك، أنا مش خايفة، قالت عزيزة.

-إذا انت مش خايفة، ساعديني. وكل اشي بحسابه، اعملي تقرير عن كل مرشح، يعني بدنا ثلاثة أو أربع تقارير. وانا بخلي الموضوع سر بيني وبينك. يعني الرئيس مش مطول، الله يطول بعمره.

-انا مش فاهمه، ليش تفترض أنو فلان اللي موجود في دولة الامارات راح يكون الرئيس القادم، وليش يكون رئيس المخابرات هو الرئيس القادم؟ وليش مسؤول الرياضة بدو يرشح نفسه للرئاسة؟ يمكن الشعب بدو رئيس ثاني، رئيس من الشعب ويخدم الشعب، مهمة الشعب أن ينتخب رئيسا جديدا، كل أربع سنوات، حسب القانون الأساسي.  

-انت بتعرفي انو الشعب لا يهش ولا ينش، والشعب مهمته فقط يصفق ويسحج للرئيس الجديد والرئيس لازم ترضى عنو مراكز القوى الخارجية والداخلية. هيك هي المعادلة دائما.

-  يعني المعادلة مؤامرة، والشعب راح يضل تحت بساطير مراكز القوى، انا مش متآمرة، ولن أشترك في أي مؤامرة. وانا مش مهتمة بمراكز القوى. وكل هادول الأشخاص المسيرين بـ "الرموت كنترول" من مراكز القوى هم أعداء الشعب. احنا لازم نطلع من هادي الدوامة. بكفي أكثر من ربع قرن من الفشل السياسي والاقتصادي والإداري والأمني. أكثر من ربع قرن، والبلد في تراجع، والاستيطان مستمر، والجدار العازل قسم البلد إلى كانتونات، والبطالة تتفاقم، والحصار يشتد، والفساد في تزايد والانقسام يكبر ويتعزز. بكفي يا أبو احمد تصفيق ومسح جوخ. بكفي اهتمام بالمصالح الذاتية، انت ورئيسك وجماعتك خربتو البلد. أنا ما بدي اضل شاهدة زور. اعتبرني مستقيلة من اللحظة هادي. ارجوك لا تتصل معي مرة ثانية.

- شكرا على الخطاب الحماسي، اسمعي يا عزيزة، على مهلك. بيقول المثل: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وانت عارفة شو اللي بصير في البلد. أنت عارفه انو.... أغلقت عزيزة خط الهاتف، حاول أبو أحمد أن يتصل بها، مرات عديدة، لكنها لم ترد، أطفأت النور وأوت إلى فراشها.