• 12 شباط 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : د. وليد سالم

 

ترتب عن إتفاقيات أوسلو الاولى ( ١٩٩٣) والثانية ( ١٩٩٥) تعقيدات لا حصر لها للفلسطينيين المقدسيين المقيمين تحت حكم الاحتلال الاسرائيلي الكامل في المنطقة التي تسمى قدس ١،  وذلك خلال المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي بحل نهائي يشملهم عام ١٩٩٩، وزادت هذه التعقيدات  تفاقما على تفاقم مع عدم تحقق هذا الحل النهائي حينذاك وبالتالي تمديد المرحلة الانتقالية حتى اليوم رغم تواتر عدد من الجولات التفاوضية حول ما أطلق عليه إسم " الحل الدائم " ، حيث فشلت هذه الجولات جميعا.

خلال هذه الثماني وعشرين سنة التي انقضت منذ نص اتفاق أوسلو على تأجيل بحث قضية القدس إلى المفاوضات النهائية ، ترتب عن هذا التأجيل حالة مستحكمة في القدس الشرقية حيث وصلت عملية تهويد الأرض  وفرض المؤسسات الاسرائيلية على المدينة وطرد المؤسسات الوطنية منها إلى مرحلة غير مسبوقة ، واشتملت صفقة القرن على إختراع اماكن توراتية لم تكن قائمة أصلا في القدس ابد الدهر  كما بين ذلك تقرير صادر عن مؤسسة عيمق شافيه الاسرائيلية ، وتجري محاولات لتقسيم الحرم الشريف بادعاء إبراهيميته وبالتالي أهميته للأديان السماوية الثلاث. هذا فيما تستشري عمليات تغيير المكان والأرض  والفضاء والمشهد في كافة أرجاء المدينة ، ويجري التخطيط للانتقال من مشروع " القدس الموحدة" إلى مشروع " القدس الكبرى " الممتدة شمالا إلى منتصف الطريق نحو نابلس وجنوبا حتى مشارف مدينة الخليل ، وشرقا حتى البحر الميت.

يغطي الاحتلال هذا التوسع الاستيطاني الاستعماري المحموم، بهدايا مسمومة مثل التأمين الصحي والتأمين الوطني ، وكذلك دعوة الفلسطينيين المقدسيين للمشاركة في الانتخابات البلدية الاسرائيلية بعدما حل البلدية الفلسطينية للمدينة بعد أيام من إحتلال عام ١٩٦٧، وهي دعوة لم تلق صدى لدى المقدسيين حيث لا يشارك منهم في انتخابات بلدية إلا نسبة ضئيلة منهم تتراوح بين ١ و ٣ بالمئة . ومن جهة أخرى منع الاحتلال شمول القدس في الانتخابات البلدية الفلسطينية بعدما حل بلدية القدس الفلسطينية ( أمانة القدس ) عام ١٩٦٧.

فيما يخص الانتخابات التشريعية والرئاسية فقد أصر الاحتلال  على أن تجري في قدس ١ الخاضعة بشكل كامل للاحتلال في  مكاتب البريد التابعة للبريد الإسرائيلي فقط ، وترسل منها بمظاريف بريد لا تحمل أي شارة أو رمز فلسطيني ، وأن يكون عدد المصوتين بما لا يزيد عن القدرة الاستيعابية لمكاتب البريد الخمس التي تم تحديدها لانتخابات عام ١٩٩٦ وتم زيادتها إلى ستة مكاتب بريدية عام ٢٠٠٦. بناءا على هذه التقييدات صوت ٥٣٢٧ مقدسي فقط  في مكاتب البريد للانتخابات التشريعية والرئاسية عام ١٩٩٦، وصوت ٦٣٠٠ منهم في الانتخابات التشريعية عام ٢٠٠٦ حسب إحصاءات لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية. فيما صوت مئات آخرون  فقط من مقدسيي قدس ١ في مراكز الاقتراع الفلسطينية في قدس ٢.  وخلال الانتخابات سيجت مكاتب البريد في قدس ١ بحواجز شرطية اسرائيلية على كل مداخلها وحولت إلى ثكنات عسكرية ، كما سرت شائعات كثيفة مفادها أنه سيتم سحب الهوية المقدسية من كل من يشارك من المقدسيين في الانتخابات الفلسطينية. لم يخف المقدسيون من هذه الإجراءات،  بقدر ما أغاظهم حجم الاهانة التي نجمت عن هذه الترتيبات لهم ،وهو ما نجم عنه ضعف إقبال مقدسيي قدس ١ على  التصويت في الصناديق الفلسطينية في قدس ٢.

