• 8 آذار 2024
  • أقلام مقدسية

 

 

 

 

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

” لكل مثل مقام ومقال” لم تطلق عبثاً أو جزافاً وإنما كانت ردة فعل لما يجري من أفعال على أرض الواقع ليست في مكانها الصحيح ولتضع الأمور في نصابها وتصوب المسار وتؤخذ منها الحكمة والعظة وتجنب في طرحها مواطن الخطأ والوقوع فيه وتصلح ذات البين فهي حلاوة وطراوة بحد ذاتها  ورغم بساطتها ففيها الكثير من العبر والدروس المستفادة وقد صيغت هذه الأمثال نتيجة التجربة ومعاركة الأيام وحوادثها وقد تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل بالتواتر الشفهي  وقد زيد عليها أمثال أخرى حسب الحوادث ووقوعها أو عدّل عليها بقالب آخر وصياغة جديدة حتى وصلت إلينا بهذا الشكل .

«مالي أسمع جعجعة ولا أرى طحينا»

مثل جاهلي يضرب لكثير الصخب بلا فائدة

يضرب للشخص الذي قوته كلها في لسانه اي انه يتحدث من دون ان ينجز اي شي تضرب عند كثرة الخطب والمظاهرات والكلام دون أفعال حقيقية ودون مواقف فحينها يقول أسمع جعجعة من كثرة ما سمع من الكلام الفارغ من مضمون حقيقي فلا يرى طحناً أى فعالاً  

والمثل جعجعة بلا طحن هو اسم واحدة من مسرحيات شكسبير المهمة حيث يترجمها البعض - ضجة بلا فائدة - او - ضجة فارغة- او حتى تحت اسم - اشاعة كاذبة – ولكن يظل جعجعة بلا طحن هو اول اسم عرفت به  

في قرية صغيرة ريفية عاش رجل قصير القامة جاف الملامح اشتهر بين قومه بالفساد والمجون حتى انه كان يأتي الفحش والنهب والسرقة علناً في كبد النهار على مسمع ومرأى الناس كلها غير مبالي وغير مهتم بنظرات الكره وكلمات الغضب والتي تلقى عليه يوما بعد يوم

أما عائلته فذاقت ويلات الألم وأنواع الذل والمهانة صنوفاً صنوفاً صابرين على بخله وشح يده فاقدين أي أمل في إصلاح مسيرته الفاجرة 

ذات يوم اجتمع أبنائه الخمسة   بعد أن بطش بأكبرهم بطشة أطاحت بعينه اليمنى تماما.  بدؤوا يفكرون في طريقة تخلصهم مما هم فيه   من هذه المعاناة الحية   أو حتى سبيل يجعلهم يحصلون على ابسط حقوقهم في الحياة   قال أكبرهم بعد ما وضع عصابة سوداء على عينه المفقوعة

نحن لن نرضى بالذل بعد اليوم.. سوف نجد طريقة تخلصنا من بؤسنا 

وقال اخر لا ألا تذكر عندما طلبت منه حذاء جديد ماذا فعل بك 

كانت أوسطهم سناً صبية ظهرت عليها ملامح الذكاء المبكر – او هكذا كانوا يعتقدون - وكانت هي الوحيدة البنت بين أربعة أخوة 

قالت لهم " لقد جاءتني فكرة جيدة كل واحد منا سوف يأخذ ورقة ويكتب بها كل ما يريد   كل ما يطلبه ليعيش سعيداً كل شيء يراه كئيب او يجعل حياته مريرة كل شيء كل شيء وسوف نعلن عصياننا لن نأكل ولن نشرب ولن ننظف البيت لن نحضر الحليب له ابدأ لن نجهز الطعام له ابداً ابداً  

وعندما يجد انه لا مفر من مواجهة متطلباتنا سوف يستجيب ويرضى بها 

صاح الأبناء في فرح فقد بدت لهم هذه الفكرة على أنها حبل الخلاص الذي سينقلهم إلى الجبهة الأخرى ويعيشون مثل باقي سكان البلدة 

