• 5 حزيران 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم :  محمد عبد الحكم دياب

مع بداية شهر حزيران- يونيو سنويا تبدأ جحافل معادية للتغيير والتحرير في حملات شيطنة للتاريخ الوطني المعاصر، ورموزه وإنجازاته، وهي على هذا المنوال طوال نصف القرن الماضي دون كلل، وانتهى بها المطاف إلى حمل الرايات الصهيونية العنصرية، والارتماء تحت أقدام مريقي الدماء ومزهقي الأرواح، وكانت لـ«الهبة المقدسية» تأثيرات عصا موسى، وهي تلتهم حِبَال السحرة التي بدت أمامهم «حيَّات تسعى» لترهيب المؤمنين، ولتُخِيف القابضين على جمر المبادئ، ويدور التاريخ دورته ليُعِيد من ضلَّ لرشده، ويُصحح من انحرف عن جادة الصواب، ويُعدل ما اعوج من أوضاع اختلت، ويكشف رعاتهم ومحركيهم، ومع اختلال الموازين، وغياب زمن المد الوطني من نصف قرن أو يزيد؛ صال هؤلاء وجالوا، وانتهى بهم الأمر إلى اللحاق بركب الصهينة والتطبيع.
وأحدثت الهبة المقدسية تطورات كبيرت ونوعية؛ في الأداء وفي القدرات القتالية، والإمكانيات الصاروخية، وفي بسالة شباب المقاومة، وكان لهذه التطورات تأثير بالغ في الرأي العام، وفي شد المواطنين؛ بتعدد وتنوع طبقاتهم وفئاتهم العمرية وتفاوت مستوياتهم الاجتماعية والمعيشية، وارتقى أداء المقاومة، وأعادت الاعتبار للقضية لفلسطينية، وكانت تلك الجحافل قد تصورت أنها شُيّعتها وأهالت عليها التراب، ودبت الحركة بين أنصار فلسطين ومؤيديها؛ من عرب وعجم، وعاد الوعي بها إلى دوائر وأوساط واسعة في أنحاء العالم، إلا أن الشارع المصري ظل على حاله؛ محاصرا وممنوعا من التعبير عن مشاعره الوطنية والأخوية، وكانت الهبة المقدسية قد قفزت قفزة نوعية للأمام؛ أعاقت المشروع الصهيوني، الذي اعتاد التمدد والتوسع والإبادة ولم يجد من يلجمه!!.
وتمكنت المقاومة الفلسطينية بإمكانيات محدودة؛ من بناء وامتلاك ترسانة صاروخية زلزلت الأرض تحت أقدام الاستيطان، ونظام الفصل العنصري، وشلت قدرته التي إعتادها على الرد والردع، وذلك على الرغم من الحصار الجائر على غزة، وتحولها لسجن كبير، وذلك إلى جانب وحشية المستوطنين وهمجيتهم ولصوصيتهم، وهذه فرصة سانحة لمن يعتزم التكفير عن أفعاله وخطاياه؛ في حق الأطفال والنساء وكبار السن والعجزة، او المحرومين من حق الحياة الكريمة، وعلى نفس الغرار مُنِع الشباب المصري من حق التعبير عن موقفه، ورغبته في مشاركة الفلسطينيين هبتهم، وهم من خرجوا على قلب رجل واحد لنجدة المسجد الأقصى ونصرته، وإغاثة أهل المدينة المقدسة من تنكيل مستوطنين مدعومين من قوى الأمن والشرطة الصهيونية، وكم روعوا الأطفال والنساء، وهن ينتزعن من منازلهن للاستيلاء عليها وإخراجهن منها بقوتهم الغاشمة والسحل غير الإنساني!!.
والتكفير عن كل ما أُقتُرف في حق أولئك الصامدين الأبطال واجب، ويبدأ بعدم تكرار خطايا أنور السادات، والتعامل بروح الهزيمة ونفسية المهزوم؛ بعد إنتصار عسكري كبير، وتضحيات كبرى من جيوش مصر وسوريا، ودعم ومشاركة الأشقاء الجزائريين والليبيين والعراقيين والأردنيين والسودانيين، وغيرهم؛ وأوكلت للمقاومة الفلسطينية مهمة إشغال العدو، فنصبت له الكمائن، وزرعت على مساراته الألغام، وشنت على قواته ومحركاته الغارات. وكانت مشاركات جادة؛ انتهت بالانتصار العسكري.
وفور أن سكتت مدافع حرب 1973، وقيام القوات النظامية بواجبها؛ شاركت كتائب المقاومة الفلسطينية في المعارك، وأدت تكليفاتها وواجبها على أكمل وجه، ونجح عبور قناة السويس وتحقق النصر العسكري، وللأسف أجهض على يد أنور السادات وليس غيره؛ كان منبهرا بـ«صديقه هنري» كيسنجر، ومن الخطر تكرار ذلك، فدوائر «الصداقات الخبيثة»؛ اتسعت وامتدت من تل أبيب مرورا بالعواصم الأوروبية؛ وصولا لواشنطن، وكان «المشير» بالنسبة لترامب «ديكتاتوره المفضل»، ويسير بايدن على نفس خطاه، ويواصل اقتراف نفس الخطايا، ويعمل هذه المرة على إجهاض «توازن الردع» الذي أنجزته الهبة المقدسية للمرة الأولى، ولا يجب أن تتاح الفرصة لتكرار التاريخ لنفسه، وتزكية الهزائم السياسية بالخداع، وتصويرها بأنها النصر المبين!!. 