لم تكن هذه الصيغة لمشاركة المقدسيين في الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية مهينة وحسب ، ولكنها انطوت على أبعاد أوسع جعلت المقدسيين يستنكفون أكثر عن المشاركة بها بكثافة ،ولعل أهم هذه الأبعاد يتعلق بما يمثله المجلس التشريعي للمقدسيين في ضوء كون هذا المجلس هو الهيئة التي تشرع وتراقب عمل وتسائل سلطة وطنية فلسطينية انتقالية لحكم ذاتي وممنوعة من قبل إسرائيل ووفق الاتفاقيات أن يكون لها دور بينهم . فبعد اتفاق أوسلو ١ لعام ١٩٩٣، وأوسلو ٢ لعام ١٩٩٥ أصدرت إسرائيل قانونين حملا نفس الاسم وهو " قانون تطبيق الاتفاقية المرحلية بشأن الضفة وغزة" ، واشتمل القانونان على قيود تمنع عمل السلطة الوطنية الفلسطينية في القدس ، فيما سمح لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بالاستمرار في العمل في المدينة ، وذلك حتى عام ٢٠٠١ حين تم أغلاق مؤسسة م ت ف الرئيسة في القدس وهي بيت الشرق، كما تم اغلاق ١٣ مؤسسة أخرى كانت تتبع م ت ف في المدينة.

في ضوء هذه الحيثيات أثيرت أسئلة مقدسية مختلطة  في ضوء الإعداد لانتخابات فلسطينية جديدة ، ومن هذه الاسئلة : ماذا قدم أعضاء المجلس التشريعي في الدورات السابقة للقدس؟ هل ستسمح إسرائيل لأعضاء المجلس التشريعي والسلطة بالعمل في القدس ؟  وماذا تقدم السلطة الوطنية الفلسطينية للمدينة ؟ وبناءا عليه هل هو مجد أن يشارك المقدسيون في الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام ٢٠٢١؟.

فيما يتعلق بالمجلس التشريعي ، فإن نظامه الداخلي ينص على أنه يقوم بسن القوانين ، ومنح الثقة للحكومة وحجب الثقة عنها ، ومساءلتها ، وإقرار خططها وموازناتها العامة ، وإضافة لذلك يتضمن النظام الداخلي للمجلس التشريعي ( المواد ١٠٠- ١٠٤) قيام المجلس التشريعي بتلقي شكاوى المواطنين أفرادا وجماعات وبحثها ضمن لجانه ومتابعتها مع الحكومة .

فيما يخص أعضاء القدس في المجلس التشريعي الأول ، فقد قاموا ومعهم بقية أعضاء المجلس التشريعي بسن " قانون القدس العاصمة " ( قانون رقم ٤ لعام ٢٠٠٢) والذي لم ينص على اعتبار القدس عاصمة لفلسطين فقط ، ولكنه نص أيضا على اعتبار القدس منطقة تطوير أ، وتخصص لها الموازنات اللازمة بهذا الاتجاه. كما كان المجلس التشريعي قد ناقش " قانون أمانة القدس العاصمة " بالقراءات الثلاث ورفعه للرئيس عرفات عام ٢٠٠٤ حيث قرر الرئيس عرفات تأجيل إصدار القانون " لأسباب سياسية " كما كتب بخط يده على نص القانون. عوضا عن ذلك كان لبعض أعضاء التشريعي الأول مكاتب في القدس كانوا يلتقون المواطنين فيها ويتلقون شكاواهم ويتفاعلون معهم ، وبقيت هذه المكاتب قائمة إلى أن أغلقها الاحتلال . أما المجلس التشريعي الثاني الذي انتخب عام ٢٠٠٦ فقد كان حظه أقل من المجلس الأول من حيث إقرار قوانين تخص القدس، فقد قام الاحتلال باعتقال أعضاء حماس في هذا المجلس وسحب هوياتهم المقدسية في وقت لاحق ، كما أن الانقسام الفلسطيني الذي حصل عام ٢٠٠٧ قد ترتب عنه شل عمل المجلس التشريعي وعدم تمكينه من القيام بعمله سواء تجاه القدس أو غيرها من المحافظات. وترتب عن هذا الشلل إعادة قضايا القدس إلى  م ت ف ، حيث قرر الرئيس محمود عباس تعيين أمانة للقدس عام ٢٠١٢( وكانت أمانة سابقة قد عينت من الرئيس ياسر عرفات عام ١٩٩٨)، كما قرر المجلسان الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام ٢٠١٨ " إعادة إنتخاب وفرز أمانة القدس وفق أفضل صيغة ديمقراطية وتمثيلية " وهو قرار لا زال ينتظر التطبيق على الواقع 

فيما يتعلق بالسلطة الوطنية فهي تصرف موازنات في القدس لا يعلن عنها كلها خشية من إجراءات احتلالية تطال المشاريع والبرامج التي يتم دعمها ، وفي عهد حكومات  سلام فياض بين ٢٠٠٧- ٢٠١٣ صار يعلن عن بعض هذه المشاريع في التقارير الربعية للحكومة ، ومع دخول الموازنة الفلسطينية مرحلة الازمة في السنوات التالية صار دعم السلطة الوطنية للقدس مرتبطا بتوفر الأرصدة والأموال . لا يعني ذلك أن كل شيء على ما يرام وأنه لا تحصل تقصيرات مالية تجاه القدس وهو أمر يحتاج إلى مقال مستقل حول أوجه التقصير القائمة .