انطلق كل منهم يبحث عن ورقة وقلم ليكتب قائمة ما يطلبه في هذه الحياة ليجعل حياته سعيدة.. أيضاً ما يجعلها تعيسة ولا يرغب فيه

هل تعتقدون انه حقاً سوف يفكر حتى في قراءة هذه القوائم المنتفخة بالمتطلبات؟؟ 

إن الحبر الأسود يكاد يغطي كل الأبيض في الورقة 

هكذا قال أصغرهم سناً وهو ينظر بدهشة إلى كل هذه الكلمات والطلبات والأشياء التي كدسوا بها أوراقهم في حين انه كتب سطر واحد فقط في قائمته 

جاءت ساعة وصول والدهم إلى المنزل وقد اتفقوا على كل شيء 

علقوا قوائمهم على جدران المنزل في مدخل الحجرة الأمامية ووقفوا ينتظرون قدوم والدهم الذي دقت خطواته عتبة المنزل بعد دقائق 

عندما دخل الرجل المنزل نظر إلى منضدة طعامه فلم يجد عليها شيء ووجد أبناءه واقفين متأهبين ليهتفون كأنهم في مظاهرة

اقترب من الورق المعلق على الحائط ببطء وقرأ أول سطر في أكبر ورقة عندها عرف ماذا يحدث

مرت الساعات التالية على الأبناء في رعب قاتل ورهيب فقد خاف كل منهم أن يلاقي مصير الأخت التي وضعها والدها في (الفلكة) بمجرد أن علم أنها سبب كل ما حدث واخذ يضرب ويضرب في بطش وقوة حتى سال الدم من قدمها وهذه البنت مختفية الان وبالطبع لم يتدخل أحد من أهل القرية التي اجتمع معظمهم ليعرف سبب الصراخ والبكاء المنبعث من منزل الرجل   في منتصف الليل كان كل شيء هادئ وصامت نام الأبناء متحسرين على ضياع فكرة خلاصهم هباءً 

اما القوائم فقد ظلت معلقة على جدران المنزل المظلم لا يحركها ساكن ولا يداعبها أمل إلا هذه الورقة الصغيرة ذات السطر الواحد التي لم يثبتها الصغير جيداً فطارت في الهواء متحررة وقد بدت حروفها واضحة من كل جوانبها

قال الأصمعي: من أمثال العرب “أسمعُ جَعْجَعَة ولا أرى طِحنًا” أي: أسمع جَلبة ولا أرى عملاً ينفع وجاء في كتاب مجمع الامثال لأبو الفضل الميداني ص160 - المكتبة الشاملة أي أسمعُ جَعْجَعَةً، والطِّحْنُ: الدقيق، فِعْل بمعنى مفعول كالذَّبْح والفِرْق بمعنى المذبوح والمفروق.

هذه العبارة مَثَل ومعناها الأصلي أسمع صوت الرّحى يدور دون أن أرى طحينا لكن تجاوزت كلماتها معناها الأصلي إلى معنى آخر بلاغي وهو أسمع جَلَبَة ولا أرى عملا ينفع وهو يقال: لمن يكثر من الكلام ولا يعمل ويكثر من الوعود ولا ينجز وهذا التعبير اصطلاحي ناشئ من التركيب والمجاز أي أنَّ هذه العبارة ارتقت بلاغيّا وشاع استعمالها وصارت مؤثرة في النفوس.

والجعجعة هي صوت الطاحونة الحجرية الفارغة التي لا يتمخض عنها طحن، فهو مثل يضرب لمن يتحدث كثيراً ولا يعمل، أو يَعِدُ ولا يَفي بوعده. والفارغ هو من يحتاج إلى الصوت العالي ليلفت إليه أنظار جلسائه. ولذا يوصف الكلام عديم الجدوى بـ«الكلام الفارغ»، وهي إهانة بالغة لا يدركها الفارغون

جَعْجَعَةً ولاَ أرَى طِحْناًأي أسمعُ جَعْجَعَةً، والطِّحْنُ: الدقيق، فِعْل بمعنى مفعول كالذَّبْح والفِرْق بمعنى المذبوح والمفروق.