وعلى معشر الكتاب والمحللين والصحافيين والمفكرين ورجال الأحزاب الوطنية والتنظيمات والجماعات السياسية الوحدوية؛ أن يشمروا عن سواعدهم، ويأخذوا على عاتقهم تشخيص المرحلة، وما جرى من تحولات، وتحديد مجالاتها ودوائرها، والتركيز على ما يعزز الثقة بالمقاومة، وفتح مجالات وأفاق الحركة والاستمرار أمامها، والاستعداد الدائم لجولات متوقعة ومفاجئة، وعدم الاندفاع مع الضغط المحموم لفرض التهدئة قسرا، والعدو في حاجة ماسة إليها لجمع شتاته والتقاط أنفاسه، وكي يتمكن من استئناف الكرَّة مرات ومرات، العدو المراوغ والعنصري والدموي؛ لا يتورع عن الإقدام على فعل كل ما هو مدمر، والحرص يقتضي مراجعة دروس التاريخ وعبره، وكلها تؤكد «ما أُخِذ بالقوة لا يُسْترد بغير القوة» مع وجوب التفرقة بين التهدئة والتراجع، وبين الاعتملد على ما تسفر عنه المفاوضات العبثية أو المبادرات العقيمة، والتحلي باليقظة كاملة، ورفض القبول بتهدئة تكرس الاحتلال بأي صورة، وضرورة إزاحة الاستيطان، وإجلاء المستوطنين أينما وجدوا.
كانت النية مبيتة لاستشراف ما يمكن أن يتمخض عن اجتماع الفصائل الفلسطينية في القاهرة، والمقرر انعقاده خلال ساعات، لاتخاذ إجراءات وخطوات وُصِفت باللازمة؛ لإنهاء الانقسام، ووضع مسارات جديدة من المفترض أن تكون خلاقة في تناول المستجدات؛ ملفات وقف إطلاق النار والهدنة، التي قد يراد لها «أن تعيد ريمة لعادتها القديمة» وتجميد الوضع الحالي، ولا تتجاوزه، فيعود الخلل السابق في موازين القوة، وإرجاع الوضع لحالة ما قبل الهبة المقدسية.
ويجب التدقيق في أسباب فشل المصالحة الوطنية، فهي من ضرورات التحرير الذي لاح في الأفق، وضرورية لتهيئة الدخول المباشر إلى الحل العاجل والعادل للقضية الفلسطينية، والقضايا ذات الصلة؛ وضع مدينة القدس، وعودة الضفة الغربية، ومرتفعات الجولان، وحسم تبعية مزارع شبعا، ووضع جدول زمنى لهدم المستوطنات وإجلاء المستوطنين، واتمام الاستقلال، وتأكيد حق العودة، وحسم التعويضات، ووضع جدول زمني لإجراءات إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.. وقبل ذلك وبعده حسم الموقف من إشراك المقاومة في المفاوضات حاليا ومستقبلا، وتكون طرفا في دراسة الملفات الهامة والمصيرية، وتأكيد دورها كحركة تحرر وطني لبلد محتل؛ له الحق في تقرير مصيره ومستقبله بنفسه.
ونقول لأصدقاء واشنطن وتل أبيب والرياض والقاهرة: فلسطين ليست معروضة للبيع، ولا يجري عليها ما جرى لجزيرتي تيران وصنافير، وليس هناك «الصديق هنري» كيسنجر، والأرض الفلسطينية كغيرها من الأراضي العربية ليست للتنازل، ولا يحمل أحد تفويضا بالتصرف فيها، ويجب التصدي لأي محاولة، كتلك التي حولت نصر 1973 العسكري إلى هزيمة سياسية، وما زلنا نتجرع كؤوسها على اتساع «القارة العربية»؛ تفكك وضياع، وعدم تماسك، وحروب مشتعلة من كل نوع، ومن المطلوب تقدير مخرجات الهبة المقدسية، ودلالتها كأول هبة من هذا النوع غطت كل فلسطين، ورفضت ما نصت عليه «صفقة القرن» وأعطى رئيس أمريكي أرعن نفسه حق، طلب بسط سلطان اليهود على الجولان والضفة الغربية، وبذلك أعطى من لا يملك حقا لمن لا يستحق، وكأنه اراد تأكيد الطبيعة الاستيطانية لنشأة أمريكا، وقيامها على الاستئصال والتطهير العرقي للسكان الأصليين.
وعلى «المشير» ألا يتعامل مع الهبة المقدسية تعامله مع تيران وصنافير، ومع سد النهضة، أو في تصفية القلاع الصناعية العملاقة وآخرها مجمع الحديد والصلب بضاحية حلوان؛ الشهر الماضي، وهناك أخبار عن مبلغ 500 مليار دولار تبرع بها «المشير» من «صندوق تحيا مصر» ومصدر المال خليجي، وهذا في حاجة لتدقيق، وإذا كان صحيحا، فهناك محاذير في استخدام أموال هذا الصندوق لعدم خضوعه لأي رقابة من خارجه، ولا أن يكون ساترا لأي عوار؛ مصري أو خليجي، وإذا ثبتت صحة هذه الأخبار، فهذا يصنف من قبيل غسيل السمعة، ومكافأة الدولة الصهيونية على عدوانها المدمر على غزة، والأضرار التي لحقت بالبنى التحتية والفوقية وممتلكات سكانها؛ تتحملها تل أبيب بالكامل، هذا غير الشهداء؛ من الأطفال والنساء وكبار السن، وإذا ما كان ذلك حقيقيا، فيحسب عليه وليس له!!.

القدس العربي