إذن لم يقم أعضاء التشريعي بدورتيه ولا السلطة بمسؤولياتهما كاملة تجاه القدس سواء لقصورات ذاتية أو نتاجا في الأغلب عن ممارسات الاحتلال المترتبة عن الاتفاقات المعقودة والتي تمنع أفعال وانشطة السلطة في القدس طالما لا يوجد حل نهائي يشملها.

مع الانتخابات الفلسطينية لعام ٢٠٢١ من المتوقع لهذه التعقيدات أن تزيد تفاقما ، سيما بعد صفقة القرن ونقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس ، وقبول دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين الدخول إلى القدس عبر البوابة الإسرائيلية .  في ظل ذلك كله فإنه من غير المعروف بعد إذا ما كانت إسرائيل ستقبل بعقد للانتخابات التشريعية داخل القدس، والأكثر تعقيدا هو انتخابات الرئاسة الفلسطينية التي نص المرسوم الرئاسي للانتخابات على أنها إنتخابات لرئاسة دولة فلسطين وهو الأمر الذي قد لا تقبل به إسرائيل لأنه لم يتفق على إقامة دولة فلسطين عبر المفاوضات بعد . بمعنى آخر قد لا تقبل إسرائيل وحكومتها اليمينية  بعقد انتخابات تشريعية في القدس وفق صيغة أوسلو لتمديد فترة الحكم الذاتي في الضفة مع تأجيل موضوع القدس تفاوضيا ، ولكنها أكثر قد ترفض إجراء انتخابات بعد ذلك لرئاسة دولة فلسطين حيث لم يتفق على تلك الدولة في المفاوضات .

في إطار ذلك يجدر التساؤل حول أية إنتخابات مناسبة للقدس ؟ . في ضوء الاسئلة المقدسية أعلاه لا تبدو إنتخابات تشريعية لتمديد فترة الحكم الذاتي مناسبة للمقدسيين سيما وأنهم غير مشمولين في منطقة الحكم الذاتي المتفق عليها في أوسلو ١ و٢، وبالتالي فإن السلطة ممنوعة من العمل بينهم ومعهم ، كما أن صيغة كهذه ستكون مهينة لهم إذا ما وافقت عليها إسرائيل وحكومتها اليمينية وهو أمر مستبعد ، إذ أنها ستوجه قسما محدودا منهم للتصويت في مكاتب البريد داخل مدينتهم ، فيما يكون على الغالبية من المقدسيين السفر للتصويت في مناطق الضفة الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية في المناطق المسماة ب " قدس ٢".

من جهة أخرى فإن الصيغة الأمثل للمقدسيين في ظل عدم إمكانية تحقيق تطلعاتهم الوطنية في إطار انتخابات لتمديد  الحكم الذاتي المفروض إسرائيليا، هو مشاركتهم مباشرة في الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الذي يجسد تطلعاتهم الوطنية تلك ، كونه يمثل الشعب الفلسطيني بأسره في كافة أماكن تواجده . تقف أمام هذه الصيغة عقبة وهي النظام الانتخابي الفلسطيني الذي يتضمن أن أعضاء التشريعي بمن فيهم المقدسيون يلتحقون بالمجلس الوطني الفلسطيني تلقائيا بمجرد انتخابهم للمجلس التشريعي. وإذا كان لا مناص من ذلك فهل من فرصة لجعل الانتخابات التشريعية  في القدس محطة لمعركة شاملة مع الاحتلال على طريق التحرر الوطني  تتضمن آليات لعقدها  في القدس رغم رفضه  على طريق تمثيل المقدسيين في المجلس التشريعي  والأهم  في المجلس الوطني الذي ينضم إليه أعضاء المجلس التشريعي وذلك لتحقيق تطلعاتهم الوطنية التي يمثلها المجلس الوطني الفلسطيني ؟ . ينطبق الأمر ذاته على شمولية القدس في الانتخابات البلدية الفلسطينية حيث لم تعقد فيها منذ عام ١٩٦٧ ، وآن الأوان لعقدها هي والانتخابات التشريعية والرئاسية في القدس ضمن آلية مواجهة مع الاحتلال وبالتعاون مع مؤسسات الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية الموجودة في القدس الشرقية ، وذلك من أجل تحقيق الترابط بين القدس وبقية المحافظات الفلسطينية.

 

* دكتوراه في فلسفة العلاقات الدولية - أستاذ مساعد في جامعة القدس ومدير تحرير مجلة المقدسية الصادرة عن الجامعة