• 26 تموز 2022
  • حارات مقدسية

 

بقلم :  الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

حكايتنا اليوم إحدى الصفحات المقدسية نتلوها لمن يعشق مدينتنا العتيقة نسترجع فيها الذكرى ولعل الذكرى تنفع المتذكرون 

صفحة جديدة من التاريخ تقودنا إلى حكاية «حارة الحوش» وهي حكاية مليئة بالأحداث والتفاصيل والشخصيات التاريخية التي تضيف معلومات تاريخية وحديثنا عنها اليوم

تتوارى خلف كل جدار ثمة حكايات بعضها يدمى القلب وبعضها ينطق بالهناء والسرور، أبطالها رحلوا ولكن تبقى الحكايات دائما وأبدا تنبض ببريق الحياة وإن مازجها عبق التاريخ. وفى الحارات المقدسية نلمح سحر هذه الحكايات التي لا تنضب ويتناقلها ساكنوها جيلا بعد جيل ومنها   أحواش حارتنا 

نجول في أحواش البلدة العتيقة نقرأ على الجُدر أقواسها قبابها تاريخها العريق مسطوراً بلغةٍ   لا يفقهها إلا أهلها توارثناها كابراً عن كابر نتنسم عبقها يفوح شذاها في كل زاوية نهتدي في أزقتها فقد عرفناها كما عرفنا باسط أكفنا لا تخفى علينا ولو أسدل الليل ستائره بألوانه السوداءِ المخملية ويأتي القمر ليضيء الكون بنوره وتسطع النجوم لتزيين سماء  القدس وتكمل جمالية الصورة بالقبة الذهبية الشامخةً التي تعتلي أجمل الزخارف الزرقاء في المسجد الأقصى المبارك تُعلن للملأ قُدسيتها وتروي حكاية المعراج بوابة السماء ... 

الحوش" الذي هو عبارة عن مجمع سكني مملوكي يضم عدة عائلات 

تميزت بنمط معماري مميز، بحيث كانت تسمى القصور، ولا يزال عدد منها قائمًا، وحملت أسماء عائلات مقدسية مثل  الشهابي ، و الدنف  و الحلو  والكركي و  الخطيب   والزرو  والخواجا  والباسطي  وقطينة و  الوعري   ونسيبة   والامام والددو  والخالدي   والعدس  والكرمي  

و الطر عاني والزاغة   ... تنوف الأحواش في مدينتنا على أربعين ونيف حوش ولكل حوش حكاية وقصة 

كما كانت تتميز بالأقواس والقباب والممرات الطويلة. حازت على اهتمام الأيوبيين بعد الفتح الصلاحي حيث حاولوا بطريقة جادة بدءًا من صلاح الدين الأيوبي وانتهاءً بآخر ملوك الأيوبيين، لأسلمة المدينة ووضع كل المباني الأثرية الإسلامية التي تعود إلى الفترة الأيوبية.

 اكتملت المسيرة في الفترة المملوكية ببناء الكثير من المباني، سواءً التكايا أو الزوايا أو المساجد أو الخوانق، بالإضافة إلى كل هذه المباني، وضعت الوجه الروحاني الإسلامي لهذه المدينة المقدسة بكامل اطيافها وألوانها 

تميزت معظم الأحواش بنمط معماري واحد يبدأ بمدخل ضيق منخفض تعلوه قوس صغيرة ذات مدخل بسيط جدًّا أو مدخل أوسع بقليل.. يستمر بزاروبه تؤدي إلى صحن الحوش الذي كان عادة يحتوي على نافورة مياه تسمى "البحرة"، لذلك كانت تسمى "أرض البحرة"، ثم تنقسم البيوت إلى طبقتين، الأولى لمتوسطي الحال، والعليا تسمى القصور في ذلك الوقت لأصحاب الوقف القائم على الحوش وعُمارها، وهم الملاك وأصحاب الأراضي والأموال.

نجد البيوت الفارهة ذات الطوابق المتعددة من ضمنها البيوت التي تعود لعائلات مقدسية "، والكثير من العائلات الأخرى التي سكنت القدس   مدينة تتسم بالطابع الروحي    معظمها إما عائلات من أصل مقدسي مثل "الفتياني" و"الشعباني"، و"قطينة"، و"الخالدي"، و"نسيبة"، و"الخطيب"، وغيرهم من العائلات، أو عائلات جاءت إلى المدينة من مدن أخرى مثل الخليل ونابلس لتصبح المدينة بأحواش ذات طابع عائلي أو مهني، وتأخذ الشكل الذي أصبحت عليه اليوم".

الحوش" فهو مظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي في البلدة القديمة، وهو المساحة الصغيرة التي تربط بين بيوت المدينة المتلاصقة، العائلات المقدسية التي تسكن في الحوش تتكافل الحياة فيما بينها كما تتعانق بيوتها وتواصلها كالعائلة الواحدة أفراحها وأتراحها صلة أرحامها صغيرها يوقر كبيرها وكبيرها يرحم صغيرها في "الحوش". 