وقصّة وحكاية للمثل 

قام البدو في العصر الجاهليّ باحتلال بئر لبني ثعلبة، وكان سيّد القوم غائباً، وعندما حضر شيخ القبيلة جمع القوم وقال لهم: 

ما أنتم فاعلون في إعادة البئر؟   

منهم مَنْ قال: سأشتري السلاح، وآخر سأحمل السيف، وذاك الرمح، وذاك العصا، وآخر وآخر

وبعد أيّام اجتمع بهم سيّدهم وسألهم: ماذا فعلتم لإعادة البئر من الغزاة البدو؟ 

فكرّروا وعودهم وأقوالهم دون أن يفعلوا شيئاً، فقال سيّدهم: 

ما لي أسمعُ جَعْجَعة ولا أرى طِحْناً.  

ﻭﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻨﻲ ﺃﺳﻤﻊ ﺟﻠﺒﺔ ﻭﻻ ﺃﺭﻯ ﻋﻤﻼً ﺃﻭ ﻧﺘﻴﺠﺔ.

ﻳُﻀﺮﺏ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﻟﻠﺠﺒﺎﻥ ﻳﻮﻋِﺪ ﻭﻻ ﻳﻮﻗﻊ، ﻭﻟﻠﺒﺨﻴﻞ ﻳﻌﺪ ﻭﻻ ﻳﻨﺠﺰ، ﻭﻓﻲ ﺃﻳﺎﻣﻨﺎ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻳﺜﺮﺛﺮ ﺑﺪﻭﻥ ﻧﺘﻴﺠﺔ. ﻭﻗﺪ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ‏(ﻓﺼﻞ ﺍﻟﻤﻘﺎﻝ ﻓﻲ ﺷﺮﺡ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻷﻣﺜﺎﻝ) ﻷﺑﻲ ﻋُﺒﻴﺪ ﺍﻟﺒﻜﺮﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﺷﺮﺡ ﻓﻴﻪ ﻛﺘﺎﺏ ‏( ﺍﻷﻣﺜﺎﻝ ‏) ﻷﺑﻲ ﻋُﺒﻴﺪ ﺍﻟﻘﺎﺳﻢ ﺑﻦ ﺳﻼّﻡ: 

" ﺃﺳﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺣﺠﺮ ﺍﻟﺮَّﺣﻰ ﻭﻫﻮ ﻳﺪﻭﺭ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺃﺭﻯ ﻃﺤﻴﻨًﺎ ". ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻧﻲ ﻓﻲ ‏(ﻣﺠﻤﻊ ﺍﻷﻣﺜﺎﻝ ‏) ﻓﻘﺪ ﺫﻛﺮ: " ﻭﺍﻟﻄﺤﻦ ﺍﻟﺪﻗﻴﻖ ﻓِﻌﻞ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﻔﻌﻮﻝ ﻛﺎﻟﺬِّﺑﺢ ... ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﺬﺑﻮﺡ- ﻳﻀﺮﺏ ﻟﻤﻦ ﻳﻌﺪ ﻭﻻ ﻳﻔﻲ. وحال الأمة اليوم انطبق عليهم قول الله عز وجل 

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول   “اللهم هذا حالنا لا يخفى عليك وهذا ضعفنا ظاهر بين يديك اللهم عاملنا بالإحسان إذ الفضل منك وإليك يا أرحم الراحمين ارحمنا

وحال الأمة اليوم انطبق عليهم قول الله عز وجل

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

فمنهم ‏{‏مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ‏}‏ من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلك، ‏{‏مَغْرَمًا‏}‏ أي‏:‏ يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه اللّه، ولا يكاد يؤديها إلا كرها‏.‏

‏{‏وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ‏}‏ أي‏:‏ من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون فيهم دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء‏.‏

وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، ‏{‏وَاللَّهُ سميع عليم‏}‏ يعلم نيات العباد، وما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص وغيره‏.‏