• 11 تشرين الثاني 2021
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : إبراهيم نصر الله 

 

في «الملتقى الدولي الأول بتقنية التخاطر عن بعد: سرد تحت الاحتلال، قراءة في المنجز السّردي الفلسطيني»، التقت خلال هذا الأسبوع ستّ مؤسسات ثقافية لتنظيم هذه التظاهرة، هي: وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر، وجامعة أحمد زبانة بلغيزان، وكلية الآداب جامعة بابل- العراق، والمنتدى العربي التركي، والمدرسة العليا لأساتذة-مستغانمي، وقد استجاب لنداءِ تأمُّلِ ودراسةِ السّرد الفلسطيني 22 من أستاذات الجامعات وأساتذتها من الجزائر والمغرب والسعودية، والدكتورة الناقدة جهينة الخطيب من فلسطين، ببحثها حول الرواية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، ورئيس جامعة أحمد زبانة، ورئيسة الملتقى ومنظموه، ومديرو جلساته، والأستاذة الجامعية المشرفة على المخبر العلمي، وإلى ذلك كاتب هذه السطور الذي كان ضيف شرف للمؤتمر.

إنه عدد كبير من المؤسسات والأفراد الذين يجتمعون في تظاهرة ثقافية تكتسب معنى مضاعفاً في وقت تنفضّ فيه أنظمة التصهين عن فلسطين وقضيتها، بل وتتكالب مع العدو وتتحد في جبهة واحدة في الحرب على فلسطين، ثقافياً وسياسياً وإنسانياً وتاريخياً.

من حقّ المرء أن يعتز بملتقى كهذا، وبمشاركة واسعة كهذه، ومن حقّ هؤلاء جميعاً، الذين يقدمون أنفسهم جزءاً من الشعب الفلسطيني وأحلامه وتوق جماله للحرية، أن تقول لهم فلسطين والثقافة الفلسطينية شكراً، هم الذين لا ينتظرون هذا الشكر، وهم ينطلقون من موقف مبدئي: نحن لا نقف مع فلسطين لأننا فلسطينيون أو عرب وحسب، ولكننا نقف معها لأنها امتحان يومي لضمير العالم.

لم يتخلَّ الفلسطيني عن روايته وذاكرته، ولم يقبل في أي يوم من الأيام أن ينسى، وهو يعرف أن النسيان هو الموت، وما تجدد هذه القضية واستمرارها إلا تجدّد حكاياتها وذاكرتها وجمال شعب يؤكد للعالم أنه لا يستطيع أن يموت، ولا يستطيع أن يتوقف، ولا يستطيع أن يُلقي بروحه وتوقه للحرية كما ألقت سلطة أوسلو بكل أشكال النضال أرضاً واستسلمت.

ولا يستطيع الفلسطيني ومن معه من أحرار في العالم العربي ومثقفيه مثل هؤلاء الذين شاركوا في هذا الملتقى، أن يصمتوا أمام أنظمة مهرولة للتطبيع لم تُلق بنادقها التي لم تُشهر ذات يوم وحسب، بل تضع هذه البنادق بين أيدي جيش العدو وقادة الإجرام والعنصرية.

يشعر المرء بالاعتزاز وهو يستمع في هذا المؤتمر إلى هذا المستوى الراقي من الأبحاث، الذي يتأمل مسارات السرد الفلسطيني بيقظة ودقة متابعة، متخلّياً عن أدوار كسولة عانى منها النقد باكتفائه بما أنجزه الفلسطينيون من سرد قبل أربعين عاماً. في الملتقى، يستمع المرء لدراسات عن أعمال بعضها صدر حديثاً جداً، وبعضها لأسماء جديدة لم تأخذ حقها بعد، وبعضها عن أسماء أضافت للرواية الفلسطينية مذاقات أخرى بعد الرّواد، ويستمع أيضاً إلى دراسات عن تجارب الرواد الكبيرة التي أسست لسرد مختلف، ورؤى مختلفة، ومستويات فنية عالية حملت الجوهر العميق للقضية الفلسطينية إلى أفقه الإنساني العالي.

من استمع للمداخلات سيسعد كثيراً بالدفء العاطفي أيضاً في الدراسات، فالحديث عن نص فلسطيني يحتضن القضية بمستوى عال، يختلف عن تشريح نص أقرب ما يكون إلى تشريح إنسان حيّ، مادياً، للتأكد من أنه حي! وقد عانى كثير من النصوص الفلسطينية والعربية من هذا البرد النقدي؛ هذا النقد الذي كان في أفضل حالاته يلعب دور المريض الذي يتفنن في تقطيع أوصال ما هو مُعافى ليثبت أن مرضه أكثر عافية من الحياة.

هذه التظاهرة التي احتضنتها الجزائر مساحة حرة لاحتضان حرية فلسطين وثقافتها، ودور هذه الثقافة التي لم تبلغ هذا المستوى الرفيع مصادفة، عربياً وعالمياً، بل نمت واخضرّت في تربة فلسطينية خصبة منذ ما قبل النكبة، وقدمت للعالم العربي أسماء كبيرة في الشعر والنقد والسرد والفنون، دفعت أديب مصر إبراهيم عبد القادر المازني أن يقول في ذلك الزمان: «إذا لم تعترف بك فلسطين كاتباً فلن يعترف بك العالم العربي». فلسطين التي كانت (تستهلك) ثلث المطبوعات المصرية من مجلات وكتب قبل النكبة، كما يقول المؤرخ الدكتور جوني منصور.

يكتب المرء هذا كله وهو يعرف أن فلسطين بحاجة اليوم لهذه المحبة، فهي محبة غنية لا ببعدها الرمزي وحسب، بل ببعدها العملي، فقد بات بعيداً ذلك الزمن الذي قال فيه محمود درويش «أنقذونا من هذا الحب»، ففلسطين بحاجة اليوم، وقد قطع أدبها وفنها أشواطاً كبرى، وأصبحا جزءاً راقياً من الأدب والفن في كل مكان، في حاجة لأن تحظى بهذا الحب في زمن ينفضّ فيه نخاسو أنفسهم وضمائرهم وتاريخ شعوبهم عنها ويتنمرون بكل ما في الذل من خنوع على عزتها وجمالها.

وبعــد:

في رواية «تحت شمس الضُّحى» يجيء على لسان إحدى شخصياتها: نحن بحاجة لأن نقول لأنفسنا قبل سوانا إننا لم نـزل جميلين، رغم كل سنوات الموت التي عشناها تحت الاحتلال. بصراحة، جمال كهذا، ولو كان رمزيّاً، يجعل الإنسان يحسّ بأنه كان فوق الاحتلال لا تحته.. أن فلسطين فوق الاحتلال..

هذا الملتقى الرائع يؤكد أن من شاركوا فيه بسعة قلوبهم وعقولهم، وكثراً غيرهم، كانوا فوق الاحتلال، هم الذين أكدوا أن السّرد الفلسطيني فوق الاحتلال رغم كل معاناته من استمراره.

 القدس العربي