عادات وتقاليد سادت وربما زالت في غُربة الزمن السحيق فما عادت تلك البيوت برونقها  وجماليتها  ونوافذها  التي يتخللها  ضوء الشمس وتُخفي  ما بداخلها  تحفظ الجوار تربط بين ساكنيه أواصر وروابط، وصلات ووشائج، فهناك رابطة القرابة، ورابطة النسب والمصاهرة، وهناك رابطة الصداقة والزمالة، وهناك رابطة الجوار، وغيرها من الوشائج والعلائق، وعلى هذه الروابط تقوم الأمم وبها تتكون الممالك والدول، ومتى ما قامت هذه الروابط على أساس من الدين، استمر بقاؤها وزاد نماؤها، وصارت تلك الأمة التي شِيد بنيانها عليها منيعةَ الجانب، عزيزة المكانة، مهيبة القدر.تلك أحواش  قُدسنا فيها ترعرعنا وتربينا  وحفظنا  حُسن جوارنا 

الحديث الشريف عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مِثْل شطن فرسه من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس خيراً له من الدنيا جميعاً ".
في الصورة المقابلة لم نألفها يمكن اعتباره (جحيم الجيرة) 

جال الغريب في حينا عبثاً لعله يُحدث أثراً يُخلد فيه ذِكراً أو يُوهم فِكراً

قف أيها الغريب فحجارة مدينتي تأبى الزيف  

أَترُكُهُم كلّهم يثرثرون على معابر الزمان..

اُسدِل ستارتي على الفصل ما قبل الأخير من مسرحيّة العبث في وطنٍ حزين ينتظر الفرج العاجل القريب حينما تخلى عنه الأخرون وتلفحوا ثوب الْخِزْي والعار ويثار لرجولتهم المنتهكة!!!

إِنْ هِىَ إِلَّآ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَى

صورة قطعان المستوطنين يعربدون في أزقة القدس القديمة، ومحلاتها مغلقة، وأهلها خلف نوافذ وأبواب مغلقة وتنتهك بيوتهم

في ثقافتنا وموروثنا، أن الجار هو مَن جاورك، سواءٌ أكان مسلماً أم غير مسلم، وأما حد الجوار فقد تعددت أقوال أهل العلم في بيانه، ولعل الأقرب أن ما تعارف عليه الناس أنه يدخل في حدود الجوار فهو الجار. والجيران يتفاوتون من حيث مراتبهم، فهناك الجار المسلم ذو الرحم، وهناك الجار المسلم، والجار غير المسلم ذو الرحم، والجار غير المسلم الذي ليس برحم، وهؤلاء جميعاً يشتركون في كثير من الحقوق ويختص بعضهم بمزيد منها بحسب حاله ورتبته.

فمنذ عام 1967 شهدت القدس تغييرا قصريا بضم المدينة من قبل سلطة الإحتلال   من طرف واحد ودون اعتراف من أية دولة وعلى النقيض من القرارات الدولية، واتبعته بسلسلة من الأعمال والمشاريع في منطقة حارة اليهود، وعملت على توسعة الحارة التقليدية الصغيرة على حساب الحارات الإسلامية المجاورة لها، وتبع ذلك سلسلة متلاحقة من الحفريات غير الشرعية، والمشاريع العمرانية الثقافية التي تهدف الى تهميش وطمس التراث العربي والإسلامي في المدينة.
والواقع أن سياسة طمس وتهميش التراث العربي الإسلامي، والتركيز على مشاريع ثقافية من متاحف ومراكز جماهيرية وحفريات وأنفاق ذات ميزانيات هائلة، وغياب رد الفعل الفلسطيني والعربي والإسلامي البنّاء ليزيد في سلب ماضي القدس وحاضرها ومستقبلها ويعمل على إحلال بديل حديث عنه.
رغم التغييرات القهرية وبعض السلبيات التي تحيط بالمدينة، فإن الزائر للمدينة المقدسة سيجد فيها التاريخ العربي والإسلامي والعمارة والمؤسسات الدينية والأسواق والمعالم المختلفة من قباب ومآذن وكنائس ومتاحف، وأن القدس كانت وما زالت وستبقى عربية الى أن يرث الله الأرض ومن عليها...
في حوشي الشوايات وقناطر خضير في بلدة القدس القديمة، تبدو منازل المقدسيين هناك آيلة للسقوط، ويُمنع أصحابها الفلسطينيون من ترميمها بسب إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسمح في المقابل للمستوطنين بترميم منازل استولوا عليها بالقوة واتخذوها بؤراً استيطانية، ليظهر جلياً حجم معاناة الأهالي في الحوشين بتصدع منازلهم نتيجة الحفريات الإسرائيلية وشح إمكانية الترميم.

حوش الشوايات يحاذي حي القرمي الملاصق لعقبة الخالدية والمؤدي إلى طريق الهكاري، ومنه أيضاً إلى حي باب السلسلة حيث حوش

 النير سات، وحيث خان السلطان، وكلها أحياء وحارات مقدسية مهددة بالانهيار، إما بسبب الحفريات الإسرائيلية أو بسبب انعدام الترميم اللازم الناتج عن شح الموارد المالية، وإن توافرت في يوم، فإن سلطات الاحتلال تمنع المقدسيين من الترميم، بينما تمنح التراخيص اللازمة للمستوطنين الذين يحتلون نحو مائة من عقارات المقدسيين في ذات الأحياء التي يقطنها المقدسيون

حوش النير سات" هو واحد من أحواش القدس القديمة وسط حي السلسلة المفضي إلى المسجد الأقصى من الناحية الغربية. وعلى الرغم من هذا الخطر المحدق بالحوش، فإن سلطات الاحتلال لا تحرك ساكناً لمنع مزيد من الضرر، وتعويض العائلات عما لحق بها من أضرار، بعدما أرغمت العديد منها على إخلاء مساكنها بحجة أن البناء خطر وآيل   للسقوط، أما من تبقّى من عائلات، فو جهوا نداء استغاثة طالبوا من خلال بلدية الاحتلال في القدس، بضرورة التدخل العاجل لمنع انهيار مساكن الحوش على قاطنيها، بعدما اتسعت التصدعات والتشققات فيها أخيراً، علماً أن 20 عائلة تقطن الحوش  

أحوش حارة باب حطة 

حارة باب حطة تتكون من أحواش تضم بيوتا تسكنها عائلات ممتدة تتكون من غرف وإيوان تتوزع على طابقين يعيشون متمسكين بالعادات والتقاليد الفلسطينية العريقة   التي تنبعث منها رائحة اكلات النساء المتشابهة من المحشي والمقلوبة وورق الدوالي والملوخية   كان أكثر سكان هذه الحارة من” الخلايلة “أي أهل الخليل، حيث سكنوها بعد أن عملوا في التجارة وافتتحوا أكثر من محل لتجارة الاقمشة والمني فاتورة، التي كانوا يستوردونها من الشام قبل الاحتلال. وكما هو معروف عن أهل الخليل أنهم زرعوا الصخر لينبت كروم الدوالي والعنب الخليلي من الأسود والأحمر والاخضر، ليصنعوا منه الشراب و “العنطسبيخ “أي العنب المطبوخ الذي صنعوا منه الملبن المشهورين به المطعم بحب قريش  

 

  حوش مراغة  

تنتهي السلالم الطويلة ويقف الزائر في شارع ضيق مستو يطل على المسجد الأقصى، لا أثر للافتات التي كان يثبتها الاحتلال في شوارع الحي سوى بضع لافتات في أول طريق الحي حملت اسم "حوش مراغة"، ليتبين أن الاحتلال أزال هذه اللافتات تمهيدا لتثبيت لافتات جديدة تحمل أسماء حاخامات يهود.

وقبل أن نغادر الحارة لا ننسى صاحب المثل الشهير (اركب الحمارة واقض العبارة) وهو الشيخ أحمد الدردير نصير الحق والساعي فى قضاء حوائج الناس مستخدما حماره ذهابا وإيابا وكان الأمراء يخشونه ويلبون له ما قصد حتى اعتبره الناس من أولياء الله الصالحين وله مسجده الشهير بهذه المنطقة.

مدينة القدس التي تعاقب على زيارتها وسكناها الأنبياء والرسل  والصحابة والتابعون ، وقادة الشعوب والأمم ، ومهوى أفئدة الملايين من شعوب الأرض ، كانت لا بد أن تحظى بكل هذا الاهتمام. كيف لا والقدس هي بؤرة الصراع الدولي منذ أقدم العصور؟ أليست القدس لب الصراع العقدي بين أتباع الأديان الثلاثة؟! أليست القدس أرض الرباط، والقبلة الأولى وأرض الإسراء والمعراج؟

أليست القدس في إنسانها ، وأقصاها ، وأرضها ، وسمائها ، وكل ذرة من ترابها مصدر إلهام للعرب والمسلمين يتعلمون منها الصمود رغم حملات الاقتلاع والتهويد؟!.

ولأن القدس تبقى والغزاة يرحلون .. كان واجبا على أهل القدس خاصة ، وفلسطين عامة المحافظة على تراثها وكتابة تاريخها ، وأن يحفروا صورة الأقصى في وجدان كل طفل عربي مسلم ، وأن يعلموا أبناءهم حب القدس والخليل كما يعلمونهم السورة من القرآن.